الثورات العربية ,ضرورة احتواء الاحتواء
د. حسن بشير
2 March, 2012
2 March, 2012
تنشط محاولات احتواء الثورات العربية بمختلف السبل من اجل تفريغها من محتواها والابتعاد بها عن مضمونها الأساسي الذي يصب في مصلحة الشعوب العربية، ونقلها من تسلط أنظمة ديكتاتورية متخلفة الي أنظمة ديمقراطية حديثة، تحقق طموحها في الحرية والكرامة والتداول السلمي للسلطة، والمضي بها في طريق تنمية شاملة متوازنة تحقق مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة وإقامة نظام يراعي متطلبات المجتمع المحدد بمختلف مكوناته العرقية والثقافية، الدينية والنوعية.
من الطبيعي أن يكون هناك طموح في ان تحقق الثورات العربية تلك الأهداف وغيرها معتمدة علي ارثها التاريخي الثقافي وقيمها الاجتماعية العريقة، وليس بالضرورة أن تستنسخ الديمقراطيات الرأسمالية الغربية. إلا أن في الديمقراطيات الغربية سبق أنساني ايجابي يمكن الاستفادة منه وتطويره، إذ أن شعوب العالم الثالث ليست عاطلة أو خالية من الموهبة والإبداع, بالرغم من ويلات القمع والتنكيل ومعاناة الفقر وتخلف الأنظمة التعليمية.ذلك الإرث الإنساني يشتمل علي جوانب قانونية، سياسية، اقتصادية وفي مجال الممارسة العملية المتنوعة الأنماط والمتدرجة في تطورها وفي أساليب التمثيل والتفويض والانتخاب وغيرها من نظم ونماذج تختصر الطريق وتقلل من معاناة التجريب الطويل، الذي يصيب بعض الفئات بالملل والإحباط.
بعيدا عن التناول المثالي لانجازات ما صار يعرف بثورات الربيع العربي،ألا أن تلك الثورات قد تم احتواءها بشكل شبه تام. بدأ هذا الاحتواء بعد نهاية الثورة التونسية الظافرة ومع إرهاصات ثورة 25 يناير في مصر. بعد أن فاجأ الشعب التونسي العالم بثورته, استيقظت القوي المعادية للتحرر الحقيقي للشعوب وعلي رأسها القوي الامبريالية والرجعية الغربية وتوابعها من الأنظمة العربية الأكثر استبدادا، التي لم تقرأ كلمة واحدة في قاموس الحريات والديمقراطية والتقدم الاجتماعي. لكن تلك القوي وبالرغم من رجعيتها إلا أنها استفادت من انجازات الثورة العلمية التكنولوجية في مجال المعلوماتية والإعلام وبما يتوفر لها من موارد مادية ضخمة استطاعت ان تحرك ماكينة خبيثة مكونة من حزم متكاملة ودقيقة الإعداد، علي مستوي الأقطار والإقليم بل وصلت في تمددها الي المنظمات الأممية، ذلك في مخطط محكم لاحتواء الثورات العربية، وقد كانت أول ضحية لها الثورة الليبية التي تمت مصادرتها وتشويهها وملئها بالألغام التي تنتظر الوقت المناسب لتنفجر. ربما يكون الوضع الليبي أفضل حالا، إذ وبالرغم من التنكيل بالخصوم والطريقة البشعة التي تمت بها تصفية ألقذافي وابنه المعتصم وعدد كبير من أتباعه وأتباع عشيرته، وبعد ان أسقطت مئات الألوف من الأبرياء (تصل بعد التقديرات الي 150 ألف قتيل علي الأقل)، بالرغم من كل ذلك فربما تعصم كميات النفط الكبيرة بجودتها العالية ومليارات الدولارات المجمدة والمنهوبة والتي تنتظر التوظيف لمصلحة الغرب المنقذ، قد تعصم ليبيا من انفجار عنيف يهدد تلك الثروات. ربما ستتم تلبية مطالب (الثوار)، التي يصل البعض منها حد الطرافة، مثل تلك الشروط التي وضعتها واحدة من اكبر المليشيات المسيطرة علي طرابلس الغرب، التي طالبت فيها بتوفير أموال وقروض ومساكن ووظائف، إضافة إلي أن (بعض الشباب عزاب ولابد من تزوجيهم)، بعد تلبية تلك الشروط بما فيها إيجاد العرائس (ربما سيتم تحديد مواصفاتهن في المستقبل)، بعد ذلك سيفكر أولئك الثوار في وضع أسلحتهم والتوجه ألي أعمالهم ووظائفهم وعرائسهم.بالطبع إسقاط ألقذافي يعتبر ايجابيا من حيث المبدأ، لكن الشعب الليبي بما يتمتع به من موارد له الحق في التمتع بالتقدم والرفاهية، إضافة لتحقيق السيادة الكاملة علي أرضه وثروته.
اما الوضع في ارض الكنانة فهو أكثر تعقيدا والتباسا، وهذا أمر طبيعي لدولة بوزن مصر. إذا حدث تغيير ديمقراطي حقيقي في مصر فسيطيح بجميع الأنظمة الرجعية في المنطقة، هذا استنتاج بسيط يفهمه حتى تلاميذ المدارس الأولية. من هنا جاء التوظيف في الاحتواء والتشويه ونفض الغبار عن قوي ترقد خارج التاريخ وتمكينها من اعتلاء منابر البرلمان والمجالس والحياة الحزبية وتقديمها كبديل (من خيار الشعب) تم عبر انتخابات حرة ونزيهة. كأن الديمقراطية ونزاهتها تنحصر في الاقتراع وبأي عدد من الناس وبأي تنظيمات وفي ظل إي قانون دون أن يكون ذلك القانون والبناء الذي تم عليه الانتخاب قد تم تأسيسه برؤية شعبية ناضجة ومستنيرة تمثل خيار الأغلبية بعيدا عن القمع العسكري والتآمر والتضليل والإغراء وضخ الأموال البترولية و (الغازية) القادمة من الخليج.
المثال الثالث كان في اليمن وهو خيار خليجي علني.تم بموجبه إزاحة علي عبد الله وتنصيب نائبه في انتخابات معلومة النتائج سلفا، جاءت بالمرشح رئيسا بنسبة (تاريخية) تفوقت علي نسب الاستفتاء التي كانت تنصب حسني مبارك فترة رئاسية تلو أخري. النتيجة ان الوضع غير محسوم والثوار اليمنيون يصرحون كل يوم بان ثورتهم قد تمت مصادرتها دون أن تحقق أهدافها مع بروز حركة نشطة للقاعدة، الحراك الجنوبي الذي يطالب بالانفصال والحوثيين.
أما ما حدث في البحرين فلم يتم تصنيفه كثورة وإنما تم وضعه في خانة التآمر الإيراني الشيعي ضد السنة، وكأن الشيعة (حتى أذا شكلوا أغلبية)، لا يحق لهم نيل الحقوق او التمتع بالديمقراطية والمشاركة في الحكم لاختلاف انتمائهم الطائفي.الأطرف من ذلك كله انه قد تم تحريم التظاهر في المناطق الشرقية من السعودية بحكم مخالفتها للشريعة الإسلامية، وهذا قول لا يستند إلي واقع ولا يدعمه منطق وإلا لأصبحت المظاهرات ضد الإساءة للمصحف الشريف وحرقه في أفغانستان مخالفة للشريعة أيضا.
ربما كان للثورة السورية أن تنتصر منذ فترة طويلة إذا لم يتم التدخل الخارجي السافر الذي غذي توجهات طائفية وعشائرية هددت كيان الدولة السورية ووجودها كدولة موحدة. أدي الاستقطاب الرجعي المذهبي العربي مع الأطماع الغربية الموالية بجنون غير مفهوم لإسرائيل، ومع توفر معلومات استخباراتية دقيقة تتحدث عنها تقارير عالمية (ليست من روسيا والصين فحسب, بل وحتى علي مستوي الإعلام الغربي الذي تشكل الغارديان البريطانية مثالا له), عن ما يحاك لسوريا، أدي ذلك إلي استقطاب مضاد ضم طوائف ومذاهب أخري للاصطفاف خلف النظام السوري خوفا من نظام مشئوم، أكثر سوءا من ديكتاتورية آل الأسد وأنصارهم، كما أدي تكالب القوي الغربية منصورة بالمال الخليجي وتأييد الأنظمة العربية المكونة لجامعة تلك الأنظمة التي تقع بين نيران الحرمان من مال واستثمارات الخليج وإغضاب الدول الغربية ألكبري، إلي استقطاب مضاد مثلته كل من روسيا والصين باستخدام (فيتو) مزدوج والوقوف بصلابة غابت لعقود من الزمان ضد (تكرار السيناريو الليبي في سوريا). النتيجة أن المعادلة في غاية الاختلال لدرجة أدت إلي تشرذم المعارضة السورية نفسها واختلاف رؤاها حول التغيير.
بالرغم من الثبات المبدئي لغالبية قوي المعارضة في الداخل والخارج حول ضرورة التغيير وإدانة قمع النظام, إلا ان خلافاتها حول أسلوب التغيير ومنهجيته كانت جوهرية. تري بعض أطياف المعارضة، خاصة الخارجية، ضرورة التدخل الأجنبي حسب المقترح القطري المدعوم من السعودية وتركيا وإسرائيل، تري أطيافا أخري من نفس المعارضة الخارجية تجنب التدخل الأجنبي مهما كان الثمن لأنه يهدد بقاء الوطن السوري متماسكا. ذهبت بعض تيارات المعارضة الخارجية بالجزم بان أهم سبب في تعطل انتصار الثورة السورية هو استخدام السلاح، باعتبار هذا الأسلوب هو الذي يجيده النظام ولا يمكن مقارعته فيه ببساطة.
النتيجة هي ان الوضع السوري علي درجة من التعقيد تحتمل كل (السيناريوهات)، لكن الخوف من نتائج التدخل الأجنبي ومصير الحرب الأهلية جعل الكثيرين ومنهم أنظمة غربية تراجع موقفها نسبة لحساسية سوريا والمنطقة وفلكها الإقليمي والدولي, وليس بعيدا عن الأذهان الحرب الأهلية في لبنان الذي يعتبر اقل خطورة، التي مازالت تداعياتها ماثلة حتى اليوم.هذا الأمر ادخل الكثير من الناس في حيرة حول التساؤل عن كيفية التغيير وجدواه. هناك العديد من الاتجاهات تؤيد تعيير النظام في سوريا منها أنصار الديمقراطية والحرية الحقيقيين، منها قوي اليسار المعادية لحزب البحث وهم كثر، منهم الأنظمة الرجعية العربية المعادية للنظام السوري من حيث المبدأ، من حيث المواقف ولأسباب عقائدية وطائفية، منهم القوي التي تريد عزل إيران قبل الهجوم عليها وتدمير برنامجها النووي، مقروءة مع عزل إيران عن حزب الله في لبنان، منهم تركيا الساعية إلي إعادة أمجاد الامبروطورية العثمانية، مع تداخل تلك الأطماع مع عضويتها في حلف الناتو التي تضعها كراس حربة للحلف في المنطقة العربية - الإسلامية، ومنهم إسرائيل التي من مصلحتها تضعضع الأوضاع في سوريا وإضعافها وإنهاكها كدولة وإلحاقها بالعراق، أو بمصير أسوأ، هذا الوضع مثالي لإسرائيل رغم مغالطة البعض بان سوريا لم تفعل شيء ضد الدولة العبرية.
لا ينكر احد له ادني مصلحة في الحرية والديمقراطية ويطمح ان يكتسب كرامة شخصية أو قومية ويحافظ عليها، او من له رؤية ولو قليلة عن مصلحة وطنه في التغيير الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، الذي يعتبر شرطا للعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وإحداث تنمية شاملة متوازنة، لا ينكر ولا ينبغي له أهمية إطاحة ثورات الربيع العربي بأنظمة ديكتاتورية وزلزلت الأرض تحت أقدام قوي الاستبداد والطغيان، التي تعتقد ان الدنيا قد دانت لها وأنها خالدة في الحكم والسيطرة. لا ينكر احد ان الثورات العربية قد وضعت مسارا جديدا للتحرر والانعتاق من العبودية والذل وسلب الكرامة والإقصاء. إلا أن محاولات الاحتواء في رأيٌ، لا يمكن إنكارها او مداراتها عن الأنظار فهي مكشوفة ولديها أهداف لن تتراجع عن تحقيقها إلا إذا أجبرت علي ذلك وتمت هزيمتها بشكل تام ونهائي.
من أهداف الاحتواء منع الثورات من تحقيق نهضة سياسية – اقتصادية- اجتماعية شاملة في الدول العربية وبالتالي تهديد المصالح الغربية والرجعية العربية ، كما ان الثورات العربية تنهي الحاجة الي خلق فوضي لإعادة تشكيل المنطقة، لأنها هي (إي الثورات)، التي ستقوم بمهمة إعادة التشكيل والبناء، وهنا يظهر سؤال عن اي نوع من البناء يجب ان يكون الحديث؟ أما الوسائل فهي متعددة بعضها ما تم الكشف عنه في مصر من قبل جماعات وأشخاص لا يمكن التشكيك في مواقفهم التاريخية او دورهم في الثورة. من تلك الوسائل التمويل من مختلف المصادر ولجهات منها أحزاب وجماعات ومنظمات كل منها يخدم مصالح بعينها تتوقف علي مغدقي التمويل، الأسلوب العسكري، أسلوب الفتن والاستقطاب الطائفي، دعم الجماعات الأصولية والرجعية للسيطرة عبر صناديق الاقتراع والخ. في هذه الحالة فان الفوضي ضرورية لمنع الثورات العربية من تحقيق أهدافها ولجمها عن الوصول الي عروش أنظمة عربية تشكل صروح المصالح الغربية – الامبريالية – الصهيونية في المنطقة.
من هنا لابد للقوي الثورية العربية بمختلف مكوناتها ان تنهض وتعيد تقييم مواقفها وإعادة قراءة المصطلحات والمفاهيم، وإعادة توظيف إمكانياتها وقدراتها للبدء في العمل بجدية لاحتواء العمليات الجارية لاحتواء الثورات العربية وإجهاضها. هذا هو الوقت المناسب للعمل بكل همة ونشاط وعبر مختلف السبل لهزيمة القوي التي تعمل ليل نهار علي احتواء الحراك العربي نحو الحرية والديمقراطية والعدالة والتقدم الاجتماعي. والوسائل متاحة، فبالرغم من القدرات المالية والإعلامية الهائلة للقوي المعادية للتغيير الحقيقي, إلا ان التاريخ لا يسير في اتجاه مصالحها، إذ أن القوي المضادة تعمل تحت مظلة أنظمة فقدت صلاحيتها وهي أنظمة معادية للشعوب وتعمل بخطاب ورؤية متخلفة لا تواكب روح العصر او ترضي طموحات شباب القرن الحادي والعشرين، إضافة إلي أنها أنظمة وبالرغم من إمكانياتها فهي تعاني من تبعات أزمة النظام الرأسمالي العالمي وتتهدد أموالها الموظفة في الأصول المالية الغربية بالتآكل والانحدار.
من أهم أدوات التغيير العمل علي تغيير الأنظمة التعليمية والتربوية التي تعلم البلادة والعاطلة والكسل الذهني، كما تحارب الابتكار والإبداع وإعمال العقل والخيال المبدع.كما تبرز ضرورة اختراق الخطاب الإعلامي الموجه الذي تسود سماءه فضائيات مضللة او فارغة المحتوي تروج للهو الرخيص وتروج لبضاعة التهتك الذهني والبدني، والعمل بدلا عن ذلك علي غرس روح القيم التي تعلي دور العمل والعطاء والصدق والإنصاف والنزاهة.
يقدم العلم وتكنولوجيا المعلومات والعالم الافتراضي مساحة كبيرة للحركة والعمل من اجل بناء أسس جديدة متينة للتغيير وإتقان تفجير الثورات والسير بها نحو أهداف واضحة والمحافظة عليها وحمايتها. يحتاج ذلك لقوة الإرادة والتصميم والمضي في المعركة حتي نهاياتها وإيجاد المصادر اللازمة، المستقلة المؤسسة بشكل جيد للتمويل. والاهم من ذلك كله هو الطرق بشدة علي ايجابيات ثورات الربيع العربي ومنع الإحباط والتخاذل من التسلل الي روح الثوار الحقيقيين، خاصة الشباب منهم. فلتبدأ إذن معركة احتواء الاحتواء لثورات الربيع العربي وهزيمة الثورة المضادة.
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]