التكاليف الاجتماعية للأزمات المالية العالمية

 


 

د. حسن بشير
3 February, 2013

 



إشارتنا إلي أن ما يجري في العالم الرأسمالي هو (أزمات) وليس أزمة واحدة يمكن اختزالها في (الأزمة المالية العالمية)، هي إشارة مقصودة. القصد هو أن النظام الرأسمالي ينتج الأزمات بطبيعته ومن خلال دوراته المعروفة ومن خلال دورة رأس المال. ألا آن الآمر لا يتوقف عند الأزمات الدورية للنظام الرأسمالي، وإنما يتجاوز ذلك للدخول الي نمط جديد نوعيا من الأزمات خاص بتحول الرأسمالية العالمية الي (امبريالية مالية) قائمة علي توريق الأصول والديون وتدويرها عبر الأسواق المالية في أوراق لحقوق الملكية، سندات الديون مختلفة الأنواع والآجال وفي شكل مشتقات مالية واستثمارات طيارة تتقاذفها البورصات العالمية علي مدار الساعة، دون توقف ودون ان تحدها حدود او تعوق مسارها نظم مالية او مصرفية علي نطاق البلدان والقارات.
حدث ذلك (التطور) نتيجة لسيطرة (الامبريالية )المالية، في نطاق عولمة رأس المال بأدواتها التي وفرت لها الأسواق المالية العالمية بنية تحتية للمغامرة والمقامرة والدوران ومراكمة الأرباح، علي معظم حقوق الملكية (عبر حصص قابضة للأسهم) وأدوات الدين (الخاصة والعامة) ذات الجدارة العالية التي تجذب المستثمرين.ساهمت حكومات الدول الرأسمالية ألكبري في توفير المناخ الملائم لتلك السيطرة كما وفرت لها الغطاء القانوني، جانب أخر بالغ الأهمية في تلك السيطرة تم توفيره عبر التقدم التكنولوجي والثورة في نظم المعلوماتية ووسائل الاتصال.
إلا ان تلك الإمكانيات والقدرات الهائلة لم تخلص الرأسمالية من جين الأزمات المتأصل فيها فكان ان دخلت في مرحلة جديدة من أزماتها تتوافق مع طبيعة أنشطتها المستحدثة. تراوحت أنماط الأزمات بين أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية ، التي مهدت الطريق للانهيارات اللاحقة في المصارف وقيم الأصول المورقة والتي شكل انهيار مصرف ليمان برزرز، شارة البداية لانطلاقها، وصولا ألي أزمة الديون السيادية في أوروبا. كان من المفترض ان يسبق انهيار رابع اكبر بنك للاستثمار في أمريكا (المشار إليه)، انهيار مماثل لمؤسستي الرهن العقاري الأمريكتين العملاقتين( فاني ماي Fannie Mae) و(فريدي ماك Freddie Mac )، إضافة لشركة التامين الأمريكية العملاقة (  A.I.G)، إلا أن لا إدارة جورج دبليو بوش الابن التي حدثت أزمة الرهن العقاري في عهدها، سمحت بذلك ولا الإدارة الأمريكية الديمقراطية اللاحقة لها ممثلة في باراك اوباما استطاعت ان تتخلي عن سياسة الدعم لتلك المؤسسات لحمايتها من الإفلاس، فكان ان ضخت في وعيتها ترليونات الدولارات. تم الدعم من الموازنة العامة وعلي حساب دافع الضرائب وبتحويل من القطاعات والفئات السكانية الأضعف إلي الاقوي، في نهج جديد هو دعم الخاص وإطفاء خسائره من المال العام.
نتيجة لأزمتي الاقتصاد الأمريكي (الرهن العقاري والأزمة المالية)- ذلك الاقتصاد الذي يشكل قاطرة رأس المال العالمي - تداعت ألازمة وانداحت لتطال العالم بمجمله. كانت أهم معالمها كما  صرح حينئذ مدير صندوق النقد الدولي ستراوس كان (معاناة الاقتصاد العالمي من ثلوج من الركود ونيران من التضخم). عبارة موفقة في دلالتها، إذ من هنا بدأت الآثار الاجتماعية المدمرة علي الاقتصاد العالمي. ظهر ذلك في اتساع الهوة  بين الدول الرأسمالية ألكبري، انهارت  فكرة السوق العالمية الواحدة التي تشكل عنصرا أساسيا للعولمة الاقتصادية. أضيف ذلك لفشل سياسات الخصخصة و تحرير التجارة الخارجية والاعتماد علي نظام السوق لتحقيق  النمو الاقتصادي , فبدلا عن النمو و الرفاهية، شهد العالم اتساعا متزايدا للازمات و انهيارا متلاحقا للأسواق كما، اتسعت الهوة بين الأغنياء و الفقراء بشكل غير مسبوق حتى داخل الدول الرأسمالية ألكبري، إضافة لاتساع نطاق الفقر ليشمل فئات جديدة من صغار المنتجين والطبقة الوسطي، بل وطال جزءا من الرأسماليين الذين انهارت أعمالهم.من جانب اخر ارتفعت أسعار الغذاء الي معدلات غير مسبوقة مع ارتفاع معدلات التضخم التي أدت الي تراجع القوة الشرائية للدخول مما دفع بأعداد متزايدة من سكان العالم ألي أتون الفقر بتعريفاته المختلفة. لم يتوقف النهب عند الأرباح في حدودها العليا وإنما امتد الي الدخول المستقبلية وحقوق الأجيال المقبلة بإهدار الموارد البيئية وارتفاع معدلات التلوث التي كانت واحدة من أهم عوامل التغيرات المناخية والتدهور البيئي بظواهره المدمرة في جميع أنحاء المعمورة.
من جانب أخر أدي الكساد وتراجع النمو إلي انهيار العديد من الأعمال الخاصة او تقليص مكاسبها. تسبب ذلك في تدني الإيرادات الضريبية فدخلت العديد من الحكومات في أزمة موارد أدت إلي تقلص القدرة الائتمانية لعديد من الدول الي ان وصل الأمر الي أزمة الديون السيادية في أوروبا لتربط هذه الأزمة في حلقة واحدة مع جملة من الأزمات والهزات الارتدادية التابعة لها مثل، أزمة الديون التي عصفت بأمارة دبي. اكتملت بذلك حلقة مرحلية من أزمات الرأسمالية العالمية واكتملت متلازمة تضخم – ركود – بطالة، وكان ان أصبحت البطالة ظاهرة جماهيرية وصلت في دولة متقدمة مثل اسبانيا الي حوالي 25% من القوة العاملة.
إلي هنا يمكن حصر تكاليف الأزمات الاجتماعية في البطالة، تناقص القدرة الاستهلاكية لقطاعات واسعة من سكان العالم، ارتفاع تكاليف الغذاء وتفشي الجوع وسوء التغذية وارتفاع معدلات الفقر المطلق والمدقع والتدهور البيئي. لكن الفقر لم يتوقف عند هذا الحد بل وصل الي (فقر الرفاهية). هناك فئات واسعة من سكان الدول الرأسمالية تعودوا علي العيش في رفاهية لما يزيد من ربع قرن من الزمان.
حدث ذلك بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية والوسطي. في هذه الفترة ومع ترسخ أركان النظام العالمي الجديد القائم علي فكر الليبراليين الجدد اتسع نطاق العولمة الاقتصادية وسادت أيدلوجيتها القائمة علي اقتصاد السوق، اتسعت أنشطة الأسواق المالية العالمية حسب فكر المدرسة النقدية المنبثقة عن مدرسة شيكاغو بريادة مقولات ونظريات علي رأسها أفكار ميلتون فريدمان. دانت السيطرة في هذا الواقع للاقتصاد المالي الوهمي الورقي المعتمد علي إصدار وتداول الأوراق المالية والديون والمضاربة فيها بلا ضوابط. لقد أفادت  إحصائيات الأسواق العالمية ، عند اندلاع الأزمة المالية العالمية في العام 2008 بان الاقتصاد المنتج في الزراعة و الصناعة و الخدمات المرتبطة بهما يشكل حوالي 48 ترليون دولار بينما شكل حجم الاقتصادي المالي في الأصول المورقة أكثر من 144 ترليون دولار.، في نفس الوقت بلغت الديون السيادية والخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 64 ترليون دولار ولا زال مد الديون مستمرا هناك ، اذ تجاوز سقف الدين العام الأمريكي هذا العام حد الناتج القومي الإجمالي(14 ترليون دولار) ليرتفع لأكثر من 16,4 ترليون دولار (مرشحة للوصول الي 17 ترليون)، لتجنب ما سمي بالهاوية المالية ( Fiscal cliff). يلاحظ أنها انهيار أساس النظرية النقدية القائلة بقدرة السوق علي التنظيم الذاتي وازداد تدخل الدولة في الاقتصاد وعصف ذلك بمبادئ الحرية الاقتصادية لفريدمان.
وصل الآمر بفضل جملة أزمات رأس المال المتعولم بالاقتصاد العالمي الي أسوأ حالاته منذ قرن من الزمان بشهادة الآن غرينسبان مدير مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق الذي شهد عهده ازدهارا غير مسبوق للاقتصاد الأمريكي، الذي أشار إلي ان الوضع الاقتصادي يستعيد الكساد العظيم في القرن السابق التي أدت الي ان يفقد الاقتصاد الأمريكي أكثر من ربع قيمته و دفعت الملايين من العمال الي البطالة و العديد من الشركات إلي الإفلاس.
في هذا الوضع ثار عمال القارة العجوز بحثا عن رفاهيتهم المفقودة وأصبحت شعوب بعض الدول الأوربية تدفع بقوي جديدة الي الحكم كما يجري في اليونان، ايطاليا، جمهورية التشيك وهذا يعتبر بداية المسار. سبقت الثورات الأوربية ما صار يعرف ب(الربيع العربي)، إلا إن اختلاف الأنظمة والمطالب والأمزجة السياسية والاجتماعية يجعل أسلوب الاحتجاج وأهدافه ونتائجه مختلفة. هنا يمكن السؤال هل ما جري في الدول العربية تم بمنأى عن التطورات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية في العالم بعد أزمات رأس المال العالمي المتعولم؟ أم أن هناك رابط ما بين التطورات العالمية والمشهد العربي بتداعياته المتلاحقة؟
الانفجار المفاجئ لثورات (الربيع العربي) لم يتح مجالا واسعا للتنظير حولها من جهة ربطها بالأزمة المالية العالمية وسيادة التوجه نحو التغيير في الغرب الذي يطال العديد من المنظومات السائدة هناك ومن أبرزها جوهر النظام السياسي، المنظومة الاقتصادية ومنظومة الأسواق والنظم المالية. من جانب آخر فان هذا الربيع لم ينتج أنظمة ناضجة ومستقرة وما زالت اتجاهات وآفاق تطوره يسودها الغموض. علي المستوي العالمي يحتدم الآن النقاش حول طبيعة تكوين وإدارة مؤسسات التمويل الدولي وإصلاح الأمم المتحدة. مع ذلك فقد تطور المشهد العالمي في عدة اتجاهات من ضمنها ظهور مجموعة العشرين كمجموعة أكثر تأثيرا من مجموعة الثمانية التي تراجعت خطوات الي الوراء من حيث تأثيرها العالمي، كما ظهرت مجموعة من التكتلات الجديدة الآخذة في التشكل مثل مجموعة (البريكس)، شنغهاي، اورو- آسيا وغيرها من التشكيلات التي يصل البعض في تحليلها الي تشكل نظام عالمي مختلف إيذانا بنهاية القطبية الأحادية السائدة اليوم.
لا يفوتنا أن نذكر بمظاهرات (الغاضبون) العارمة، التي شهدت رواجا كبيرا في أكتوبر 2011م والتي اجتاحت 951 مدينة، في 82 دولة هي الأكثر تقدما اقتصاديا واجتماعيا والتي أثبتت للعالم أن النظام الرأسمالي عاجز عن تحقيق الرفاهية حتي في اعلي اقتصادياته أداء ونموا. تفجر الغضب ضد ظلم النظام الرأسمالي ووحشيته غير المتناهية، في معاقله الرئيسية واستهدف اجل إيقوناته شأنا في (وول ستريت) وفي مؤسسات التمويل الدولي المناط بها إنقاذ الدول الغارقة في الديون من محنتها وفي مقار بورصاته ورموزه الأكثر وضوحا.
أنتج هذا الواقع جملة من التكاليف في الأنظمة السياسية والاقتصادية وإدارتها، إضافة للتكاليف الاجتماعية باهظة الثمن المتمثلة في ازدياد مشاكل الفقر، التضخم، الركود والبطالة. تضاف تلك التكاليف لآخري مثل تكاليف الحروب والثورات التي تريد ان تنجز عمليات التعيير الشامل - سياسي ، اقتصادي، اجتماعي  الخ..- وهي بالفعل تكاليف باهظة الثمن خاصة إذا أضفنا إليها تكاليف الأرواح التي تزهق لأسباب متعددة. أما تكاليف الإرهاب فهي فصل قائم بذاته وقد انتح قوة جاهلة ظلامية لا تفرق بين قيم الحياة والثقافة والتاريخ وتحرق حتى كنوز الثقافة الإسلامية المصانة عالميا مثل ما حدث في تمبكتو.
إلا أن تكاليف الأزمات لن تقف عند هذا الحد وإنما ستصل إلي ثمن الحريات والحقوق بمختلف أشكالها ومفاهيمها سواء ان كانت حريات شخصية او حريات التعبير والتنظيم إضافة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتغيير القيم الاجتماعية التي تعيق عمليات التغيير والتحرر مثل تلك المرتبطة بالنوع او العرق او الدين او العمل وغيرها.
بما أن الحرية هي أهم المشكلات الاجتماعية والفلسفية في التاريخ وترتبط بجوانب التنمية و الرفاهية الاقتصادية و مستوي درجة المشاركة في صنع القرار، فإنها لا تنفصل، كمفهوم عن النسق المعرفي - القيمي الخاص بالسلوك الإنساني في مواجهة تحديات العصر والواقع المعاش الذي يحدد محتواها وأوجه استخدامها و حدودها وهي بالتالي مرتبطة بأهداف محددة تشكل مطالب إنسانية مستمرة، من هنا يطول الصراع حولها وترتفع التكاليف.
يبقي السؤال ما العمل؟ لا يمكن الحديث في عالم اليوم عن أن النظام الرأسمالي واقتصاديات السوق هي الطريق الي الرفاهية والازدهار.لكن وبالمقابل لا يمكن السير الي الوراء والاستغناء عن السوق ونبذه او الرجوع إلي القطاع العام بشكل نهائي ليكون هو المنتج للسلع والخدمات بشكل حاسم، المقصود هو التوجه الاجتماعي للسياسات الاقتصادية و(انسنة) آليات الاقتصاد عبر تغيير مجمل توجه السياسات الاقتصادية وعقيدتها لتتحول من منهج الاستغلال والإفقار إلي العدالة الاجتماعية، محاربة الفقر وتحسين شروط توزيع الدخل والثروة وإقامة نظام متوازن اقتصاديا واجتماعيا، وإزالة الاختلال بين حقوق العمل ورأس المال، ذلك بدلا عن نظام يحتكر فيه الثروة 3 الي 5% من السكان وترزح البقية في الفقر والعوز. لا مناص من اتجاه (الدولة) إلي توفير (ليس بالضرورة أن تقوم بإنتاجها، بل بالتوفير عبر الموازنة العامة وتوجيه قنوات الإنفاق) السلع والخدمات الاجتماعية خاصة التعليم، الصحة، الخدمات الرئيسية مثل الماء والكهرباء وصيانة البيئة.
سيتم البحث عن طريق جديد بديل لنظام الجشع والاستغلال وسيادة الفساد وستبتدع الشعوب أنظمة بديلة، ربما تبدو طلائعها كما هو في البرازيل (انظروا لبرنامج مكافحة الفقر المسمي bolsa Familia)، وعدد من دول أمريكا اللاتينية أو كما تحدثنا عنه تجارب التنمية الهندية وغيرها من النماذج الرائدة. إلا أن ما يمكن ان يبتدعه الإنسان من اجل تغيير الوضع الاقتصادي والاجتماعي البائس الماثل اليوم هو ما لا يمكن التنبؤ به، فقط يمكن توقع انه سيكون أفضل كثيرا من المأزق الراهن الذي أدخلت الامبريالية المالية العالم فيه. كما أن الوضع الجديد لابد ان يكون أكثر عدالة وأوسع نطاقا لاستيعاب الفقراء وإخراجهم من مدافن العوز والحاجة التي أصبحت تتضخم في جميع أنحاء العالم. يبدو أن عهد المضاربة بالحياة " انتم تضاربون بحياتنا" و المقامرة بمستقبل الناس " انتم تقامرون بمستقبلنا"، كما صرخ الغاضبون في تظاهراتهم، يبدو انه في طريقه الي الزوال، وان العالم يضع مسارا جديدا لتطوره.
لا ننسي ان الكساد العظيم (1929 – 1933)، قد أنتج الأنظمة النازية والفاشية في أوربا التي أدخلت العالم في حرب دموية، لكن النتائج النهائية كانت ظهور ثورات التحرر الوطني وانهيار النظام الاستعماري القديم، كما كانت النتيجة ظهور النظرية الكينزية بالغة الأهمية في الفكر الاقتصادي، فلماذا لا تنتج الأزمات المركبة الراهنة وضعا امثل لحياة كريمة للإنسان؟ هنا نعود لختام مقال لنا عن الأزمة المالية العالمية في أكتوبر 2008م، الذي انتهي ب: (أن الرأسمالية لم تعطي الحل لمشاكل العالم كما أن سيطرة الامبريالية المالية علي اقتصاد العالم تقوده بخطي متسارعة نحو الانهيار التام وهنا يجب التجرؤ بإعلان أن"الرأسمالية ليست هي الحل ". و لكن ما هو الحل؟ هذا ما يجب البحث عنه). ويجب هذه متضمنة تغيرات الربيع العربي وما ستستقر عليه من أنظمة تكون أول وظائفها القضاء علي التكاليف الاجتماعية الباهظة التي خلفتها عهود التسلط والتبعية للرأسمالية العالمية وتوابعها الإقليمية.

hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]
///////////////

 

آراء