التغيير

 


 

 

نشر في سودانايل بتاريخ 3 يونيو 2019م

بسم الله الرحمن الرحيم
"فاتحة كل خير وتمام كل نعمة"
منشورات حزب الحكمة:
abdelmoniem2@hotmail.com
مفهوم التغيير هو الذي يفرِّق بين الإنسان وكل مخلوق آخر لسببين؛ السبب الأوّل أنّ للإنسان إرادة وحريّة للاختيار، وهما وجهان لعملة واحدة. أمّا السبب الثاني فهو المسئولية المُلقاة على عاتق الإنسان لأنّه اختار تسنّم الأمانة كوظيفة مثل أن تقبل التعيين كموظّف في شركة. فليس كلّ إنسان له إرادة وحريّة يسعي ليشغل وظيفة ما لأسباب كثيرة منها عدم امتلاكه للمعرفة أو المهارة أو الخبرة، أو عدم ثقته بنفسه أو كسله مثلاً.
ولذلك فنمط التغيير عند الإنسان لا يكون سلبيّاً كمُجرّد ردّ فعل لتغيّر البيئة مثلاً مثلما يحدث للحيوان والنبات والجماد، ولكنّه قد يكون تغييراً مُبادراً يسبق الأحداث أو تغييراً متفاعلاً لأنّه يتعلّم من تجاربه.
وهذا يوضّح دور المعرفة والخبرة في تغيير حياة الإنسان من خلال آليّة المهارة. هذه المجموعة من العوامل هي أعمال عقلية بحتة تقوم على مبادئ التعلّم والتدريب والممارسة، أمّا العامل الذي يفرّق بين إنسان وآخر فهو عامل السلوك أو بمعني آخر هو العامل الأخلاقي والنفسي.
والإنسان ضمنيّاً يسعي للتغيير للأفضل حتى وإن لم يدرك ما هو الأفضل، وهو قد يصل إلى نتيجة سيئة وهو يعني خيراً. ولذلك فالوعي هو الفيصل بين من يعلم ماذا يريد ولماذا يريده وكيف يحقّقه وبين من يظنّ أنّ في اختياره خيراً له وهو جاهل. وقد نبّهنا المولي عزّ وجل لهذه الحقيقة فذكر أنّ الذين يعلمون لا يستوون مع الجاهلين.
وأيضاً ذكّرنا بأهميّة الوعي كعامل حاسم قبل اتّخاذ القرارات والشروع في العمل، فوضّح أنّ العاطفة ليست الوسيلة الصحيحة للاختيار بين البدائل، وأنّ الذي نحبّه قد يكون فيه ضررنا، وأنّ الذي نبغضه قد يكون فيه نفعنا، لأنّنا لا نعلم ما فيه مصلحتنا، وحتى وإن علمنا فإنّ هوانا قد يؤثّر على اختيارنا. فالإنسان يبغض العلاج المّر ويحتاجه في نفس الوقت، ويحبّ سبب الداء الحلو مثل الذي يأكل الحلويات وهو مصاب بداء السكّر.
إذن العلم هو الميزان الوحيد عن الاختيار بين البدائل، والعلم هو الحقيقة المُثبتة بالدليل.
والتغيير قد يحدث ببطء على مدي سنوات طوال وهو التغيير التراكمي، أو قد يحدث سريعاً نتيجة عوامل كثيرة مثل الكوارث الطبيعية والبشرية، أو قد يكون تفاعلاً بين التغييرين فيبدأ بطيئاً ثمّ تتسارع وتيرته كما حدث في السودان حديثاً.
ومع التغيير السريع، إذا لم يستخدم الإنسان التفكير الاستراتيجي ويخطّط لما بعد التغيير، فإنّ الأحداث ستجرف الإنسان وتقوده بدلاً من أن يقودها، ولذلك فقراراته يغلب عليها الانفعال لا العقل؛ إذ هي ردّ فعل للأحداث لا غير. ويجب أن ننتبه إلى أنّ أي نوع من التغيير المٌبادر، أي الذي يختاره الإنسان بحريّة كاملة، هو عمل ثوري يرفض الحالة الراهنة ويسعي لفرض حالة أفضل، ولذلك لا يتمّ إلا بواسطة التمرّد على الواقع الراهن.
وهنا تبرز مسألة المسئولية للذين يقودون التغيير، إذ أنّ الفعل الثوري لا يعني فقط تدمير الواقع الراهن وتحرير الإنسان من القيود التي كانت تقف عائقاً أمام تحقيق آماله، وإنَّما يعني في المقام الأوّل معرفة ماهيّة هذه الآمال والأحلام بطريقة علمية، والتخطيط المسبق لترجمتها واقعاً جديداً وإلا فستنشأ حالة من الفراغ الذي يؤدي للتخبط في إدارة التغيير والذي سيقود للفوضى.
وما يبدو من المشهد السياسي في السودان أنّ وتيرة التغيير فاجأت قيادة الجماهير الثائرة وأيضاً العسكر فدفعت بهما إلى موقف غصباً عنهما بواسطة الحراك الشعبي الواسع. فقيادة الجماهير لحقت بها ولم تُنتج الحراك الثوري، ولكنّها وجّهته بفعاليّة ممّا أدي إلى نجاح المرحلة الأولي من الفعل الثوري.
أمّا المجلس العسكري فوجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مُرٌّ؛ فكان عليه أن يختار بين نظام ظهر غبن الناس عليه وإصرارهم على إسقاطه، أو بين تنحية رأس الدولة وبطانته وبذلك يضمنون أقلّ الخسائر لمؤسستهم التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بنظام الإنقاذ.
قرار قادة العسكر أملته غريزة البقاء وليس كما يظنّ الناس دافع الوطنيّة، فهم قد أدركوا أنّ أيامهم معدودة وسفينة الإنقاذ غارقة لا محالة فكان قرار تخفيف وزنها القرار الأصوب. بالطبع كان لصغار الضباط دوافع أخرى من ضمنها الإحساس بالغبن تجاه نظام الإنقاذ لأسباب عديدة ومن ضمنها أيضاً الإحساس الوطني.
إذن الحراك الثوري التراكمي والانفجاري بسبب الأزمة الاقتصادية والانسداد السياسي، هو الذي دفع الأحداث لتشكيل المشهد السياسي الراهن ولم يكن نتيجة تخطيط ومنهج علمي وهنا أساس العلّة إذ أنّ المجلس العسكري لم يكن يملك رؤية لإدارة البلاد لأنّ نظام الإنقاذ لم تكن له رؤية، ولم يكن يتوقّع أن تدفعه الأحداث للقبض على مفاصل السلطة.
وكذلك كلّ القوي السياسية في الساحة، بلا استثناء، فاجأتها وتيرة الثورة المتسارعة وقضوا ثلاثين عاماً في المعارضة يحلمون بهذا اليوم ولا يعدّون له عدّته وذلك لأنَّها في الأساس قوي سياسية شكليّة لا تستحق أن يطلق عليها اسم أحزاب لأنها لا تحقّق الحد الأدنى من المعايير المعروفة للأحزاب السياسية الحديثة، بل من المفارقات المُبكية، أنّ حزب المؤتمر الوطني أقربها جميعاً من معايير الأحزاب الحديثة إذا أغفلنا ظروف ظهوره. والآن ظهر جليّاً فقر القوي السياسية الفكري وانعدام رؤيتها وضعف برامجها واختلاط مفاهيمها. فهي لم تتّفق بعد على مجلس قيادي أو مجلس وزراء أو على أسماء المجلس التشريعي وحتى لو أنّ المجلس العسكري وافق الليلة على اقتراح المجلس السيادي فلن يتّفقوا على أسماء الأعضاء المرشحين للمجلس السيادي.
كيف سيفعلون ذلك ومنهجهم حتى الآن هو منهج محاصصة حزبية إذ أنّهم طلبوا من الموقعين على إعلان قوي الحرية والتغيير أن يرشحوا ثلاثة أسماء لكلّ وزارة وهم يقولون بأنّ المرشحين سيكونون من الكفاءات الوطنية غير ذات الخلفية السياسية. هل قوي الحرية والتغيير ليست سياسية؟ وما هي المعايير التي سوف يستخدمونها لاختيار هذه الكفاءات الوطنية بعيداً عن السياسة؟ بل من وكيف سيختار رئيس الوزراء؟
وأين رؤيتهم التي لم نسمع بها إلى الآن؟ أو برامجهم المدروسة المُتّفق عليها بين كل فصائل قوي الحرية والتغيير أوّلاً وبين بقيّة مكوّنات الطيف السياسي لأنّنا نتحدّث عن رؤية وطنية وبرامج شاملة لا عن رؤية جزء من الشعوب السودانية تفرض على البقية؟
إنّ نوع التغيير الذي يمارسه العسكر وقوي الحرية والتغيير هو ما يسمّي بالتمويه، وهو أدنى مستويات التغيير إذ هو إيحاء بالتغيير لا غير. وهو مثل الحرباء التي تغيّر لونها ولكنّها تظل حرباء كما هي. وقد قتلنا نظام الإنقاذ بهذا النوع من التغيير.
وبعض المجتهدين من علماء البلاد المُسيّسين، قد انتقلوا إلى المستوي الثاني من التغيير وهو إعادة تفسير القوانين، ومراجعة السياسات السابقة، وهو ما يسمي بالعدالة الانتقالية والسياسات البديلة، أو وضع البرامج الإسعافية، وهذا المستوي لا يفي بحاجة البلاد للتغيير إذ أنّه لا يغيّر شيئاً ذا بال ولكن هو إعادة توزيع وترقيع لا غير لا يقوم على رؤية شاملة أو معلومات حقيقية وإنّما هو فعل العاجز الذي يضطّر للفعل لأنّه لا يملك شيئاً آخر، أو الذي تدفعه الظروف دفعاً ولذلك فهو تغيير انفعالي غير مٌبادر.
ما نريده من التغيير، على الأقل، هو المستوي الثالث وهو التعديل الحقيقي لمفاهيم الإنسان السوداني، وتغيير طريقة تفكيره البدائية، وبناء الأحزاب السياسية على أسس ومعايير علمية، ومن ثَمَّ الاتفاق على رؤية وبرنامج وطني شامل متكامل، يؤمن به الكل وينفذه الكل، من دون إقصاء ليبني دولة القانون الشرعية ما أمكن.
أمّا أعلى مستوي للتغيير فهو إعادة البناء للإنسان السوداني، وهذا يبدأ من مرحلة الحضانة، ويشمل المناهج التعليمية، وتركيب ثقافة جديدة تقوم على احترام قيمة الإنسان، والارتقاء فوق الثقافة البدوية التي تُعلى من قيم السلب والنهب والغلبة، وتقوم على احترام الوقت، وعدم التعفّف عن أي نوع من العمل فلا نلجأ للغرباء ليقوموا لنا بما يمكننا القيام به، فنتواضع ونترك الكبرياء الزائفة، فالبلاد التي لا يقوم مواطنها بأعمالها كلّها، ولا ينتج غذاءه ويصنع سلاحه، بلاد غير جديرة بالانتماء للأمم القائدة أو النمو والتطور.
نخلص من ذلك أنّ الشعارات والخطابة والتهوّر لن تحقّق تغييراً مثمراً بل ستؤدّي لتغيير للأسوأ، إذ أنّ التغيير يسير في اتجاهين، وأنَّنا بعيدون كلّ البعد عن الوعي اللازم للرقي، أو الفهم الكافي لتحقيق تنمية مستدامة ونامية ومرنة، وليس لدينا قادة رجال ونساء دولة يعتمد عليهم من ذوي الرؤية واضحة الذين يصنعون القرارات الصعبة، أو يضعون الوطن فوق الأيديلوجية والانتماء السياسي، أو يبصرون الأولويات، أو لهم حكمة تقودهم، ولذلك فلا يأمل أهل السودان خيراً إن تسلّمت قوي الحرية والتغيير الحكم أو استمرّ المجلس العسكري.
ودمتم لأبي سلمي
////////////////////

 

آراء