الثورة السودانية – مجلس السيادة ومَنْ أَحقّنا بعضويته

 


 

 

 

 

02 مايو 2019

مدخل
“--- Back to the drawing board”
"فلنعد الى طاولة التصميم "
عبارة بسيطة يلجأ اليها المهندسون عندما تطرأ مستجدات تستدعى أخذها في الحسبان في التصميم، او حتى اذا شعروا بضرورة ايضاح بعض المصطلحات او إدخال معطيات جديدة في معادلة التصميم. ويعني المنهج بعبارة أخرى العودة الى منصة التأسيس لمراجعة العوامل الأولية التي بُنى عليها التصميم والتأكد منها. وهي دائماً دعوة للتفكير المتأمل ودعوة للمراجعة وإزالة اللبس. كما هي دعوة للفهم الصجيح لكل العوامل المحيطة بالأمر. وها قد أبان العسكر نيتهم (المعروفة سلفا لأي مراقب حصيف للشأن السياسي) فلا بأس من العودة الى منصة التأسيس. ففي ذلك خير. فالسودان مقبل على بداية صحيحة تضع الحصان أمام العرية، لأول مرة، كما ينبغي له أن يكون.

مجلس السيادة
مجلس السيادة مجلس تشريفي فقط؛ يمثل، عادةً، فيما أرى، رأس الدولة في النظام البرلماني. ليس له سلطات تنفيذية أو تشريعية أو قضائية. مهامه واختصاصاته (السيادية) يمكن إدراجها بتفصيل معقول في ورقة من صفحتين أو ثلاثة على الأكثر تشمل كل ما يتفق عليه في إطار التعريف اعلاه بحيث لا يحق له التدخل في مهام السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. ولو كان الرأي عندي لطلبت من الأستاذ نبيل أديب المحامي أن يقوم بكتابة هذه المهام، بالمشاورة مع من يختارهم من زملاء مهنته مستصحبين في ذلك تجارب أمم مماثلة، في إطار الدستور الانتقالي المرتقب لتكون صالحة للعمل بها في خلال الفترة (التمهيدية) القصيرة التي تسبق (الفترة الانتقالية). وقد بدأت هذه (الفترة التمهيدية) بالفعل في الحادي عشر من ابريل المنصرم وسنظل فيها الى أن يتم التوافق التام على مهام واختصاصات المجالس الأخرى (تنفيذية وتشريعية) وخلافه ويتم التوافق على طول الفترة الانتقالية ووضع الضوابط(checks and balances) لعملها .

عضوية مجلس السيادة
أما عضوية مجلس السيادة فيا حبذا لو قُدمت مقاعدها تشريفا لمن شهدت لهم هذه الثورة بتضحيات نضالية كبيرة وبذلٌ مشهود، مثل الأستاذ على محمود حسنين والمهندس صديق يوسف وربما آخرين يماثلوهما في العطاء والتجرد. كما ينبغي أن تُمثل فيه المرأة السودانية العاملة في الحقل السياسي والمرأة الشابة ممن قامت هذه الثورة على أكتافهن. ولو سُألت لأرشح اسما لما ترددتُ في ترشيح الأستاة سارة نقدالله (في الحقل السياسي) وأخرى من شابات الثورة أو من الأمهات مثل الأستاذة زينب بدرالدين - ممثلة لأمهات المعتقلين المعذبين في سجون النظام الساقط وكيف ناضلت هذه الكنداكة الشجاعة دون خوفٍ أو وجل في وقت سكت فيه الكثيرون عن تجاوزات جهاز الأمن والمخابرات اللا وطني.

وحتى لا يظنن ظانٌ أن لي مصلحة ما في هذا الترشيح أقول هنا، تقريرا، إنه ليست لي معرفة شخصية أو علاقة قربى أو عمل أو رايطة حزب أو قبيلة أو مصاهرة أو خلافه بأي ممن ذكرتهم أعلاه رجالا كانوا أم نساء سوى رابطة الوطن الذي أحسُ أن مثل هذا الاختيار سيرضيه. هذا التمثيل تشريفي للفترة التمهيدية القصيرة التي يتم من خلالها التأسيس المتمهل للفترة الانتقالية حيث يمكن وقتها رسم الهياكل والخطط لكل مستويات الحكم (الانتقالي) بالتفصيل المطلوب . ولمن لاحظ أنني أعطيت الغلبة للعنصر النسائي في مجلس السيادة فهو كذلك؛ لأنها غلبة مستحقة تنصف دورهن الرائد في هذه الثورة. بل وترسل رسالة للعالم أجمع أننا قومٌ ذوي حضارة راسخة في التاريخ.

واحيل القارئ لمقالي المنشور في منتصف الشهر الماضي بمنبر الرأي تحت اسمي في "سودانايل" عن ضرورة (الفترة التمهيدية) منقول هنا أدناه بتصرف لتكتمل الصورة.
---------------
مجلس سيادة الثورة - وضرورة (الفترة التمهيدية)
بقلم: بَلّه البَكْري*
13 أبريل 2019
"الشعب السوداني شعبٌ حباه المولى بأصايل الطباع "
الأستاذ محمود محمد طه
الحشود المدهشة في العاصمة الخرطوم ومدن السودان التي جعلت العالم يتفرج فاغراً فاهه لا يدري كيف يتعامل مع هذا الحدث التاريخي الهائل. حشودٌ أدخلت الخوف والهلع في نفوس حكام دول الجوار التي تكتم أنفاس شعوبها فامتنعوا عن نصرة الحق؛ بل منهم من فارق أبسط قواعد الديكورم العالمي بين الدول وروح القانون الدولي فتدخلوا سرّاً لمد يد العون للطاغية وزمرة مجرميه. استمرأ هؤلاء الحكام حلب البقرة السودانية المريّة و استهبال راعيها الأهبل الذي لا يفِّرق بين المِحْوِيت والشبّال. فحوتها لهم دون أن يدري! ولذا وجدوا فيه عميلا طيّعا ومأمورا يقدم لهم الخدمات تحت الطلب: أرض للبيع الرخيص، مناجم ذهب وحديد ومعادن ثمينة، مخزون غاز وبترول استراتيحي، مزارع برسيم بماء النيل لأغنامهم، مراتع صيد لصبيانهم، تجنيس بدون، مرتزقة بسلاحهم عند الطلب، وكل بنود النخاسة السياسية. ولذا أصابهم الهلع لفقد هذا الحليف المدهش، الراعي الأبله، وكل الخيرات التي ستذهب بذهابه. احجموا عن نصرة الحق فزادونا إصرارا على بلوغه؛ بل والسير نحو القمة في أدب الثورات في القرن الواحد وعشرين، إن لم يكن في كل القرون. فالإرث الحضاري للشعوب شبيه ب ال "دي.إن.إي) (DNA) لدي البشر؛ فهو الذي يحدد مصيرها. ومن كان ال "دي. إن. إي" لديه يمر ببوابة الحضارة الإنسانية الأولى كلها في كوش وكرمة ومروى وكل الإرث النوبي العريق فلا خوف عليه ولا يحزن. هكذا نهض في سماء الخرطوم ماردٌ طال حبسه. فليسمع العالم ويعي.

أظهرت الثورة السودانية خصالا طالما عرفها العالم عن السودانيين أفرادا ومجموعات صغيرة. لكنهم لم يروها في كل الشعب بهذا الحجم. من هذه الخصال التعامل المتحضّر؛ والروح التكافلية. الكرم. المروءة. الشجاعة. الخلق القويم. السماحة. الدعابة اللطيفة. الفن بكل ضروبه؛ والإيمان بأعمق صوره. ما أدهش الكل تقريبا هو الحشد الجماهيري الهائل الذي جاءت به الثورة. و الآن وقد جاء النصر – تماما كما تنبأنا به – فعلينا أن نتذكر حكمة أبائنا وأجداننا الذين تشربنا منهم كل هذه الخصال السمحة والتفكر في الطريق الى الأمام. فهذا شعب لا تجدي معه أنصاف الحلول. وعلينا أن نضع اللبنات الصحيحة للنهوص بوطننا. فليس أكرم للأنسان من وطنه.

قلنا في مقال سابق أنه لنجاح الثورة لابد من تفادي خطيئة أبريل 1985م بأضلاعها الثلاثة : حكم العسكر؛ والفترة الانتقالية القصيرة والتي يتم الدخول فيها باستعجال يؤدي لتسليم الحكم لنفس الطاقم القديم ولو بعد عام؛ وغياب الحكم المدني في الفترة الانتقالية.
إذن، بالنسبة للوضع الراهن:
(1) لا لحكم العسكر ومجلسهم العسكري؛
(2) لابد من (فترة تمهيدية) قصيرة ؛
(3) تعقبها فترة انتقالية أطول نسبيا يتم التفاكر في عملها ويرنامجها ودستورها بتمهل.
فلا داعي للاستعجال البتة. لأن الدخول في فترة انتقالية طويلة، دون تمهيد، محفوف بمخاطر جمة لا تخفى على أحد. ثمّ أنّ وجود العسكر في الحكم في مرحلة مفصلية كهذه لا يستقيم عقلا. فهي (المرحلة) التي تتطلب النقاش المستفيض والخلاف المسبّب في الآراء، وهو عكس طبيعة وتربية أفراد المؤسسة العسكرية التي تربت على السمع والطاعة وسيادة الرتبة الكبيرة، مهما تواضع حظ البعض من حامليها في المنطق وبعد النظر. الجيش الآن في حمى الشعب وليس الشعب في حمي الجيش. وخاصة بعد أن أثبتوا للشعب أنهم أبناؤه وانهم سيحموه من أوغاد السياسية وكتائب ظلهم المجرمة ومن ألاعيب المندسين الذين أمروا بقتل الثوار في هذه الثورة وفي سبتمبر 2013م. قوة هذه الثورة هي في وحدة القوى الثورية وسلمية مسلك الثوار اللذان تتحقا بصورة أدهشت الجميع. ومطالب الثورة هي اسقاط النظام (الكيزاني) جملة وتفصيلا بكل رموزه ومؤسساته وليس فقط تنحية رئيسه. ومن ثمّ التحول الديمقراطي على هدي دستور مدني يقوم على عمد الحريّة، والسلام والعدالة - شعارات الثورة.

الخطوة القادمة في هذه المسيرة الظافرة هي تكوين "مجلس سيادة الثورة" المدني المؤهل للقيام بمهام المرحلة. وتتلخص الفكرة فيما قلنا به في المقال السابق بتاريح 07 ابريل 2019 بعنوان "الثورة والفترة التمهيدية – دعوة للتفاكر"، والذي نقتبس منه الآتي :

"عليه، وللأسباب الموضوعية أعلاه يصبح أمر حكومة (الفترة التمهيدية) متروكا لقوى الثورة السودانية بعيدا عن أي تدخل عسكري من أي نوع. هذه القوى ممثلة في قوى "الحرية والتغيير" بكل مكوناتها الشبابية و المدنية والحزبية والمهنية والنسوية وغيرها لتنتخب من تشاء بشرط الالتزام الصارم بميثاق (الفترة التمهيدية) ومنصوص الشرعية الثورية الذي يمكن نسخه والاتفاق عليه. ولتكن الفترة التمهيدية قصيرة لمدة ستة شهور تمهد من خلالها ل(فترة انتقالية) أطول كما يتفق. فالدخول مباشرة في فترة انتقالية طويلة الأمد محفوف بمخاطر شتى، هذا بخلاف إنه غير ممكن عملياً لانعدام الأسس التي تقوم عليها الفترة الانتقالية. والأخيرة تحتاج لوفاق وطني وفترة تمهيدية كافية للإعداد السليم خلال هذه "الفترة التمهيدية". فقد آن الأوان بعد كل عهود المهانة التي تعرض لها الوطن وتراكم الأخطاء السياسية أن نعود بحسنا السياسي الى "البداهة الانسانية" ( basic common sense ) في حدها الأدنى – التعلم من أخطائنا وأخطاء الآخرين".
فليتم الآن تكوين هذا مجلس السيادة وإعلان عضويته، كما يتعين أيضا تكوين الحكومة الانتقالية وإعلان عضويتها، دونما اكتراث لما يفكر فيه المجلس العسكري الانتقالي الذي لا شرعية له.
انتهى
ballah.el.bakry@gmail.com
=========================
* الكاتب مهندس مدني، عضو معهد المهندسين المدنيين وأكاديمية الخبراء في لندن وزميل معهد التحكيم الدولي في المملكة المتحدة ويعمل رئيسا تنفيذيا لشركة خبراء هندسية في الشرق الأقصى

 

آراء