التعليم في السودان القديم (2)

 


 

 

أشرنا في المقال السابق الي دور التعليم في تطور المجتمع وكاستثمار بشري ، و ضرورة دعم الدولة للتعليم ورفع ميزانيته ( الميزانية الحالية للتعليم لا تتجاوز 1%) ، وتوفير مقومات التعليم من: اساتذة وكتاب ومكتبات ومعامل، ونشاط مدرسي مصاحب للعملية التعليمية والتربوية ، وتحسين واستقرار وضع المعلمين المعيشي والمهنى ، وديمقراطية واستقلالية نقابات المعلمين واتحادات الطلاب، وحرية البحث العلمي والأكاديمي واستقلالية الجامعات، وتحسين بيئة المدارس ، وأن يكون التعليم شاملا ومجانيا وديمقراطيا ومتاحا للجميع غض النظر عن السكن في المدينة أو الريف أو الأصل الطبقي ، أو الدين أو النوع ، أو اللغة أو العرق ، وأن يكون شاملا للتعليم المهنى والاكاديمي ، ووضع الأساس لتعليم جيد ، باعتبار أن التعليم معيار لتقدم المجتمع في مختلف المناحى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، واصبح في عالم اليوم أداة جبارة واستثمار بشري لا يقدر بثمن لمستقبل البلاد والبشرية ، وكل التحولات الجارية في الميادين المختلفة ترجع الى تطور المعرفة والتعليم التى راكمتها البشرية خلال سنوات طويلة ورتبتها في حقائق منطقية منظمة تناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل الى أن وصلتنا بعد ان اضفنا اليها الجديد المبتكر في عالم المعرفة والحضارة..

التعليم في السودان القديم
في السودان القديم لم يكن التعليم معزولا عن المجتمع منذ العصور الحجرية وحتى نشأة الحضارة السودانية في ممالك كرمة ونبتة ومروي، كما في بقية أنحاء العالم في تطور الزراعة وتربية الحيوانات والصناعة الحرفية وفنون التجارة والعمارة واللغة المكتوبة، وعلم الفلك ، وفنون الحرب والرسم والنحت والموسيقي.الخ

1
فمنذ عصور ما قبل التاريخ ( العصر الحجري ) ترك التعليم والتدريب النابع من الممارسة وحاجات المجتمع ، سواء اليدوي أو الذهني بصماته علي نشاط الانسان السوداني في العصور الحجرية ، كما أوضحت الحفريات التي قام بها علماء الآثار في خور أبي عنجه ، والشهيناب والخرطوم وما عثروا عليه من آثار تلك الحفريات ، نجد أن الإنسان السوداني عاش علي الصيد وجمع الثمار ،كما استخدم أدوات إنتاج مصنوعة من الخشب والحجر والعظام واكتشف في مراحل متقدمة تقنية النار التي طهي بها الطعام ، وحمي بها نفسه من الحيوانات المفترسة، كما عرف صناعة الفخار وبناء المسكن من الأجر (الطين)في العصر الحجري الحديث بدلاً من السكن في الكهوف أو جذوع الأشجار الضخمة.
كان هذا الإنسان يتعلم ويتدرب ويتطور مع تطور التقنية وأدوات الإنتاج ،ومع وجود فائض من الأغذية (فائض اقتصادي) يساعده علي أيجاد وقت الفراغ اللازم لتنمية مهاراته وصناعاته الحرفية الأخرى. ودار فن ونشاط الإنسان في تلك العصور حول الصيد، فنلاحظ رسوم الحيوانات علي الكهوف، وفن الرقص والدراما الذي يدور حول الصيد. وقياساً علي ما حدث في اغلب المجتمعات البشرية القديمة.
( للمزيد من التفاصيل راجع، تاج السر عثمان : الدولة السودانية : النشأة والخصائص ، الشركة العالمية 2007).

2
في نهاية العصر الحجري الحديث (النيوليتي)، تطور التعليم والتدريب مع اكتشاف الزراعة وتربية الحيوانات، وتطور التجارة والصناعة الحرفية ، أي بعد ما يُعرف الثورة "النيولوتية" ، وهي أول ثورة اقتصادية عرفها الإنسان ، والتي تم فيها الانتقال من مجتمع يقوم اقتصاده علي الصيد والتقاط الثمار إلى مجتمع زراعي رعوي .
وفي حضارة المجموعة (أ) وحضارة المجموعة (ج) اللتين أشار أليهما علماء الآثار بعد العصور الحجرية ، نجد أنفسنا أمام تشكيلة اجتماعية انتقالية ، ونلاحظ أن الإنسان السوداني مارس الزراعة والرعي بدرجات متفاوتة في تلك الحضارتين ، ولاريب أن انتقال المجتمع السوداني من تشكيلة اجتماعية بدائية ، كانت تقوم علي الصيد والتقاط الثمار إلى مجتمع زراعي رعوي اخذ فترة تاريخية طويلة ومعقدة.
من خلال عمليات التبادل التجاري كما أوضحت أثار حضارة المجموعة (أ) ، نلاحظ أن تلك الحضارة عرفت الفائض الاقتصادي .كما عرفت تلك الحضارة استخدام المعادن تلك التقنية المتطورة التي ارتبطت بمرحلة ارقي من العصر الحجري فيما يختص باستخدام المعادن (نحاس، برونز،..الخ.) بدلاً من استخدام الخشب والحجر والعظام وصناعة الأواني وأدوات الزينة وأدوات الإنتاج كما يظهر لنا من وجود المواد المصنوعة من النحاس ضمن مخلفات أثار تلك الحضارة .وطبيعي انه مع اكتشاف الزراعة وتربية الحيوانات أن قبائل وشعوب تلك الحضارة بدأت تشهد بذور الفوارق الاجتماعية نتيجة التفاوت في امتلاك الفائض من الغذاء في و ملكية الماشية كما أن الدولة لم تتبلور بشكل واضح في حضارة المجموعة (أ) لسبب الانخفاض في الفائض الاقتصادي وضعف أو بدايات بذور الفوارق الطبقية ،وبالتالي لم تظهر السلالات الحاكمة والتي أصلا تعيش علي إنتاج الفائض ، وتكون مهامها ممارسة الحكم وشئون السياسة مع الموظفين والكهنة ، وفيما يختص بالبنية الفوقية أو البنية الثقافية - الفكرية ، نلاحظ أن حضارة المجموعة (أ) لم تعرف اللغة المكتوبة ، وربما حدث تطور في فنون تلك الحضارة نتيجة لاكتشاف الزراعة فالرقص يعبر بشكل من الأشكال عن العمليات الزراعية من بذر وحصاد كما أن الرعي وتربية الحيوانات كان له أثره علي رسوما تهم وفنونهم ورقصهم وأغانيهم ودياناتهم كما أن الانتقال إلى مجتمع زراعي رعوي ارتبط ايضاً بتطور دياناتهم الوثنية التي ارتبطت بحياتهم نفسها مثل ألا لهه التي تنزل الأمطار فتسقي الزرع والضرع وخوفهم من غضبها الذي يتجلي في الجفاف وانحسار النيل أو الفيضانات المدمرة هذا إضافة لتطور الديانات الوثنية المرتبطة بالأيمان والخلود والحياة بعد الموت كما نلاحظ ذلك من الأشياء والطعام الموجود مع الموتى في الجبانات والتي ترتبط بالمجتمعات الزراعية الرعوية ( بقر ، خيول ، خبز ، لبن.الخ) وكانت الديانات تتطور مع تطور المجتمع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي .أما سكان حضارة المجموعة (ج) فقد اتضحت لنا طبيعتهم الرعوية كما يظهر من اهتمامهم الشديد بالأبقار التي رسموها علي الصخور وشكلوها من الطين ورسموها علي أسطح انيتهم كما نلاحظ أن منازلهم كانت من الخيام والقطا طي وغير ذلك مما يتطلبه الترحال من وقت لاخر. ( تاج السر عثمان، الدولة السودانية مرجع سابق)
هكذا نلاحظ تطور المجتمع السوداني والتعليم والتدريب الذي كان يعيش حالة المخاض ليشهد ميلاد الحضارة السودانية وانه كان يعيش مرحلة انتقالية طويلة ومعقدة من مجتمع بدائي إلى مجتمع زراعي رعوي وان التشكيلة الاجتماعية الانتقالية بدأت تشهد بذور الفوارق الاجتماعية الطبقية وبدايات الإنتاج الفائض وعمليات التبادل التجاري مع المملكة المصرية المجاورة وبدايات استخدام المعادن وغير ذلك من بذور التطور الحضاري .

3
مملكة كرمة:
التراكمات الحضارية السابقة آدت إلى تحولات نوعية، فقد شهد سودان وادي النيل اقدم دولة سودانية هي مملكة كرمة كان ذلك نتاج التطور واتساع الفروق الاجتماعية وظهور الطبقات المالكة والتي كانت من وظائفها حماية امتيازات ( ملوك ، كهنه، إداريين ، موظفين،.الخ) وحماية التجارة وبسط الأمن وبالتالي ظهر الجيش ليقوم بتلك الوظائف وتحت ظل هذه الدولة شهد السودان قيام أول مدن كبيرة وشهد أول انقسام بين المدينة والريف كما تطورت التجارة مع المملكة المصرية وتطورت الصناعة الحرفية مثل الفخار ، السلاح، العناقريب أدوات الزينة ..الخ. وشهد السودان أول انقسام طبقي وعرف المجتمع طبقتين أساسيتين : الطبقة المالكة التي تشمل الملوك، وحكام الأقاليم، والكهنة، والإداريين، والموظفين، والتجار، وطبقة الشعب التي تضم المزارعين، والحرفيين، الرقيق ، الرعاة. كما عرفت دولة كرمة الفائض الاقتصادي الناتج من تطور الزراعة والرعي والتجارة والصناعة الحرفية ويتضح ذلك من الاكتشافات الأثرية التي أمدتنا بمعلومات عن التطور في تلك الجوانب .وعلي أساس هذه القاعدة الاقتصادية ولعوامل متداخلة ومتشابكة دينية وسياسية نشأت الدولة ويبدو أن تراكم الفائض الاقتصادي في يد الكهنة من العوامل التي أدت إلى قيام الدولة ونشأة المدينة التي قامت حول معبد أو مبني ديني ويتضح ذلك من الأراضي الزراعية التي كان يملكها الكهنة والتي كانت تمد الدولة والمعابد بالاحتياجات.
ويفيدنا عالم الآثار شارلس بونية في مؤلفه (كرمة مملكة النوبة) . بان المدينة عرفت التنظيم الإداري وبوجود ملك علي قمة المجتمع وكهنة وطبقات واداريين في المدينة والريف وكان قادة الجيش جزءاً من الطبقة الحاكمة .كما تطور فن الحرب كما يتضح من خلال بناء الحصون والخنادق والأسلحة ( سيوف ، خناجر ، سهام ) قامت الدولة بتنظيم النشاط التجاري وكانت الأساطيل البحرية القادمة من وسط إفريقيا أو من المناطق القريبة من البحر الأحمر ( في الآثار وجدت نماذج من المراكب من الطين أو الحجر) ويمتلك البحارة عدداً من المراكب المتنوعة التي صنعت من خشب السنط أو الحراز إضافة للنقل النهري كانت هناك القوافل المؤلفة من الرجال والدواب تحت حماية عسكرية ، وفي التبادل التجاري مع مصر ،هناك عدد من البضائع المنتجة بالمصانع المصرية ، تتوجه نحو كرمة كذلك المواد الغذائية المعبئة في جرار. وعرفت كرمة الطبقة التجارية التي كانت تتكون من مجموعة المصريين المستوطنين بكرمة .( شارلس بونية ، كرمة مملكة النوبة ، دار الخرطوم للطباعة والنشر 1997 ، ترجمة احمد محمد علي حاكم وإشراف : صلاح الدين محمد احمد.).
أشار بونيه إلي أن الكهنة كانوا يمتلكون ثروة كبيرة وهذه الثروات مع نفوذهم الديني مكنت لهم في الأرض، ووجد الكهنة وقت الفراغ الذي جعلهم يفكرون آو ربما كان لهم علم بالفلك وأسرار بعض الصناعات والهندسة.الخ وكان لهم تنظيم إداري دقيق جعلهم يتمكنون من جمع الزكاة أو الهدايا من المواطنين ، كما توضح السلال والأختام والصناديق الخشبية ،كان من وظائف الكهنة مساعدة الفقراء والمحتاجين من الفوائض الاقتصادية والعينية التي كانت تصلهم ، وربما كان المعبد الكبير ضمن مخلفات آثار تلك الحضارة ، وبحكم وضعه الديني كان التجار والأغنياء يحفظون فيه ثرواتهم وبضائعهم النادرة .
واخيراً لا نعرف شيئا عن البنية الفوقية ( الثقافية ـ الفكرية) لمملكة كرمة لان الآثار لم توضح لنا إن ملوك كرمة تبنوا اللغة الرسمية مكتوبة وبالتالي لم يتركوا وراهم أي سجلات تساعدنا في معرفة أسمائهم أو حدود مملكتهم ، واعمالهم ونشاطاتهم الأخرى ولكن نسمع عن ثقافة كرمة المتطورة التي نتجت عن الاحتكاك مع العالم الخارجي وتبادل الفنون وحاصل هذا التفاعل أدى إلى ثقافة كرمة المتطورة والمتميزة .علي إن حضارة كرمة لم يكتب لها الاستمرار ، إذ قضي عليها التدخل المصري في السودان في زمن الأسرة الثامنة عشر الذي عجل بنهاية مملكة كرمة فوقعت بلاد النوبة بين الشلال الأول والرابع تحت الاحتلال المصري.

4
مملكة نبتة :ـ
التطور الآخر في مسار الدولة السودانية والحضارة السودانية هو قيام مملكة نبتة (850 ق.م ـ300ق.م) التي اتسعت حدودها شمالاً وضمت في فترة معينة مصر نفسها وأسست الأسرة المالكة الخامسة والعشرون وكانت وظائف تلك الدولة هي جمع وتركيز الفائض الاقتصادي ، ومساعدة الفقراء والمحتاجين من الرعايا وخدمة الآلهة ببناء المعابد، وحفظ أمن المملكة من هجمات القبائل الصحراوية المجاورة ، وحماية مصالح الطبقات الحاكمة . كما تطور الانقسام الطبقي واتسعت الهوة بين الحكام والشعب كما يتضح من أن الملوك والحكام جمعوا ثروات ضخمة ويظهر ذلك من آثارهم سواء كان ذلك في بناء المعابد والتماثيل الضخمة أو امتلاك المعادن الثمينة ( الذهب ، الفضة ،.الخ ).
من الناحية الثقافية الفكرية ظل التأثير المصري قوياً في مملكة نبتة فمثلاً صار ملوك الآسرة الخامسة والعشرون يحملون الألقاب الفرعونية ويستعملون اللغة الهيروغليفية المصرية ويعبدون إلهة مصر (آمون ) لمدة طويلة . كان الكهنة يتحكمون في الدولة والملوك من زاوية أن الكهنة كانوا ينتخبون الملوك ويعزلونهم وكان بعض الملوك يصارعون ضد هذا التحكم.

5
مملكة مروي :ـ
كانت مملكة مروي (300ق.م -350م) تطوراً ارقي واوسع في التعليم والتدريب ، و مسار الدولة والحضارة السودانية ، وفيها تجسد الاستقلال الحضاري واللغوي والديني.
- في الجانب الاقتصادي: تطورت أساليب وفنون الرعي وتربية الحيوانات حيث ظهر اهتمام اكبر بالماشية وبناء الحفائر لتخزين المياه واستعمالها في فترات الشح.
- دخلت الساقية السودان في العهد المروي ، واحدثت تطوراً هائلاً في القوه المنتجة حيث حلت قوة الحيوان محل قوة الإنسان العضلية ، وتم إدخال زراعة محاصيل جديدة ، أصبحت هنالك اكثر من دورة زراعية واحدة.
- ازدهرت علاقة مروي التجارية مع مصر في عهود البطالمة واليونان والرومان ، وكانت أهم صادرات مروي إلى مصر هي: سن الفيل والصمغ والروائح والخشب وريش النعام بالإضافة إلى الرقيق ، وكانت التجارة تتم بالمقايضة.
- شهدت مروي صناعة الحديد الذي شكل ثورة تقنية كبيرة. وتم استخدامه في صناعة الأسلحة وأدوات الإنتاج الزراعية مما أدى إلى تطور الزراعة والصناعة الحرفية ، كما تطورت صناعة الفخار المحلي اللامع .
وفي الجانب الثقافي - الفكري شهدت هذه الفترة اختراع الكتابة المروية ،وكان ذلك خطوة كبيرة في نضوج واكتمال حضارة مروي، وظهرت آلهة جديدة محلية : ابادماك ،ارنستوفس , سبوي مكر .
تفاعل المرويون مع ثقافات وحضارات اليونان والرومان كما يتضح في فنون ونقوش المرويين في المعابد ، وكانت حصيلة التفاعل حضارة مروية سودانية ذات خصائص وهوية مستقلة ، كما تطورت فنون الرسم.والموسيقي نتيجة للتطورات الاقتصادية والثقافية والتفاعل مع العالم الخارجي .
نواصل

التعليم في ممالك النوبة المسيحية (3) .. بقلم: تاج السر عثمان
اوضحنا سابقا أن عملية التربية والتعليم ترجع جذورها الى السودان القديم وحضاراته الباذخة مثل حضارة مملكة مروي، وكتابتها المميزة التي تقف دليلا على قدم التعليم في السودان، وظل التعليم مستمرا بعد العهد المروي.
فقد شهد التعليم تطورا في حضارة النوبة في السودان الوسيط ( 500 – 1500م) التي عرفت قيام ممالك النوبة "نوباطيا ، المقرة، علوة” التي اصبحت مسيحية فيما بعد، ووتميزت بالازدهار الاقتصادي والثقافي ، وكانت البنية الاقتصادية مترابطة تقوم علي الزراعة والرعي والصيد والصناعة الحرفية والتجارة.
كما اتسمت البنية الطبقية للمجتمع النوبي بالتفاوت ، فقد كان المجتمع يتكون من طبقة الحكام والإداريين وقادة الجيش ورجال الدين والتجار والحرفيين" الحدادين، النجارين،. الخ"، والمزارعين والرقيق.
اما فيما يختص بالبنية الثقافية للمجتمع، فقد تميزت بتطورات مهمة حيث ازدهرت الثقافة النوبية التي تجلت في التحف الأثرية القيّمة من التصوير وتصميم الكنائس وصناعة الآواني الفخارية التي تدل علي مستوي رفيع للثقافة النوبية، كما تم التوصل الي تأليف ابجدية من الحروف القبطية واليونانية ، تم استخدامها في كتابة اللغة النوبية التي اصبحت لغة القراءة والتجارة والأدب والعبادة ( للمزيد من التفاصيل راجع ، تاج السر عثمان، تاريخ النوبة الاقتصادي – الاجتماعي ، دار عزة 2003).
ونتوقف هنا عند تطور الفن واللغة النوبية الذي يقف دليلا على تطور التربية والتعليم في حضارة النوبة المسيحية.
1
االفن النوبي:
من الحفريات التي قام بها العلماء في النوبة (1960 – 1970) اكتشف العلماء العاملون في مواقع مدينة فرص – النوبية السودانية كنيسة كاتدرائية تحت رمال كوم فرص بها تحف فنية رائعة من خلالها تم التعرف علي ما كان غائباً عن الثقافة والفن النوبي هذا إضافة للتحف القيّمة التي اكتشفت في سنقي وغرب ابريم ويتجلي ازدهار الثقافة النوبية في التحف الأثرية القيّمة من التصوير وتصميم الكنائس وصناعة الأواني الفخارية التي تدل علي مستوى رفيع للثقافة النوبية.
أورد الأب . ج. فانتيني مثالاً عن كنيسة فرص التي أعاد بناءها الياس مطران فرص بأسلوب جديد وميزته الرئيسية القبب بدل السقف المسطح وتم تزيين جدرانها الداخلية بصورة في غاية الفن والجمال كما يبدو من النماذج التي تم إكتشافها وهي محفوظة في المتحف القومي ( تم تدشين الكاتدرائية حوالي 952م) ويشير ذلك المثال إلي أن الأبحاث الحديثة أثبتت أن حوالي ستين كنيسة قد تم بناءها في أرض النوبة إقتداءً به ( للمزيد من التفاصيل راجع ،الأب جون فانتيني : تاريخ المسيحية في ممالك النوبة القديمة والسودان الحديث ، الخرطوم 1978)..
ومن أهم الصور التاريخية صورة الملك جرجة في كنيسة سنقي غرب ويظهر فيها هذا الملك تحت حماية السيد المسيح (عما نويل) والملك يرتدي كل الرموز التقليدية الدالة علي سلطانه ومن بينها التاج الذهبي المزدان بحجارة كريمة والقرنان وتتدلي منها سلسلتان وجرسان ويستنتج فانتيني من ذلك أن تنصيب الملك النوبي كان يتم بوضع التاج الذهبي علي رأسه.
تطور الفن والمعمار النوبيان وتم إتباع أسلوب جديد في بناء الكنائس فبينما كانت قديماً تبني علي أعمدة حجر الجارنيت المستدير بقطع كبيرة مستطيلة وكان عرض الكنائس مسطحاً أصبح (في القرن العاشر) بناء الكنائس علي أعمدة مبنية من الطوب الأحمر علي شكل مربع تستند إليه السطوح المقوسة مع القباب ( فانتيني، تاريخ المسيحية ، ص 121)
كان من عادة النوبة أن ترسم صور ملوكهم في الكنائس أما عن أسلوب الفن التصويري، فحسب فانتيني الذي قال عنه " أجمع العلماء المتخصصون علي أنه تابع للأسلوب البيزنطي، ويستنتج فانتيني من ذلك أن العلاقات بين النوبة والمملكة اليونانية كانت متعددة وذلك بسبب الحجيج من النوبة إلي الأماكن المقدسة بأورشليم ( القدس) وكانت العلاقات بين النوبة ولا سيما الرهبان النوبيين ومدينة القدس مثمرة، مفيدة بتطوير الفنون بالنوبة لأن أهل الفنون النوبية كانوا ينسخون النماذج البيزنطية ويكيفونها حسب الظروف المحلية وذوق مواطنيهم " وإذا صح استنتاج فانتيني هذا – وليس هناك ما يمنع من صحته – فيمكن أن نبني عليه استنتاجاً آخر وهو أن أهل النوبة تفاعلوا مع الفن البيزنطي الرفيع وهذا مثل جيد للأصالة والمعاصرة من التراث الفني النوبي فأهل النوبة كانوا معاصرين وفي الوقت نفسه لم يفقدوا أصالتهم وكيفوا الوافد إليهم من الخارج مع ظروفهم وبيئتهم. ولا شك أن هذا مثال من التعليم الجيّد الذي يربط الوافد بالبيئة المحلية..
أما عن صناعة الفخار وفن التصوير والفن المعماري في مملكة علوة فلم يتبق منها مع الأسف ما يكفي لمعرفة أنواعها وكل ما نعرفه عن مملكة علوة وحالة الكنيسة في هذه المملكة ما ورد في كتاب أبي صالح الأرمني – الذي أشرنا إليه سابقاً – حوالي سنة 1190م والذي ذكر أن في مملكة سوبا زهاء أربعمائة وتملك بعض الكنائس شيئاً كثيراً من الذهب في شكل صلبان وأواني وفيها الصور المقدسة.
كما أشار إلي الكنيسة منبلي بمدينة سوبا التي وصفها بأنها كبيرة وتحيط بها البساتين والمزارع، ويبدو أن أهالي علوة كانوا يبنون كنائسهم بالجالوص الذي لا يصمد مع مرور الزمن ولا يقاوم عوامل التعرية والأمطار وغير ذلك.
2
اللغة النوبية:
معلوم أن اكتشاف الكتابة في مصر تم حوالي سنة 3000 سنة ق.م وكان ذلك باللغة المصرية القديمة، والقارئ يعلم أنه توجد مجموعة من الكتابات باللغة المصرية تركها ملوك كوش ( نبتة ومروي) وهي عبارة عن لوحات من الحجر تحتوي علي سجل بأعمالهم في خدمة الآلهة أو بناء المعابد لها أو في خدمة رعاياهم بتوفير الغذاء لهم وضرب الأعداء المارقين (سامية بشير دفع الله ، التعريف بتاريخ السودان القديم ، مجلة الدراسات السودانية ، العدد 1 مجلد "10" ، ابريل 1990) .
منذ قيام مملكة نبتة كانت اللغة المروية هي لغة المخاطبة وقد كتبت لأول مرة في القرن الثاني قبل الميلاد منذ الثمانينيات من القرن الماضي وحتى الآن بذلت جهود كبيرة لحل رموزها، انتهت بنا إلي التمكن من قراءتها وفهم معاني بعض المفردات والتراكيب إلا أن الجهود لفهم قواعدها ونحوها فهماً كاملاً ما زالت متعثرة.( عبد القادر محمود ، اللغة المروية ، الجزء الأول ، الرياض 1986).
أستند النوبة في العصر الوسيط علي هذا التراث فنجد من ظواهر ازدهار الثقافة النوبية التوصل إلي تأليف أبجدية من الحروف القبطية واليونانية تصلح للاستعمال في كتابة اللغة النوبية لأول مرة في التاريخ، ويرى الأب فانتيني أن هذا تم في عصر الملك قرقي وحلفائه ولذلك تميز هذا العصر عن العصور السابقة له بكتابة الإنجيل والصلوات وبعض الكتابات التذكارية بلغة النوبة الوطنية وقل استعمال اللغتين القبطية واليونانية في الكتابات الرسمية.
وهذه واحدة من مظاهر الاستقلال الثقافي والأصالة الوطنية في النوبة المسيحية وهو امتداد لاستقلال وأصالة المرويين الذي استنبطوا لغتهم المكتوبة الخاصة بهم والتي أشار إليها عالم الآثار ب. ج هيكوك بقوله " إن لغة التخاطب في الحديث في نبتة ومروي السابقتين للنوبة كانت اللغة السودانية التي تطلق عليها اللغة المروية، إلا أنهم كانوا يكتبون تلك اللغة بالخط والحروف المصرية " الهيرغلوفية" ( الهيروغلوفية تعنى كتابة الكهنة)، وانتقلت تلك اللغة معهم إلي موطنهم الجديد في وسط السودان ( منطقة كبوشية ) ولقد تمكن الكوشيون (المرويون) بعد عدة قرون واجهتهم فيها صعوبات بالغة في كتابة تلك اللغة الأجنبية من أن يحدثوا ويبتدعوا طريقة مكنتهم من كتابة لغتهم السودانية في حروف أبجدية تبلغ ثلاثة وعشرين حرفاً.
طوّر النوبة هذا الجانب في حضارة مروي وأصبحت اللغة النوبية هي اللغة الأصلية في الوثائق المدنية مثل العهود والصلوات والإنجيل في الكنيسة، وكانت الحروف التي دونت بها اللغة النوبية مأخوذة من اللغتين اليونانية والقبطية وأدخلوا الفهرست لابن النديم ،يستعملون الحروف اليونانية في الكتابات الرسمية وفي كنائسهم.. ولكن المصادر لم توضح لنا عدد الحروف الأبجدية التي استخدمت في كتابة اللغة النوبية
( للمزيد من التفاصيل راجع، تاج السر عثمان : تاريخ النوبة الاقتصادي – الاجتماعي ، مرجع سابق). ذكر ابن الفقيه (المتوفى سنة 903م) أن الروم ( المقصود المسيحيين الروم) يقرأون الإنجيل بالملكية ( أي اللغة اليونانية) أما اليعاقبة (المسيحيون الأرثوذكس) فيهذون ( باليونانية ) دون إدراك تلك اللغة ثم يفسر القساوسة لهم بلهجاتهم المحلية.
لكن من جانب آخر فإن اللغة النوبية المكتوبة كانت خاصة بالملوك والكنيسة وجهاز الدولة ولم يتم تعليمها للجماهير بشكل واسع مما ساعد في اندثار هذه اللغة المكتوبة بعد أن عجزت عن إنشاء حركة ثقافية تعليمية في الشمال ويقول ترمنجهام " ما ساعد في مقاومة اللغة النوبية وبقائها أمام طوفان اللغة العربية أنها حولت إلي لغة تكتب بفعل القسيس في العهد المسيحي وظلت صامدة حتى الآن أمام التيار الجارف للغة العربية.
ونكمل ما أورده ترمنجهام مما ساعد علي بقاء اللغة النوبية هو تفاعلها مع اللغة العربية يقول د. عون الشريف قاسم بامتزاج العرب بالسكان الأصليين للبلاد من النوبة والبجة والقبائل النيلية والفوراوية وما إليها ترسبت في لغتهم مجموعات كبيرة من ألفاظ هؤلاء الأقوام بحكم المجاورة.، تأثرت بها القبائل الجعلية المستقرة علي النيل فنجد في صلب لهجاتها مجموعات كبيرة من الألفاظ النوبية والمصرية القديمة الدالة علي ذلك، وخير شاهد علي ذلك مصطلحات الساقية والأنواء والرياح التي تهب علي النيل شمالاً وجنوباً ( د. عون الشريف قاسم: قاموس اللهجة العامية في السودان ط 2 القاهرة 1985م، ص 24).
إذاً اللغة النوبية تركت بصماتها الواضحة علي اللغة العربية وكانت حصيلة ذلك التفاعل هي اللغة العربية السودانية أو اللهجات السودانية العربية المتميزة في شمال السودان، ويقول محمد متولي بدر كان بين العربية والنوبية صراع طويل الأمد كانت الغلبة فيه للغة العربية فاندثرت لغة النوبيين من السودان الأوسط بكامله وانكمشت رقعتها فانزوت في ناحية من بيئتها بين الشلال الأول والرابع (محمد متولى بدر ، اللغة النوبية، القاهرة 1955).
اختلف العلماء في أصل هذه اللغة فمنهم من قال أنها حامية الأصل كالنوبيين أنفسهم، ومنهم من يظن أن الصبغة الحامية هي الغالبة عليها سواء من ناحية المفردات أو النحو أو الصرف وعليه يرونها حامية الأصل دخلتها مؤثرات أجنبية حسب رأس راينش وموري..
وصفوة القول أن الثقافة والحضارة النوبية كانت عظيمة فيما يختص بالفنون واللغة المكتوبة ، وأن التعليم شهد ازدهارا لكن كانت اللغة المكتوبة صفوية، أي كانت متداولة وسط الكهنة والإداريين والكتبة في البلاط الحاكم، ولم تنتشر جماهيريا.

alsirbabo@yahoo.co.uk

 

آراء