ما بين ظهور مصطلح التنمية لأول مرة، صراحة عند بوجين ستيلي عندما تقدم بمقترح «خطة تنمية العالم» أو كما فهم من كتابات آدم سميث، وظهوره في «الإعلان العالمي عن الحق في التنمية» الصادر من الأمم المتحدة 1986، جرت دماء كثيرة تحت الجسر وفوقه. وحتى مفهوم التنمية، حدثت فيه تحولات وتطورات، بحيث أصبح اليوم يشير إلى التحسين المستدام لشروط حياة الناس على جميع المستويات والجوانب، ويشمل ذلك الجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، إضافة إلى الانسان وطريقة عيشه، والحفاظ على البيئة، وكذلك المشاركة الشعبية في العملية السياسية. والتنمية، من منظور عريض، تتجاوز المظاهر الشكلية مثل التكنولوجيا والانتاج والعمران، وتتركز حول قيمة الفرد وحريته وكرامته.
وعادة ما يقاس نجاح أداء الحكومات بقدرتها على إنجاز مشاريع تنموية تحدث تحولات إيجابية في حياة الناس. وعالميا، تم الاتفاق على وضع مؤشر للتنمية البشرية يتألف من ثلاثة معايير، هي: مستوى الرعاية الصحية، و يشمل أمد الحياة و نسبة وفيات الأطفال، والمستوى الثقافي والتعليمي، و يحدد على أساس نسبتي التعلم والأمية، ومستوى الدخل الفردي، ويُحدد بقسمة الناتج الوطني الإجمالي على عدد السكان.
ووفق مؤشر التنمية البشرية هذا، يتم تصنيف معدل التنمية إلى ضعيف ومتوسط ومرتفع. ومن الواضح أن الحكومة السودانية، حكومة الانقاذ، التي تفاخر بمشاريع استخراج النفط والذهب، تجد نفسها في حرج شديد تجاه وحدة القياس الانجازية وتجاه معايير مؤشر التنمية هذه، لأن في عهدها انهارت مشاريع تنموية عريقة، ظلت شامخة من قبل مجيئها إلى الحكم، كمشروع الجزيرة والسكة حديد والخطوط الجوية ومصانع النسيج…الخ، إضافة إلى الانهيارات الداوية والمؤلمة التي تشهدها قطاعات الصحة والتعليم والتربية والأخلاق. وفي عهدها، ارتبطت في الذهنية السودانية علاقة منطقية راسخة بين الفساد والمشاريع التنموية، فصار الناس يرددون، وكأنهم يعيدون تعريف علم المنطق، تلك الجملة الساخرة: «مادام هناك مشروع تنموي ضخم، إذن هناك مأكلة»…! ولكل ذلك أسبابه المعروفة.
وكما يشير أكثر من ناشط حقوقي وسياسي، فإن إعلان «الحق في التنمية» جعل من التنمية حقا من حقوق الإنسان وليس مجرد «مطالبة» يصرخ بها الأفراد، وللحكومات أن تستجيب أو ترفض. وبالتالي ينتفي أي طابع من وأذى من أعمال الحكومات، وتوضع الحكومات في موقعها الطبيعي كجهاز تنفيذي عادي قابل للمحاسبة والمساءلة من قبل صاحب الحق وهو الشعب. بل وبموجب هذا الحق يمكن أن تتم إقالة الحكومة ومحاكمتها بالتفريط والتقصير. وجاءت موافقة الدول النامية، أو العالم الثالث كما كان يقال، على إعلان «الحق في التنمية» لتعني أن حكومات هذه الدول أصبحت مسؤولة أمام شعوبها عن القيام بالتنمية بكل أبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. أما موافقة الدول المتقدمة، أو العالم الأول، على هذا الحق، فقد جاءت لتعني أن حكومات هذه الدول مسؤولة عن مساعدة الدول النامية التي تفتقر إلى الموارد المالية والفنية الكافية والضرورية لتحقيق التنمية. وجاء برنامج العمل الذي أقره المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان المنعقد في فينا 1993 ليربط بين حقوق الانسان والتنمية، كما ربط بينهما وبين الديمقراطية. وفي الحقيقة، وكما استنتج الكثيرون، فإنّ الديمقراطية تمثل الإطار الذي يوفر أفضل الشروط للتنمية المستدامة. والتجارب التنموية الناجحة المعاصرة، تؤكد وتدلل على العلاقة الجدلية بين التنمية والديموقراطية، حيث تمثل هذه العلاقة مسارا ذا اتجاهين: الديمقراطية توفر آليات ومؤسسات من شأنها أن تمكّن من تحقيق تنمية حقيقية وذات وجه إنساني، وفي نفس الوقت فإن تقدم المسيرة التنموية من شأنه أن يخلق الظروف الموضوعية والمناخ الملائم لترسيخ الممارسات الديمقراطية في المجتمع.
إنّ القضية المركزية في التنمية هي المشاركة الشعبية. وغني عن القول إنّ توسيع هذه المشاركة في عملية صنع القرارات يتطلب تشجيع منابر الحوار وتبادل الأفكار والتعبير عنها بحرية، وإقامة قنوات مفتوحة بين المواطنين والدولة، وإفساح المجال أمام المواطنين لتشكيل منظمات المجتمع المدني التطوعية لتأتي تعبيرا عن خيارات المجتمع. كذلك، فإن تفعيل المشاركة الشعبية يقتضي تكريس سيادة القانون، وتوفير الآليات الفعالة التي يمكن للمواطنين من خلالها ممارسة حقوقهم المنصوص عليها، وأيضا تمكينهم من الحصول على المعلومات والبيانات الضرورية لفهم الواقع والتأثير فيه.
وبالنظر إلى واقع السودان، فإن علاقة التنمية بالديمقراطية تطرح تساؤلا مركزيا حول إمكانية تحقيق التنمية، والأجهزة الأمنية تقف بالمرصاد لأي حركة احتجاجية من أي فرد أو مجموعة؟. فالديمقراطية عندنا مجرد رجع صدى، القضايا تبتدئ وتموت في مهدها، الانتخابات تفصل لصالح الحزب الحاكم ولا تحدث أي أثر في الحياة، فكيف، إذن نتوقع أن تنفض البلاد غبار التخلف لتلحق بقطار التنمية وبركاب القرن الواحد والعشرين؟. وهل يمكن أن يكون الإنسان المكمم والمقموع رأس رمح للتنمية؟ وهل يمكن تحقيق التنمية عندما يكون الهم الأول عند الشباب، صنّاع المستقبل، هو الهجرة والاغتراب في المهاجر والمنافي؟ كيف يتم تحقيق التنمية دون الاعتراف بالآخر وحقه في ممارسة دوره العادي في الحياة اليومية دون مراقبة الأجهزة الأمنية؟ كيف يتم تحقيق التنمية، والقرى النائية تنام وتصحو على أصوات القنابل وقذائف الموت من السماء؟. حال الديمقراطية في السودان يؤكد أن النظام الراهن يعتقد أن التنمية هي صفقات عالمية يقوم بها وجهاء الحزب الحاكم ورجال أعماله، وتفرض بالقوة على الشعب، ازدراء لمشاركته وتجاهلا لرغبته في التأثير على محيطه. وبينما تنتشر الحكايا الشعبية عن الفساد وإهدار المال العام، كثيرا ما يفلت الفاسدون والمفسدون من المحاسبة، بل وكثيرا ما سحبت ملفات الفساد من الصحف، أو تم لجم هذه الصحف بدل أن يلجم الفساد، كأنما الفساد ونهب أموال الدولة والمشاريع الوهمية والأعمال غير المتقنة، كل ذلك تحوّل إلى صفات عادية ومقبولة، وكأنها تفريعات طبيعية لصفات الذكاء والشطارة والحرفنة…، ولا تستوجب المواجهة…!!
٭ نقلا عن القدس العربي