التغيير: لماذا وكيف؟

 


 

 

 
 حين تندلع "مظاهرات" في الخرطوم مثلاً، قد يتمنى كثيرون منا سقوط الحكومة بعد هبة واحدة، فيسارع الكثيرون، ولو بسبب " تفكير رغائبي" في توزيع باقات "الامل " عبر الموبايلات، والابتسامات"، لكن قد لا يشاركون هم بأنفسهم في "مثل هذا النشاط"، فهم يريدون آخرون صنع هذا الانجاز نيابةً عنهم، في وقت لا يتوانون فيه من تحذير  أقاربهم من المشاركة في مثل هذه الأعمال، ويشددون عليهم بضرورة "المشي جنب الحيط"، وحين يسقط " شهيد" في احدى ساحات "الوغي، او المواجهات" لا يتأخر طرف الشهيد من نصب سرادق "الاحتفاء" بهذا الحدث العظيم، لكن ذات المحتفين لا يفضلون أن يكون " الشهيد" من بين معارفهم، أو من أهلهم، أو أصدقائهم، مع أن ذات القوم سيكتبون القصائد، ويغنون الأشعار، ويزرفون الدمع سخيناً ؛ ابتهاجاً بهذا "النصر العظيم"، وربما يهتفون" مليون شهيد لعهد جديد، أو ربما لفدى التوحيد".
وهنا بهذه التساؤلات هدفت إلى التركيز على غياب "ثقافة التضحية"، أو "ايثار الغير على النفس، وعلاقة ذلك بما كنت قد أشرت إليه في عمودي بعدد الأربعاء الموافق التاسع من مارس الجاري بعنوان " مظاهرات بعد الفطور"؟.
وهنا أنا بصدد قراءة نقدية لوضع "الشعب"، أو "الجماهير" في التغيير، لأن لا تغيير بدون جماهير، لكن أي جماهير؟. ومن يحرك هذه الجماهير؟. ومن يلهمها؟. وهل هذه الجماهير هي كلها ذات مصلحة في "التغيير"؟. وهل هي على استعداد "للمضي في تحقيق أهداف التغيير إلى أبعد مدى؟. ومتى تكون الجماهير على استعداد لذلك؟. وما هو دور الأحزاب السياسية؟. قادة الأحزاب؟. المجتمع المدني؟. المفكرون؟. أو المثقفون؟. ومن هم المثقفون؟. وهل كل مثقف هو شخص فاعل في مجتمعه، ومتفاعل بهمومه؟. أي أنه " عضوي" على حد تعريف الفيلسوف الايطالي انطونيو قرامشي" المثقف العضوي"؟.
وبالطبع هناك فرق كبير بين المثقف "التقليدي"، والآخر " العضوي" ، ويرى قرامشي " ان كل البشر مثقفون بمعنى من المعاني ، ولكنهم لا يملكون الوظيفة الاجتماعية للمثقفين ، وهي وظيفة لا يمتلكها الا اصحاب الكفاءات الفكرية العالية الذين يمكنهم التأثير في الناس .. ومن هنا يستخلص الفارق بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي .. الاول يعيش في برجه العاجي ويعتقد انه اعلى من كل الناس ، في حين ان الثاني يحمل هموم كل الطبقات وكل الجماهير وكل الفقراء والمحرومين والكادحين .. وعليه ، فان المثقف الحقيقي هو المثقف العضوي الذي يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا امته .. ان اي مثقف لا يتحسس الام شعبه لا يستحق لقب المثقف حتى وان كان يحمل ارقى الشهادات الجامعية".
 ويرفض المفيلسوف الايطالي قرامشي  ربط مفهوم المثقف بالنشاط الذهني وحده، فهو يرى أن كل فرد يمكن أن يكون مثقفاً، حسب وضعه الاجتماعي والمهني، ويؤكد أن الأعمال اليدوية ذاتها تحتاج إلى نشاط ذهني، وربما أن كثيرين بيننا يتمتعون بنشاط ذهني كثيف، وطاقة فكرية قوية، لكن هل كل منا يمكن أن يتحول إلى شخص منفعل وفاعل وفعال؟.
وبنظرة سريعة؛ نأخذ خلالها منظمات المجتمع المدني السودانية مثالاً؛ كم من المنظمات تعمل على مستوى " التلاحم " مع الجماهيير"؟. وما هي أنواع الأنشطة التي تقوم بها هذه المنظمات؟. ولماذا يكتفي معظمها "بالتنظير " وسط القاعات المكيفة؟. وتردد "مفاهيمها وأفكارها " وسط ذات "النخب"؟. مثلاً" الشارقة"، أو "الخاتم عدلان".؟ أو " بيت الفنون"؟. فكم من الحضور؟. وهل هو حضور " شعبي"، أم " نخبوي". وهل يصل خطاب " الطامحين في التغيير من "النخب" إلى بقية خلق الله من الشعب أو الشعوب السودانية؟. وكم من "ورش العمل"، و"المؤتمرات " أقيمت؟. وكم من "الأموال صرفت؟. وما هي المحصلة النهائية لتلك الجماعات "النخبوية العاملة في مجالات حقوق الانسان والديمقراطية والحريات"؟.
عندي أن "التغيير يبدأ من قاعدة الهرم، وهي "الأغلبية"، وليس من " قمة الهرم"، وهم هنا قادة الأحزاب السياسية، والصحافيين، والمفكرين، والناشطين في المجتمع المدني، والكنوقراط، والأطباء، والمهندسين، والصيادلة .
 والهرم بقاعدته، وقمته يشكل كتلة الجماهير، وهي حسب تعريف غوستوف لوبون ؛  "أي تجمع ضخم من الأفراد توحده في فترة معينة وفي لحظات حدية انطباعات وتأثيرات مشتركة ومتزامنة. وفي تلك اللحظات فإن المستوى الثقافي والعلمي والعقلي للأفراد المكوِّنين لجمهور ما يختفي أو يذوب تحت فعل الانطباعات الموحِّدة إن لم نقل بفعل مغناطيسها. فرد فعل الفرد معزولا عن الجمهور بهذا المفهوم يظل دوما أكثر رزانة وعقلانية".
لكن كيف يمكن تشكيل مثل هذه الكتلة؟. وهل يمكننا اختراق حالة "التوهان" السودانية؟. أو سلوك "اللامبالاة؟.
أذكر هنا؛ و في أحد شهور عام 2008 كانت الأحزاب السياسية منشغلة جداً بقضية "قانون الانتخابات"، وقصة "الكوتة"، والتمثيل النسبي" ونسبة المرأة، وكانت المعارضة تلوح بتحريك الشارع، من أجل ابطال "مؤامرة "المؤتمر الوطني"، والاصرار على تمرير قانون مفصل؛ كبقية القوانين، على مقاس الحزب الحاكم، وبالفعل تجمع عدد من "الناشطات" الموزعات بين الحكومة والمعارضة، يهتفون، "كل يغني لليلاه"، لكن على مسافة امتار من التجمهر النسوي "الأنيق" أمام قبة البرلمان، وشرق شارع الموردة ظهرت شاباتان صغيرتا السن، وربما في منتصف المرحلة الجامعية، فذهب نحهوما أحد الصحافيين المشاغبين، يسألهما عن رأيهما في "قانون الانتخابات وكوتة النساء"، فتفاجاتا من السؤال، وسألهما ان كانتا جاءتا للمشاركة في "التظاهرة النسوية"، فكانت المفاجاة ان الشابتين لا يعرفان هدف "المتجمهرات"؟ وباختصار سألهما طيب " ماشين وين" فردتا بكل برود، نحو قاعة الصداقة ومشاهدة فيلم هندي.
وهي حالة من "السلبية"، و"اللامبالاة" بما يدور حول هاتين الشابتين؛ مع أن القضية تهم " جماعات النساء"!، فمن المسؤول عن مثل هذه السلبية؟. وبالضرورة نسأل ذات السؤال عن ضعف "ثقافة التضحية والايثار " وسط قطاعات مقدرة وسط السودانيين؟. وهي حالة "طبيعية"، فمنذ قديم الزمان أرادت بعض "النخب" "تنميط السودانيين" في قوالب محدودة،  فنجد ان السودانيين هم الأعظم، وهم الأكرم، وهم أشجع وأذكى البشر في كل الكون!. وللمفارقة والطرافة فإن هذه "الاكليشيهات" احتوت بداخلها حتى "الأذواق"، و"الأمزجة" ؛ فمعجون "السييقنال هو "الأفضل"، ولا نستحم سوى بصابون "لوكس"، وبفضل سماسرة "الكرين" يمكن أن تكون السيارات "الكورية" الصنع هي الأفضل، وفي ذات الوقت هي الأغلي من الصناعات "اليابانية"، هكذا "بمزاج"!!، لا وفق "دراسات"، أو أحكام موضوعية، وعلمية.
وقد لعبت الأنظمة الشمولية، والحكومات المستبدة دوراً كبيراً في خلق هذا الواقع، وأشير هنا إلى ماذكره ، الباحث الدكتور محمد المهدي وقوله " حين تكون السلطة غير منطقية, أو غير شرعية, أو استبدادية, أو فرعونية, حينئذ تسود ديناميات مرضية مثل الكذب والخداع والنفاق والعدوان السلبي واللامبالاة من جانب الجماهير, بينما تتعامل السلطة مع الجماهير بازدراء وشك وتوجس, وترى أنها غير جديرة بالتحاور والتشاور وإنما تساق بالعصا. وإذا وصفنا نمط هذه العلاقة بمصطلحات علم النفس نقول بأنها علاقة بين والد ناقد مستبد وطفل يميل إلى العدوان السلبي. وهذا الطفل العدواني السلبي ينتظر اللحظة المناسبة لينقض على الوالد الناقد المستبد ليتحول بذلك إلى طفل متمرد. وبالتعبير الشعبي الدارج نصف هذه العلاقة بأنها علاقة القط والفأر.
ويرى ذات الباحث " ولكي تتمكن السلطة من قيادة الجماهير دون مواجهات أو مشكلات أو اضطرار للحل الأمني بكثرة فإنها تقوم بتشكيل وعى الجماهير بما يتفق مع مصالح السلطة, وهى تلح طول الوقت بأن ما تفعله هو في صالح الجماهير, وقد تتمادى السلطة في تشكيل الوعي الجماهيري حتى تصل إلى تزييف ذلك الوعي خاصة حين تكون أهداف السلطة غير مشروعة وغير أخلاقية, لذلك فهي تقوم بتزييف وعى الجماهير حتى يرى تلك الأهداف الذاتية غير الأخلاقية أهدافا عظيمة ومشروعة ويخيل إليه أن السلطة تسعى لصالحه. وبالطبع فإن هذا العمل يتطلب مهارات عالية لذلك يختار أصحاب السلطة ذوى الكفاءات في الإعلام الموجه للإلحاح ليل نهار على حواس الجمهور من خلال الصحيفة والإذاعة والتليفزيون لإقناعه بما تراه السلطة".
وتتخذ الأنظمة الشمولية الكثير من الوسائل كي تزيف وعي "الجماهير" عن طريق الوسائل الاعلامية الموجهة، والخطاب الديني المؤثر، وشغل الناس بمماحكات مثل " طول المسواك"، ولبس "البنطال"، وغيرها من الطرائق التي تحول "الجماهير" ؛ إلى مستسلمة، أو لا مبالية، أو اتكالية، أو مخدرة، أو قابلة "للايحاء والاستلاب"، أو سيادة سلوك " عبيد المنازل" ، وهو توصيف للمفكر الأميركي مالكوم اكس، ويقول "  زنوج المنازل فقد كانوا يعشون في المنازل عند الاسياد، و كانوا يلبسون ملابس جيدة وبأكلون طعاماً جيداً لأنهم كانوا يأكلون طعام السيد،أي مما يتبقي منه.وكانوا يعشون في علية البيت أو الطابق التحتاني،ولكنهم كانوا يعشون_مع ذلك_بالقرب من السيد؛ وقد أحبوا السيد أكثر مما كان السيد يحب نفسه، وكانوا علي استعداد للتضحية بحياتهم لأنقاذ منزل السيد،بل كانوا في ذلك أسرع من السيد نفسه، أما أولئك "زنوج الحقول؛ فهم لا يحبون سيدهم، ويتمنون ذهابه، ولو اشتعلت النيران في الحقل لزادوها اشتعالاً.
ولو نظرنا "للانقاذ" فانها تريدنا كلنا أن نكون " زنوج أو عبيد منازل"، نتألم لألم السادة الحكام، ونغضب لغضبهم، ونخرج في المسيرات الهادرة "لحمايتهم"، وهم يشيعون بين الناس " ليس هناك أفضل منا، فاحمدوا الله أنكم تأكلون، وتشربون، ولو كان هناك حكام غيرنا لذهبت ريحكم، أو ذهب الوطن كله، ولتشظى، ولتقسم، لكنا نحكم باسم الشريعة، فهل أنتم ضد "الشريعة"؟.
وقد أعلنت الانقاذ انها تسعى "لصياغة الانسان السوداني، او المجتمع في سياق المشروع الحضاري، وبرامج "التمكين"، فكيف المخرج من كل ذلك؟. وسوف نواصل..
 
 Faiz Alsilaik [faizalsilaik@yahoo.com]

 

آراء