الثقب الأسود في الذاكرة السودانية ..!

 


 

يحي العوض
13 January, 2018

 

 

تشكل مرحلة الدراسة الثانوية، لمن اختاروا التعليم النظامى بتسلسل مراحله ، قناعة راسخة بأنها مرتكز التكوين والتأسيس وطاقة الانطلاق للمستقبل..وتعيدنا ذكريات تلك المرحلة الى عطبرة الثانوية .. كنا ضمن الدفعة الثانية في تأسيس مدرسة عطبرة الثانوية والتى حظيت بعناية الاستاذ الفاضل عبد الرحمن عبد الله المؤسس واول ناظر لها .. سبقتنا دفعة صديقي المهندس يحيى عبد الرحيم الحسن ، شقيق الفنان محمد الحسن الشايقي ، المبدع المتميز بلهجة الشايقية التى لازمته والتزم بها طول حياته في لندن ونيويورك ، ويغرينى الحديث عنه ،ولا نخرج من سياق ما بدأناه : اتصلت به في لندن وكان يعمل مخرجا في مسرح الاوبرا الملكية ليساعدنى في تصميم ماكيت صحيفة( الفجر) ،وفاجأني بقول صاعق :

..تركت الرسم يا يحيي أعمل الآن ضمن فريق توصيل البيزا الى المنازل ،ما أكسبه يكفيني !

ولاحقته لمعرفة هذا التحول المثير ، وفشلت في تحديد موعد معه ولم أيأس، عثرت على لقاء بالفيديو اجراه معه في مطلع التسعينيات الفنان عبد الحق الدودو ضمن متطلبات بحثه الميداني لرسالة الدكتوراة التي كان يعمل عليها آنذاك حول موضوع المبدعين السودانيين و الإغتراب.ويقول الفنان عبد الحق : في تلك المقابلة اكتشفت الشايقي و مساره و بعض أعماله المتنوعة بين الرسم و الديكور المسرحي [ في دار الأوبرا] و مجموعة من الأعمال الخزفية التي تشهد عن مهارة تقنية و جسارة جمالية عالية المقام. و فوق مهارات التشكيلي يتكشف الشايقي عن حكواتي لا يضاهى تتوالد الحكايات و الطرائف عنده في عفوية و في كرم بلا حدود. لكن الشيئ الأهم ـ في نظري ـ كان هو موقف الشايقي المتميز من مناقشة(الهوية السودانية.) فالشايقي يقف بين ذلك النفر القليل من الفنانين الرواد الذين لم ينشغلوا كثيرا بشاغل الفن كتعبير وطني سودانوي [ مثل الصلحي و شبرين و آخرين] .و هو موقف نقدي يعبر عنه ـ لا بالأدب النقدي المكتوب ـ و إنما السلوك العملي العفوي للفنان الذي ينطلق في دروب الفرادة الجمالية و لا يبالي ما إذا كانت عواقب بحثه الفني ترفد نهر السودانوية أم لا.ويضيف قائلا هذه الأسطر لا تفي بالدين الجمالي الكبير و الخفي الذي ندين به لهذا الفنان الذي عرف بـ" الشايقي" [.ويحكى عن ملابسات تسمية " الشايقي" لأن خيار هذا الإسم عند صاحبنا لم يتم عرضا و إنما لأنه يخفي وراءه مسافة أمنية احتمى بها ذلك الشاب القادم من ديار الشايقية ليدرس الفنون في العاصمة الوطنية في زمن السودنة. قالوا أن المسجل في مكتب شؤون الطلاب بالمعهد الفني سأله عن جنسيته فرد بعفوية " شايقي"، فضحك الوطنيون الخرطوميون و من يومها أطلقوا عليه اسم الشايقي حتى لم يعد أحد يتذكر اسمه الحقيقي.طبعا كان ضحك الزملاء الوطنيين يعبر عن موقف سياسي مصنوع من خامة الأدب الوطني الطوباوي للطبقة الوسطى( العربسلامية) التي نصبت نفسها أمة سودانية في مكان شعب الأشتات العرقية و الثقافية الذي ورثته من دولة الحكم الثنائي.و حين ذهب الشايقي لبريطانيا و استقر يعمل بها و تجنس بجنسيتها فهو لم يذهب كسوداني [ زيه زي أخوانه] و إنما ذهب كـ " شايقي". و أظن أن هوية الشايقي ساعدته في صيانة نفس المسافة الأمنية الحكيمة التي عصمته من فيروس (الهوية السودانية البائدة). و لا أبالغ لو قلت أن صفة " الشايقي" عصمته ايضا من عصاب( الهوية البريطانية البائدة)

2
وعبر الشايقي يحلو تميزت عطبرة الثانوية بكوكبة تربية العضلات والفتونة من أصدقائنا ، ابو الدبر ، ويعقوب جاكسون ، وقحف ومصدر وعلى الله كمبال ووداعة الله نور الدايم والحاج عبدو، وانور محمود حسنين ، ومحمد حسن ستيف نجم الفريق القومي والشبيبة ، وتزامنا مع أوج القضايا الجنائية الغامضة ، الرعب الليلي الذي فرضه احد ظرفاء عطبرة (محمد عواره )الذى اختل عقله فصار يقفز حوائط البيوت الآمنة ويحمل جنزيرا يدمى به رؤوس ضحاياه ..وكانت عطبرة مثل مدن ذلك العصر تحتفي بفتواتها من زمرة مرتادي السجون وحامى و(مفرتقي) الحفلات الليلية وشعارهم ( فيها أو أطفيها ) الذين يدعون حمايتها من هجمات فتوات المدن الاخرى الذين يغيرون عليها ليلا ، كان هناك الجزار برنقة وعروجة وبدين والام الفاضلة( ام النصر) والدة الفتوة المهذب( عريض) الذي ينحاز ل( شكلة) في الشارع لاضعف الخصوم و (يمرمط الأقوياء )، وكان على خصومة دائمة مع محترفى البغاء من الرجال يطاردهم في الشوارع ويرابط ليلا امام منازلهم و (يدقش ) بروسيته العنيفة من يجرؤ على الاقتراب من أبواب هذه المنازل , وتوجت بالمربى الفذ الاستاذ ابراهيم ملاسى وكان( ابو فصلنا) وغرس فينا منذ ذلك الوقت المبكر حب المسرح والقراءة، مبلورا لدور المدرسة في التربية وصقل الموهبة ، وبعدها يأتى دوروسائل الاتصال وتطورها الحتمي بما تضيفه من معارف وتقنيات عبر الانترنت وتناسلاته ، وقبلها المكتبات العامة والخاصة . وحظيت عطبرة بمكتبة البلدية والتى ضمت نفائس الكتب ، وزاد الرصيد المعرفي للمدينة بمكتبة دبورة فكانت من اهم مصادر المعرفة المتجددة ، لاهتمام الرجل بمتابعة كل جديد يصدر من دور النشر في لندن والقاهرة وبيروت . واتسعت دائرة المعرفة برصيد متجدد من كتب التراث باضافات مكتبة (حنتبلي ) وكانت عطبرة مركز الثقل في الحركة الوطنية والنضال لاستقلال السودان ، وتكثفت فيها جهود كل الاحزاب لتأسيس حركة نقابية متقدمة فكرا وتنظيما ، كانت نقابة العمال واتحاد العمال النموذج المتفرد لدور النقابات في الحراك الوطنى ، وقدمت النقابات طلائع قيادية ، ثقافة وتجربة وفكرا ، كان النقابى ملما بقوانين العمل وبالحراك المجتمعى العام ، وكان مدركا بدوره الطليعى نموذجا في نكران الذاتومضحيا بكل شىء من اجل قضيته لا ممتنا ولا متطلعا لاجر او كسب ، كان اول من يوقف عن العمل او يقطع أجره ام يقف امام محاكم التأديب او المحكم الجنائية بتهم التحريض او اثارة الفوضى والتخريب .وبرزت اسماء تفوق رصيدها النضالى ليكون ملهما لاجيال ، منذ سليملن موسى وقاسم امين وموسى متي والشفيع احمد الشيخ وهاشم السعيد، محمد السيد سلام ، وعلى محمد بشير والحاج عبد الرحمن وشيخ الأمين محمد الامين، وعوض الله ابراهيم ،..
السؤال اين هؤلاء في ذاكرة شباب السودان الآن ؟؟؟

yahyaalawad@gmail.com

 

آراء