التغيير الجذري للخروج من التبعية والتخلف (3) .. بقلم : تاج السر عثمان

 


 

 

1
لم يكن استقلال السودان من المستعمر الذي نهب ثرواته سهلا، فقد كان نتاجا لتراكم نضالي طويل خاضه الشعب السوداني منذ هزيمة الدولة المهدية، وإعلان دولة الحكم الثنائي الانجليزي – المصري عام 1898 ، بدأت مقاومة الشعب السوداني بانتفاضات القبائل في جنوب السودان وجبال النوبة ، والانتفاضات الدينية في أواسط وشرق وغرب السودان والتي كانت مستمرة في السنوات الأولى للحكم الثنائي، وبعد الحرب العالمية الأولى وحتى عام 1926 حيث تم إخضاع آخر القبائل الجنوبية المتمردة ( التبوسا ) ، وعام 1929 عندما تم قمع المعارضة نهائيا بقمع قبيلة الليرى في جبال النوبة ، وقبل ذلك كان إخضاع دار فور بهزيمة السلطان على دينار عام 1916 .
بعد ذلك ظهرت أشكال وأساليب جديدة في الكفاح مثل : قيام الجمعيات والاتحادات السرية " الاتحاد السوداني ، اللواء الأبيض " ، وتأسيس الأندية الاجتماعية " أندية الخريجين ، وأندية العمال والثقافية والرياضية "، وظهرت أساليب نضالية جديدة مثل : المنشورات والكتابة في الصحف، الخطب في المساجد ، انتفاضات وتمرد الجنود السودانيين " تمرد الأورطة السودانية 1900 ، مقاومة العسكريين المسلحة في 1924 "، ثورة 1924 ، الجمعيات الأدبية والثقافية التي تكونت بعد هزيمة ثورة 1924 "جمعية أبى روف وجمعية الفجر" وظهور مجلتا "النهضة السودانية "و"الفجر"، اضرابات العمال من أجل تحسين الأجور وشروط الخدمة ، واضراب طلاب كلية غردون 1931 ، تكوين مؤتمر الخريجين عام 1938 ، ومذكرته الشهيرة عام 1942 التي طالبت بتقرير المصير.
اضافة لتكوين الأحزاب بعد الحرب العالمية الثانية ، انتزاع الطبقة العاملة لتنظيمها النقابي " هيئة شؤون العمال" عام 1947 ، وقانون النقابات لعام 1948 الذي قامت علي أساسه النقابات وتم تكوين اتحادات العمال والمزارعين والطلاب والشباب والنساء والمعلمين والموظفين التي لعبت دورا كبيرا في معركة الاستقلال، وظهور الصحافة التي لعبت دورا كبيرا في الوعي ، وحركة الدفاع عن الحريات والسلام.
2
كما قاومت الحركة الوطنية والجماهيرية محاولات الاستعمار لامتصاص المد الجماهيري باحداث اصلاحات دستورية وتغييرات شكلية تبقي علي جوهر النظام الاستعماري والسلطات المطلقة للحاكم العام مثل : المجلس الاستشاري لشمال السودان عام 1943 ، والجمعية التشريعية عام 1948 التي دخلها حزب الأمة والزعامات القبلية ، وقاومها الاتحاديون والشيوعيون وجماهير الشعب السوداني، وتمّ تقديم الشهداء في مقاومتها كما حدث في عطبرة ، ومحاولات تكوين "لجان العمل" في الورش لتفتيت وحدة العمال في السكة الحديد التي رفضها العمال وطرحوا البديل "النقابة" التي توحد العمال والفنيين.
هذا التراكم النضالي أدي في النهاية لتوقيع اتفاقية الحكم الذاتي لعام 1953 التي كانت نتاجا لنضال الشعب السوداني ، ونتج عنها تكوين أول برلمان سوداني في نهاية عام 1953 وهو البرلمان الذي أعُلن الاستقلال من داخله في 19 ديسمبر 1955 ، ليتم إعلانه رسميا في أول يناير 1956م...
3
بعد الاستقلال كانت جماهير شعبنا تتطلع لاستكماله بالاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي، وترسيخ الديمقراطية والتعددية السياسية ومعالجة مشاكل الديمقراطية بالمزيد من الديمقراطية لا الانقلاب عليها ، وانجاز التنمية المتوازنة في كل أنحاء البلاد، بانجاز الدستور الدائم، وقيام دولة المواطنة التي تسع الجميع غض النظر عن العرق أواللون أوالعقيدة أوالفكر السياسي أوالفلسفي، ولكن ذلك لم يتم مما أدي لدخول البلاد في حلقة جهنمية من انقلابات عسكرية وأنظمة ديكتاتورية شمولية اسهمت في تكريس قهر الجنوب وانفصاله، اضافة للمناطق المهمشة، والتنمية غير المتوازنة ومصادرة الديمقراطية والحقوق الأساسية، وتكريس التنمية الرأسمالية والفوارق الطبقية والتبعية للدول الغربية واغراق البلاد في ديون خارجية عطلت التنيمة.
مما يتطلب الاستفادة من تجارب الفترات الانتقالية السابقة بمواصلة الصراع من أجل نجاح الفترة الانتقالية الحالية التي نشأت بعد ثورة ديسمبر 2018 ، في ترسيخ السلام بالحل الشامل والعادل الذي يخاطب جذور الأزمة، ولا يعيد إنتاج المظالم والقهر والحرب، والديمقراطية المستدامة والتنمية المتوازنة، وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وقيام علاقات خارجية متوازنة تكرّس السيادة الوطنية.
4
كماهو معلوم رفض الحزب الشيوعي بعد الاستقلال عام 1956 "شعار تحرير لا تعمير" الذي طرحته الأحزاب الاتحادية بعد الاستقلال ، وطرح الشعار البديل " لا تحرير بلا تعمير" ، أي استكمال الاستقلال السياسي بالاستقلال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي يجدد حياة شعبنا ويرفع مستواه المعيشي والاقتصادي والثقافي وبناء المجتمع الصناعي الزراعي المتقدم ، والحل الديمقراطي السلمي للمسألة القومية، والثورة الثقافية الديمقراطية التي تؤكد علي وحدة البلاد من خلال تنوعها الثقافي واللغوي والديني والقبلي وبعث ثقافاتها ،والتخلص من التبعية والتخلف ، والعض بالنواجذ علي السيادة الوطنية، أي انجاز التغيير الجذري الشامل الذي يبدأ بانجاز مهام الفترة الانتقالية وترسيخ الديمقراطي، وصولا للتغيير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الشامل كما في البرنامج الوطني الديمقراطي..
5
لكن، كما اوضحنا سابقا ، سارت البلاد في طريق التنمية الرأسمالية بعد الاستقلال ، ودخلت في الحلقة الجهنمية ( ديمقراطية – انقلاب . الخ) حيث أخذت الانقلابات العسكرية حوالي 52 عاما من عمر الاستقلال البالغ 66 عاما ، وتم اجهاض وعدم تنفيذ مهام الفترات الانتقالية واستقرار الديمقراطية بعد الاستقلال، وثورة اكتوبر 1964 ، وانتفاضة ابريل 1985 ،والفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر ( ابريل 2019- أكتوبر 2921) التي انتهت بانقلاب 25 أكتوبر.
كما أشرنا سابقا ،كانت حصيلة طريق التنمية الرأسمالية الغربية بعد الاستقلال فاشلة وكان من نتائجها : تدمير القطاع الزراعي الذي يعتبر المصدرالرئيسي للفائض الاقتصادي اللازم للتنمية والمصدر لتأمين الغذاء، وبالتالي تأمين قرارنا وسيادتنا الوطنية، حنى اصبحت البلاد علي حافة المجاعة ، مع استمرار وتعميق الفقر والتفاوت الطبقي، والتنمية غير المتوازنة التي ادت للحروب وانفصال الجنوب، و اتفاقات سلام هشة مثل : اتفاق جوبا التي تهدد وحدة ما تبقي من السودان مما يتطلب الغاؤه والتوجه نحو الحل الشامل والعادل، اضافة للتبعية للعالم الرأسمالي الغربي والخضوع لشروط صندوق النقد الدولي القاسية في تخفيض الجنية السوداني وسحب الدعم عن الوقود والكهرباء والصحة والتعليم ، وخصخصة قطاع الدولة ، تلك السياسة التي قاومتها شعوب أمريكا الجنوبية وانتفضت ضدها، وسارت في طريق التغيير الجذري الذي يفارق هذا الطريق الذي اورثها الفقر والغرق في الديون الخارجية ، كما في فوز أحزاب اليسار هناك ، كما في فوز لولا دي سيلفا الأخير في البرازيل.
اضافة للديون الخارجية التي بلغت حوالي 62 مليار دولار، فضلا عن تدمير الإنتاج الزراعي والصناعي، وظهور طبقات رأسمالية تقليدية وطفييلة اسلاموية وجديدة عسكرية ومدنية نهبت ثروات البلاد الزراعية والحيوانية والبترولية والمعدنية" الذهب" وهربتها للخارج.
هذه الطبقات المعادية لمصالح شعبنا وقوي "الهبوط الناعم" المعبرة عن مصالحها والمرتبطة بالاستعمار الحديث والدوائر الاقليمية هي التي تقف في تحالف معه ضد انجاز التغيير والجذري ، وقطع الطريق أمام ثورة ديمسبر للوصول الي اهدافها، باعادة إنتاج الشراكة مع العسكر والسياسات السابقة القمعية والاقتصادية والتفريط في السيادة الوطنية، واستمرار نهب ثروات البلاد.
( نواصل)

alsirbabo@yahoo.co.uk

 

آراء