الثورة السودانية …. عقبات ومالآت

 


 

 

 

تتفادى المنظومة السياسية الالتزام بمقررات الثورة والعمل وفق مقتضيات التكليف، فهي تتلكأ في دفع مستحقات السلام، وتتباطأ مفضلة الارتكاس على الإيفاء بشرط المواطنة، الذي يتطلب جلوس الكل في طاولة على حد سواء، دون الاعتماد على أسس للتميز أو التفضيل غير تلك التي تفترضها ضوابط وأساسيات التنظيم. بخلقهم العراقيل واعتمادهم التوجس، هم بعد لم يدركوا خطر الفرقة والانتقاص من صدقية، إذا لم نقل عدالة مطلبية، الجبهة الثورية وسُمُوِّ قضيتها، لأنهم كانوا وما زالوا بعيدين عن معنى المسئولية العمومية.

لم تكد بشائر السلام تلوح، حتى أعلنت المنظومة، بكل مكوناتها السياسية والثقافية النَّاشطية، عن فشلها في "تشكيل الإطار القيادي الوطني المنشود" كما أعربت عن إفلاسها في تبني فلسفة أخلاقية تجعل الصراع فيما بينها تنافسياً، والصراع مع خصومها احتداما لا يقبل التنازل والتسوية، سيما وأن الغاية هي نشدان الحرية والكرامة الإنسانية. أعتقد أن تشييد "مجلس حكماء" سيغني السودان في الوقت الحالي، عن حيل الاستقطاب ودواعي الإرباك التي تحدثها الانتخابات في بلاد لم يصمم دستورها، ولم تُحَدِد بعد أطراً للمؤتمر "الدستوري؟" المزمع قيامه.

لمراقبة أداء الحكومة لابد من الاتفاق على "حكومة ظل"، تقي البلاد شر الفراغ الدستوري، وتفسح المجال لتداول الآراء خارج دائرة الشللية، وبعيداً عن مناط التكليف الشخصي. إذا كانت "الوثيقة الدستورية" المعيبة قد ألزمت الحكومة المدنية التنسيق مع العسكر، فهذا الخضوع لإرادتهم غير مقبول، مهما بدت المبررات والمسببات. تُسهم المؤسسة العسكرية ذات الطابع الاحترافي المهني في رفعة البلاد، إذا كانت خاضعة لمقتضيات التكليف المدني الديمقراطي، وتكون وبالاً على البلاد إذا استفردت بالرأي وأُعطيت مجالاً للمناورة.

لم تجد(قحت) وقياداتها مؤخراً أي حرج، وهي تولي مهمة اللجنة الاقتصادية العليا وبعض اللجان الأخرى للعسكر، بل لم يستنكف حمدوك (الخبير الأممي) هو وطاقمه الاصطفاف خلف حميدتي، وهو يعطي تنويراً عن الكيفية الأمنية التي سيقاومون بها ارتفاع الدولار وتضخم العملة السودانية، ذلك أنهم يريدون شراء الوقت كيما تصل البعثة الأممية، فيستطيعون تدبر حيلة تخرجهم من غرفة الإنعاش الوقتي.

لقد كانت الفرصة مواتية بعد انتصار الثورة السودانية واقتلاعها نظام الإنقاذ، في بناء إستراتيجية عسكرية وطنية تجمع الفصائل الثورية، بيد أن كثيراً منها قد تحول إلى مشاريع خاصة، افتقر قادتها إلى الحافز الثوري أو السياسي، وانتفت أجندتها المدنية والديمقراطية، ما أفسح المجال واسعاً لصعود الأجندة الإقليمية، في ظل تغييب المثقفين والمفكرين من الهامش، وترسيم الوصاية الدولية على الدولة السودانية، وقد كانت محددة أطرها حتى قريب على دارفور، جنوب كردفان جبال النوبة.

ظللت أقول و أكرر بأنه ليس من مصلحة الحلو وجماعته، ولا من مصلحة الشعوب السودانية، أن يضعوا أجندة الحركة الشعبية – قطاع الشمال، في مواجهة الأجندة الديمقراطية التي تحتل في هذه الحقبة الموقع المركزي في الكفاح الوطني والشعبي في مجتمعات الهامش، التي خرجت من المركزية بمقدار ما عانت من فشلها. وقد ظل موقفي أن (قحت) والجهازين السيادي والتنفيذي ليسا ممثلين للشعب السوداني، ولا يستطيعان أن يحلا محله في تقرير مصير السودان وتحديد بنية الدولة فيه، فليس لأحد أن يمنع الحلو من الاحتفاظَ بفكرة الفيدرالية أو العلمانية كمطلب للمستقبل، عندما يتحقق التحول السياسي المنشود، وتوجد الشروط التي تسمح للشعب السوداني بتقرير مصيره من خلال ممثلين منتخبين يعبرون عن إرادة السكان ويستمدون الشرعية القانونية منهم.

لا أعتقد أن من ضحوا بأرواحهم لتحقيق الحرية والكرامة الإنسانية، سيبحثون عن ذريعة في هذه الظروف العصيبة للتخلي أو التخذيل عن الأجندة الثورية الديمقراطية. إن كتلته مهما عظمت، فهي أضعف من أن تحمل لوحدها عبء القضية السودانية برمتها. ينطبق هذا الأمر على المجموعات التي تتولى زمام الأمر التنفيذي في المناطق المحررة، كما ينطبق على المجموعات التي تحكم الخرطوم بسياسة الأمر الواقع.

مع تحول الحكم المدني الحالي إلى حكم عصبوي، عشائري وأيديولوجي، تماماً مثلما حدث في انقلاب يوليو 71، وتراجع الفاعلية الثورية، في الأقل على المستوى الرسمي، وزوال شروط استمرارها في ظل هيمنة العسكر، سوف يزداد التعلق بوهم التدخل الدولي، على أنه الحل الوحيد "للتمكين الذاتي"، كما تحدث عنه بعض أعضاء حكومة الفترة الانتقالية. علماً بأننا ظللنا نقول بأنه لا يمكن التعويض عن العجز الداخلي بمحاولة إسناد خارجية، كان حريَّاً بحمدوك الاعتماد على العناصر السودانية في تحديد معالم الإستراتيجية الوطنية، رسم الشكل الأولي للهيكل الإداري، تبيان الوصف الوظيفي، توصيف لوغوس الجودة وإدارة الإداء و.... إلى آخره. وقتئذ يمكن لحمدوك وحكومته تحديد النواقص الإدارية، والتعريف بالعقبات المؤسسية كي يتسنى للمجتمع الدولي مساعدته.

وإنَّ المرء ليتساءل: كيف حدث هذا الانحدار المروع من السمو الأخلاقي الذي انتدبتنا له الثورة، إلى الأثرة والنرجسية في أقل من عام؟ كيف عجزنا عن تثمين تضحيات السودانيين وتحويلها إلى إنجازات سياسية؟ أم إننا ببساطة كنا سذجاً حين ظننا أن الثورة ستدفع الجميع إلى السمو بأفكارهم ومشاعرهم وتطلعاتهم؟ هل هي طبيعة الثورات التي غالباً ما تخرج من أتون استبداد وأنظمة جردتها من هويتها السياسية، ومزقت لحمتها الوطنية أم إنها إشكالات إرثنا السياسي والاجتماعي؟ أم إن الاستبداد يضع الإرث في محك التجربة والامتحان؟ هل يمكن أن نقوم ببناء أجندة ديمقراطية متقلدين ذات النهج – نهج الإقصاء – الذي اتبعته لعقود ثلاثة خلت الفئة الباغية؟

لم يسبق للأحزاب السودانية أن ربطت بين الصراع على السلطة وغايات التغيير الاجتماعي، ولذا فقد كان لزاماً فشلها في وضع الخطط التنموية والبرامج التي تنظر للمجتمع "بدلالة المستقبل ومواكبة العصر" (غليون، ص:20). كانت فترة الثلاثة عقود كافية للانكفاء على البحث العلمي والتعمق في مسألة التحول الاجتماعي، للكشف عن مواطن الإعاقة الذاتية والموضوعية، ولكن هيهات، فقد استنكفت الحكومة برئاسة حمدوك، عن التواصل مع المجموعات العلمية والبحثية التي تتواجد في الدياسبورا، وقَصُرت تعاونها مع المجموعات اليسارية والشلليات التي كانت من وراء تعيين حمدوك، رغم أن الخبراء السودانيين من كافة الأطياف وفي شتى نواحي المعمورة، كانوا وما زالوا، في غاية الحماس والاستعداد لفعل ما من شأنه أن يسهم في رفعة الوطن.

بالرغم عن تقدم حكومة حمدوك في ميدان الاعتراف الدولي بالثورة السودانية، إلا أنها أخفقت حتى الآن، في تحقيق إنجازات سياسية تعينها على قلب المناخات النفسية والاجتماعية المتردية، فالشعب تقوده اليوم ثلاث مجموعات لا يمكن لها أن تعمل ضمن أفق وطني إنساني، في غياب منطق السياسة وحساباتها العقلية، (غليون، ص:321):

• مجموعة تُعَرِّف نفسها وتحدد هويتها بدلالة التميز عن الشعب إلى درجة التناقض مع قيمه وهويته.
• مجموعة تَعْتَمِد مبدأ المحايثة، بمعنى إنّها تجاور المجتمع، لكنها لا تملك أي خطوات للتواصل، دعك عن التفاعل معه.
• مجموعة تُناور من على البعد، علها تجد فرصة لاستثمار فشل المجموعتين الاخُرَيين، لكنها لا تملك الجرأة على تحمل مسئولية فشلت في أدائها طيلة ثلاثة عقود متتالية.

يصعب في ظل هيمنة هذه الفئات الطفيلية (التي اعتمدت أساليباً غير أصيلة)، وإحكام قبضتها علي مفاصل الاقتصاد والسياسة، تشجيع الاستثمار المعنوي كما الاعتناء بالتحديث والتطوير التنموي. كلما طال أمد المحاسيب، واستطاعوا شرعنة "اقتصاد النهب" واعتمدوا "حيل التمايز"، كلما نجحوا في تحويل المجتمع بأسره، إلى جسم فائض لا رجاء منه ولا نفع. كي نحد من أثر هذا الفساد وذاك الاستئثار، لابد من ترافق الإصلاح الاقتصادي بإصلاح سياسي، يعطي الشعبَ الحدَّ الأدنى من الرقابة على سياسات النخب الحاكمة.

اقترح الإعداد "لإعلان السلام والتعمير" كوثيقة يمكن أن تكون جامعة ونافعة، فالإعلان الحالي قد مزقه أعضاؤه بتهاونهم وتآمرهم قبل أن تهزأ منه عاديات الأيام. إن جوهر فن رجل الدولة، كما يقول برهان غليون في كتابه عَطَب الذات/وقائع ثورة لم تكتمل، "هو الالتفاف على عوامل التفريق والانقسام داخل المجتمعات، وتجسيدها في سبيل تأليف القوى وتوليد إرادة عابرة لها" (غليون، ص: 36).

auwaab@gmail.com

 

آراء