التشويش الديني – السياسي واستغلال العواطف الدينية في تخليف الوطن
لزوم ما يلزم
من أبجديات أي ثقافة ديمقراطية ممارسة النقد وقبول الاختلاف والنظر بموضوعية للنقد وعدم شخصنة المواقف بسبب النقد. ولكن في الحالة السودانية هناك تابوهات أو محرمات قمعية تمارسها بعض الكيانات والأحزاب السياسية السودانية في أقصى اليمين وأقصى اليسار أيضاً، إذ من المخاطر نقد حزب الأمة أو طائفة الأنصار أو الإمام الراحل السيد الصادق المهدي – عليه الرحمة -، وفي اليسار يجب تجنب نقد الحزب الشيوعي أو الحركة الشعبية والآن ظهرت الجبهة الثورية باتهامات جاهزة بالعنصرية والتهميش وهيمنة الثقافة العروبوإسلاموية. هذه ظاهرة خطيرة ومعوقة لأي تطور ديمقراطي صحي.
تعرضت لتجربة أو محنة بسبب نقد وجهته للإمام الراحل رغم أنني أحترم الرجل على المستوى الشخصي والإنساني ولكنني على مستوى رجل الدولة والسياسة أعتبره فاشلاً لأنه لم يقدم حلولاً لمشكلة الوحدة الوطنية والسلام ولا للتنمية، وظل مفكراً نظرياً لأنه رغم حكمه البلاد لثلاث مرات ولكنه لم يعقد مؤتمراً للسلام ولم نسمع أن السيد رئيس الوزراء المنتخب قد افتتح مصنعاً أو دشن مشروعاً زراعياً استراتيجياً. كتبت نقداً موضوعياً عن الإمام الراحل فأثار ذلك غضب الأصدقاء في حزب الأمة وأرسل إليّ أحد (إيميل) يحتج أنني شتمت السيد الإمام، وقد أساء هذا الشخص من حيث لا يدري. لأن شتم الناس يعني أنني عديم التربية وعدواني ومعقد، فأنا لا أعرف الشتم والأعلى من قدر الإنسان عندي هو الإنسان كما قال الشاعر. ومن ناحية أخرى امتد الموقف إلى مركز الدراسات السودانية، فقد كان حزب الأمة يزود مكتب المركز بالإصدارات الجديدة للسيد الإمام والحزب، هذه المرة ظهرت طبعات جديدة من مؤلفات الإمام ولكن المركز لم يحظ بأي منها بسبب سوء أدب مديره.
وأكتب هذه المقال وأخشى من التشنج والاتهامات المجانية، مؤكداً أن هذه الكيانات والشخصيات طالماً تعمل في المجال العام فهي ليست مقدسة بل هم بشر عاديون ليسوا معصومين من الخطأ وليعرفوا قدر أنفسهم.
متن المقال:
أصدرت هيئة شؤون الأنصار بياناً الأسبوع الماضي تعقيباً على اتفاق جوبا بين البرهان وعبدالعزيز الحلو، جاء فيه بالنص: “إن الدين الإسلامي لا يقر الإكراه ولا يفرض شعائره وأحكامه على غير المؤمنين وبنفس القدر لا يقبل أن تفرض على المؤمنين به مفاهيم وأحكاماً تتصادم مع عقيدتهم وقيمهم وتسلبهم حقهم الديني والثقافي والسياسي”. هذه لغة وخطاب يهدف للتهييج وإثارة العواطف الدينية وخلق أجواء من التشويش الديني والسياسي. وإلا فإننا نطلب من الجهة التي أصدرت البيان أن تحدد لنا بدقة احتراماً لعقولنا، ما هي البنود التي تعبر عن فرض مفاهيم وأحكام تتصادم مع عقيدة وقيم المؤمنين، كذلك ما هي النقاط في الاتفاق التي تعبر عن سلب المؤمنين حقهم الديني والثقافي والسياسي؟. أتمنى صادقاً أن يكون الذين دبجوا هذا البيان صادقين ومتسقين مع ضمائرهم بعيداً عن التشويش والتدليس وأن يذكروا صراحة المفاهيم والأحكام التي تتعارض مع الدين الإسلامي في الاتفاق.
والمزعج في الأمر هو أن حزب الأمة لم يعارض الاتفاق بل ثمنه إيجابياً، بينما هيئة شؤون الأنصار وكأنها هيئة مستقلة عن الحزب تصدر مثل هذا البيان الغريب، فهذه أيضاً عملية من التضليل والاستهبال السياسي الذي تمارسه علينا أحزابنا التقليدية الكبرى. لذلك المطلوب ليس فصل الدين عن الدولة بل فصل الدين عن السياسة لكي تكون السياسة سياسة والدين دين، وبالتالي يحافظ على قدسيته وطهارته دون أن يتلوث بألاعيب وخبث السياسة الحزبية السودانية. فالعلمانية تضع الدين في مكانه الصحيح والمفيد للبشر دون أن يستقل ويوظف لأغراض سافلة ولنا في تجربة حكم الإخوان المسلمين عظة وتجربة يجب ألا تتكرر بعد أن تسببت في تخليف السودان (الخلف المقصود).