التيجاني يوسف بشير .. طلاوة القصيد وغموضه
د. الطيب النقر
13 August, 2022
13 August, 2022
بسم الله الرحمن الرحيم
الشاعر الخنذيذ التيجاني يوسف بشير رحمه الله كان بلا شك أنموذجاً متفرداً في رقته وشاعريته، فديوانه الخالد «إشراقة» الذي اشتهر بضخامة المعاني، ومتانة المباني، اختلف النقاد حوله اختلافاً عظيماً، واتجهوا في دراسته اتجاهات شتى، ولعل الحفاوة التي لقي بها السودانيون التيجاني على مر الحقب تبرهن بجلاء أن الشاعر الذي طبقت شهرته الآفاق، لم ينبغ في الشعر السوداني مَن بلغ شأوه أو داناه، فقصائده الجياد التي لا يُسْهِر عليها جفناً، ولا يكُدّ فيها طبعاً، لا تجد قصيدة منها تخلو من أبيات تُختار، ومعاني تستفاد، وألفاظ تروق وتعذب، ومما لا يندّ عن ذهن، أو يغيب عن خاطر أن شعر التيجاني الذي يجول فيه رونق الحسن، وتتدفق بين قوافيه سيول الطلاوة، يدل على سعة ثروته اللغوية، فمن يطالع أبياته الشامخات يوقن تماماً بأن شاعرنا المجيد قد استبطن دخائل الأدب العربي، واستجلى غوامضه، يقول قيثارة الشعر السوداني في مجلة الفجر في عددها السابع لعام «1934م» معتزاً ومتباهياً بثقافته الأدبية: «مما نحمد عليه الله أن دراستنا للشعر العربي لم تكن من نوع الدراسات التي يتناولها بعضهم ناقصة من كتب العصر مبتورة من بين الكتاب، ثم يصدرون عنها وهم أشد قنوعاً، وأكثر ثقة في نفوسهم بما فقهوا من صور الأدب، واستظهروا من ألوانه، إنما كانت دراستنا له دراسة استقراء وتفهم يؤسسها انقطاعنا إلى قديمه، أجل مما نحمد عليه الله أن مهد لنا من دراسة الشعر العربي ما يؤهلنا للحكم عليه في ضوء الحديث، والبحث عمّا أثّر فيه من عوامل وعمل فيه من مؤثرات في كل ما مرّ به من أطوار». ولم يكتفِ شاعرنا الخبير بقرض الشعر، البصير بمذاهب الكلام، بالاطلاع على أمهات الكتب الأدبية بل تعداها بحكم دراسته في المعهد العلمي لإدمان كتب المتصوفة والمؤلفات التي تعنى بالفرق والطوائف الدينية، ومن أشهر الكتب التي أقذى عينيه تحت أضواء المصابيح في مطالعتها كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني، و«الرسالة القشيرية» لابن القاسم عبدالكريم هوازن، و«الحكم» لابن عطا السكندري، ويرى الناقد محمد عبد القادر كرف أن هذه الكتب وغيرها أضفت على شعر التيجاني ذلك الغموض الذي تبدى في الكثير من قصائده خاصة في «قلب فيلسوف» و«الله» و«أنبياء الحقيقة» و«الصوفي المعذب
ولعل الغموض الذي يعتري جُلّ قصائد التيجاني لا يمكن أن نعزوه لاستغراق شاعرنا في قراءة كتب الدين والفلسفة وحدها بل للظروف القاسية التي شابت حياة الشاعر من فقر مدقع، وفصل مقذع، وداء مفزع، ولطبيعته المتوثبة التي كانت ترنو بأن يكون لها شأن وقدم راسخة في الأدب، فطائفة من النقاد ترى أن التيجاني كان يهدف من قرض الشعر والتهويمات، وتدبيج الصحف بالمقالات المموسقات، إلي الظهور والحذلقة وإثبات تفوقه على أخدانه وأقرانه، فقد استشعر التيجاني كما يقول هنري رياض صاحب كتاب «التيجاني يوسف بشير شاعراً وناثراً» منافسة حادة بينه وبين زميله وابن عمه عبدالوهاب محمد القاضي من ناحية وبينه وبين شعراء كلية غردون من ناحية أخرى، مثل يوسف مصطفى التني، ومحمد أحمد المحجوب، ومحمد عثمان محجوب، وحسن طه، وذلك فضلاً على أن فصله من المعهد العلمي جعله يحس بضرورة تقديم دليل على تفوقه نتيجة جهده ودراسته الخاصة».
الشاعر الفذ، والناقد المتمكن، المرحوم محمد محمد علي استهجن في سفره القيم «محاولات في النقد» طلاسم الغموض الذي يراه لعنة على الأدب وأبان أن وظيفة الشاعر أو الفنان تنحصر «في شرح احساساته وأفكاره ووضعهما في صور متناسقة مشرقة، وأن يكون صاحب الفن صادق الشعور، يصور عن تجربة نفسية عميقة مكتملة، وأن يكون بعد ذلك بيناً واضح البيان»... الأستاذ الجليل محمد محمد علي عزا الغموض في شعر التيجاني إلى سببين رئيسين أولهما «أن أداته في الأداء لم تنضج فهي ما زالت في ريعان الحداثة الفنية. والثاني يمت بصلة إلى السبب الأول هو أن التيجاني كثيراً ما يهجم على موضوعات لم تعش في نفسه، ولم يكن لها صدى في حياته» وأحسب أن ما ذهب إليه المرحوم محمد محمد علي لم يحالفه الصواب من كل جانب، فالتيجاني الذي هصرته يد الردى، وطوته الغبراء، وهو في ملد الشباب قرّظ الآذان، وشنّف الأسماع، وأسكر الألباب، تماماً كما فعل طرفة بن العبد، فطراءة السن، وحداثة العمر، لا تحط من أفاضل الشعراء، وأكابر المُصنفين، وأعيان المُنشئين، فالفتى الذي يتحفنا بغرر القصائد المنقطعة القرين، لا ينبغي أن ندمغ أي قصور طاف ببعض أبياته بحكم الجبلة لرونق الحداثة، ونغفل عن هضابه الشاهقة التي استعصت على كل معتلٍ، لم يهجم قيثارة الشعر السوداني على موضوعات لم تعش في نفسه طويلاً، كما تفضل من يُعدُ من صاغة القريض، وكماة النقد في بلادي، لم يحدث ذلك، فديوان اشراقة برء من وصمة الصنعة والتكلف، ولم نستشف فيه بوادر الإسفاف والاعتساف.
الدكتور عبدالمجيد عابدين مؤلف كتاب «التيجاني شاعر الجمال» في سفره الجامع لشتيت الفوائد، ومنثور المسائل، أذاع رأياً قميناً بالذكر والاعتبار، فهو يرى أن التيجاني مولع بتجسيم المعاني، وتبادل المحسوسات، ولكن اسرافه فيهما، قد أدى به إلى غموض العبارة وتعقيدها، وكثيراً ما يلقي التيجاني بعبارات غامضة في خلال الأبيات إذ يترك فيها الضمائر مبهمة، لا يعرف القارئ إلامَ تعود على وجه التحقيق، ويترك الصورة غامضة دون توضيح
الغموض في شعر التيجاني «يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتمحيص، وعلى الناقد الذي يريد أن يسبر أغوار هذا الغموض أن يتحلى بالصبر والأناة وقوة العارضة مع حدة البادرة والإلمام بشتى التفاصيل عن حياة الشاعر الذي استبد به الهم، وتكالبت عليه أكتاف الشدائد، حتى سكن نسيسُهُ، وعاجله سهم القضاء.
د. الطيب النقر
nagar_88@yahoo.com
/////////////////////////////
الشاعر الخنذيذ التيجاني يوسف بشير رحمه الله كان بلا شك أنموذجاً متفرداً في رقته وشاعريته، فديوانه الخالد «إشراقة» الذي اشتهر بضخامة المعاني، ومتانة المباني، اختلف النقاد حوله اختلافاً عظيماً، واتجهوا في دراسته اتجاهات شتى، ولعل الحفاوة التي لقي بها السودانيون التيجاني على مر الحقب تبرهن بجلاء أن الشاعر الذي طبقت شهرته الآفاق، لم ينبغ في الشعر السوداني مَن بلغ شأوه أو داناه، فقصائده الجياد التي لا يُسْهِر عليها جفناً، ولا يكُدّ فيها طبعاً، لا تجد قصيدة منها تخلو من أبيات تُختار، ومعاني تستفاد، وألفاظ تروق وتعذب، ومما لا يندّ عن ذهن، أو يغيب عن خاطر أن شعر التيجاني الذي يجول فيه رونق الحسن، وتتدفق بين قوافيه سيول الطلاوة، يدل على سعة ثروته اللغوية، فمن يطالع أبياته الشامخات يوقن تماماً بأن شاعرنا المجيد قد استبطن دخائل الأدب العربي، واستجلى غوامضه، يقول قيثارة الشعر السوداني في مجلة الفجر في عددها السابع لعام «1934م» معتزاً ومتباهياً بثقافته الأدبية: «مما نحمد عليه الله أن دراستنا للشعر العربي لم تكن من نوع الدراسات التي يتناولها بعضهم ناقصة من كتب العصر مبتورة من بين الكتاب، ثم يصدرون عنها وهم أشد قنوعاً، وأكثر ثقة في نفوسهم بما فقهوا من صور الأدب، واستظهروا من ألوانه، إنما كانت دراستنا له دراسة استقراء وتفهم يؤسسها انقطاعنا إلى قديمه، أجل مما نحمد عليه الله أن مهد لنا من دراسة الشعر العربي ما يؤهلنا للحكم عليه في ضوء الحديث، والبحث عمّا أثّر فيه من عوامل وعمل فيه من مؤثرات في كل ما مرّ به من أطوار». ولم يكتفِ شاعرنا الخبير بقرض الشعر، البصير بمذاهب الكلام، بالاطلاع على أمهات الكتب الأدبية بل تعداها بحكم دراسته في المعهد العلمي لإدمان كتب المتصوفة والمؤلفات التي تعنى بالفرق والطوائف الدينية، ومن أشهر الكتب التي أقذى عينيه تحت أضواء المصابيح في مطالعتها كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني، و«الرسالة القشيرية» لابن القاسم عبدالكريم هوازن، و«الحكم» لابن عطا السكندري، ويرى الناقد محمد عبد القادر كرف أن هذه الكتب وغيرها أضفت على شعر التيجاني ذلك الغموض الذي تبدى في الكثير من قصائده خاصة في «قلب فيلسوف» و«الله» و«أنبياء الحقيقة» و«الصوفي المعذب
ولعل الغموض الذي يعتري جُلّ قصائد التيجاني لا يمكن أن نعزوه لاستغراق شاعرنا في قراءة كتب الدين والفلسفة وحدها بل للظروف القاسية التي شابت حياة الشاعر من فقر مدقع، وفصل مقذع، وداء مفزع، ولطبيعته المتوثبة التي كانت ترنو بأن يكون لها شأن وقدم راسخة في الأدب، فطائفة من النقاد ترى أن التيجاني كان يهدف من قرض الشعر والتهويمات، وتدبيج الصحف بالمقالات المموسقات، إلي الظهور والحذلقة وإثبات تفوقه على أخدانه وأقرانه، فقد استشعر التيجاني كما يقول هنري رياض صاحب كتاب «التيجاني يوسف بشير شاعراً وناثراً» منافسة حادة بينه وبين زميله وابن عمه عبدالوهاب محمد القاضي من ناحية وبينه وبين شعراء كلية غردون من ناحية أخرى، مثل يوسف مصطفى التني، ومحمد أحمد المحجوب، ومحمد عثمان محجوب، وحسن طه، وذلك فضلاً على أن فصله من المعهد العلمي جعله يحس بضرورة تقديم دليل على تفوقه نتيجة جهده ودراسته الخاصة».
الشاعر الفذ، والناقد المتمكن، المرحوم محمد محمد علي استهجن في سفره القيم «محاولات في النقد» طلاسم الغموض الذي يراه لعنة على الأدب وأبان أن وظيفة الشاعر أو الفنان تنحصر «في شرح احساساته وأفكاره ووضعهما في صور متناسقة مشرقة، وأن يكون صاحب الفن صادق الشعور، يصور عن تجربة نفسية عميقة مكتملة، وأن يكون بعد ذلك بيناً واضح البيان»... الأستاذ الجليل محمد محمد علي عزا الغموض في شعر التيجاني إلى سببين رئيسين أولهما «أن أداته في الأداء لم تنضج فهي ما زالت في ريعان الحداثة الفنية. والثاني يمت بصلة إلى السبب الأول هو أن التيجاني كثيراً ما يهجم على موضوعات لم تعش في نفسه، ولم يكن لها صدى في حياته» وأحسب أن ما ذهب إليه المرحوم محمد محمد علي لم يحالفه الصواب من كل جانب، فالتيجاني الذي هصرته يد الردى، وطوته الغبراء، وهو في ملد الشباب قرّظ الآذان، وشنّف الأسماع، وأسكر الألباب، تماماً كما فعل طرفة بن العبد، فطراءة السن، وحداثة العمر، لا تحط من أفاضل الشعراء، وأكابر المُصنفين، وأعيان المُنشئين، فالفتى الذي يتحفنا بغرر القصائد المنقطعة القرين، لا ينبغي أن ندمغ أي قصور طاف ببعض أبياته بحكم الجبلة لرونق الحداثة، ونغفل عن هضابه الشاهقة التي استعصت على كل معتلٍ، لم يهجم قيثارة الشعر السوداني على موضوعات لم تعش في نفسه طويلاً، كما تفضل من يُعدُ من صاغة القريض، وكماة النقد في بلادي، لم يحدث ذلك، فديوان اشراقة برء من وصمة الصنعة والتكلف، ولم نستشف فيه بوادر الإسفاف والاعتساف.
الدكتور عبدالمجيد عابدين مؤلف كتاب «التيجاني شاعر الجمال» في سفره الجامع لشتيت الفوائد، ومنثور المسائل، أذاع رأياً قميناً بالذكر والاعتبار، فهو يرى أن التيجاني مولع بتجسيم المعاني، وتبادل المحسوسات، ولكن اسرافه فيهما، قد أدى به إلى غموض العبارة وتعقيدها، وكثيراً ما يلقي التيجاني بعبارات غامضة في خلال الأبيات إذ يترك فيها الضمائر مبهمة، لا يعرف القارئ إلامَ تعود على وجه التحقيق، ويترك الصورة غامضة دون توضيح
الغموض في شعر التيجاني «يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتمحيص، وعلى الناقد الذي يريد أن يسبر أغوار هذا الغموض أن يتحلى بالصبر والأناة وقوة العارضة مع حدة البادرة والإلمام بشتى التفاصيل عن حياة الشاعر الذي استبد به الهم، وتكالبت عليه أكتاف الشدائد، حتى سكن نسيسُهُ، وعاجله سهم القضاء.
د. الطيب النقر
nagar_88@yahoo.com
/////////////////////////////