الثورة السودانية و”آرْجِي بَارْجي” السِّياسة! – عن أهميّة الوقت والتوقيت

 


 

 

 


23 ابريل 2019
مدخل
“--- a week is a long time in politics”
Harold Wilson
"أسبوعٌ فقط، وقتٌ طويل في السياسة "
هذه ترجمة، من عندي، غير حرفية، لجزءٍ من مقولة تنسب ل"هارولد ويلسون" رئيس وزراء بريطانيا السابق في الفترة من 1964م - 1976م على فترتين؛ والتي تقول لمن يشتغلون بالشأن السياسي أن ينتبهوا لأهمية الوقت والتوقيت في السياسة؛ وأن ما يبدو وقتا قصيرا بحساب الزمن العادي هو في حقيقة الأمر طويلٌ، جداً، في السياسة يمكن أن تنقلب فيه الأمور رأساً على عقب بل وتتغير فيه حظوظ أي حزب أو جماعة سياسية تغيرا تاما.

على من ثار أبناؤنا ؟
لعل أصدق ما قيل عن الأسباب الكامنة وراء اندلاع الثورة السودانية بهذه القوة والصدق والعنفوان، بقيادة الجيل الجديد من ابنائنا وبناتنا الشباب وبحضور قوي من المرأة الشابة ما قال به أحد الأصدقاء في صفحته على الفيس.بوك* أنقله هنا، بعد إذنه، بتصرف حيث يقول:
" إن كنت تريد أن ترى تقييماً صادقاً لفكرك و سلوكك فانطر الى ابنك. ابنك يقلدك بالفطرة ولا يخالفك إلا إذا وجد فيك شططاً وعيباً يصعب عليه قبوله أو التعايش معه. وابنك هو أكثر الناس مقدرةً على معرفة مدى توافق قولك مع عملك وتوافق عملك مع قناعاتك. فأنت تستطيع خداع نفسك وتجد لها المبررات، كما تستطيع التظاهر للآخرين بصورة تناقض حقيقتك، لكنك لا تستطيع غش ابنائك. وإذا اكتشف الابن خللاً في نهج أبيه وسلوكه أو عجزاً منه في اقناعه فالغالب إنه سيفارقه للنقيض. لن ندلل على ذلك بذكر فردٍ معين ولكن هناك مجتمعات كاملة عجزت أن تقنع ابناءها بنهجها؛ فتشدُّد وتبعية الآباء في الجزيرة أبا دفع الابناء للنَّحْو نَحْوَ اليسار. كما أنّ الحركة الإسلامية لم تعد تلد إسلاميين لأنها فسدت. وكذلك المهاجرون منا المجنسون في الغرب صار بعض أبناؤهم وبناتهم دواعش؛ وأصبح جيل الشباب الثائرون يفارقون كل الأحزاب يمينها ويسارها. ولهذا خرج علينا ابناؤنا ثائرين ضدنا جميعاً وليس ضد الحكومة وحدها" انتهى.
هذا قولٌ حكيم يستحق وقفة منا جميعا؛ لنتبصر في ماضينا وكيف سمحنا لهذا الغول المفترس القبيح الذي يتدثر بالدين والذي لا يشيهنا؛ كيف سمحنا له أن يسلبنا أغلى ما عندنا كأمة – الكرامة السودانية والعِزّة التي نباهي بها بين الأمم. وهو قولٌ يطمئن الخائفين على مصير الثورة؛ فهي بهذا الفهم تنمو وتزدهر في ظل عجزنا في أن نقدم مثالا يحتذى لشبابنا. أو بعبارة أخرى إذا نهضنا ازدهروا ولحقوا يرصفائهم الشباب في العالم وإذا تقاعسنا ثاروا علينا وعلى الحكام الأغبياء الذين نرتضيهم – فأي الطريقين نحن سالكون؟ سؤالٌ لا يحتاج الى عبقرية في المنطق لنجيب عليه.

 

حالة الإنكار
الحكومة ظلت تنكر فسادها عبر السنين وتقول إنّ الثوار عطالى ويحتجون على قفل أماكن الشيشة والترفيه في شارع النيل. بل يذهب الرئيس المخلوع وأبواقه الى القول إنّ الشباب مسوقون بالخونة وشذاذ الآفاق ويختبئ من ورائهم المعارضون السياسيون من شيوعيين ومؤتمر سوداني وأشواقهم العلمانية؛ ثمّ يهدد كل هؤلاء بالسحق والثبور وعظائم الأمور. وفي الحال يرسل زبانيته لهتك حرمات البيوت وقتل الثوار واعتقال الكثيرين والزج بهم في السجون دون محاكمات. قتل إجرامي عن سوء قصد وترصد. اعتقالات تعسفية تتعارض تماما مع كل الحقوق المشروعة للناس والمحمية بالدستور والذي هو (القانون الأساسي) وبكل المواثيق الدولية لحقوق الانسان المضمنة في ذات الدستور. واخيرا بعد أن دخلت الثورة شهرها الرابع في أبريل انفك المارد من قمقمه وزمجر في سماء الخرطوم وسقط رأس النظام، بيد أن النظام الذي ثار الشعب عليه لم يسقط بعد. بل لعله الآن يسترد بعضا من عافيته لينقض على هذا الإنجاز التاريخي العظيم الذي تحقق ويحوله الى هباء منثور. وكل الدلائل الآن تشير الى ذلك. فهل هناك خوف على هذه الثورة أم أن روح الشباب الذي تمرد على القديم البالي المتناقض هي حارسها القوي الأمين. الوقت سينبئنا.لكن على الجميع أن ينتبهوا وأن يعوا.


الجيش في حمى الشعب!
قلنا في مقال سابق، تنبأنا فيه بنصر الثورة، قبل السادس من أبريل ما يلي : ولكن قبل أن تعلن الثورة الوصول للمحطة الأخيرة هناك تعقيدٌ أخير في مسيرة الثورة هي إحتماء البشير وبطانته من الإسلامويين بالجيش السوداني في محاولة مفضوحة أخيرة ربما لِزَرْب (barricade) أنفسهم ضد هذا الأسد الهصور الذي يهدر في شوارع الخرطوم ومدن السودان الأخرى كل يوم ويزداد غضبه من أفعالهم الإجرامية في الجامعات والشوارع والأزقة" انتهي. و أشرنا وقتها للحضور الأجنبي، من معسكرين متضادين، جاءا قبل ساعات من إلقاء خطاب الرئيس المخلوع ، في فبرايرـ الذي تأخر ليستوعب رسالة أحدهم الذي أتى في اللحظات الأخيرة. ووصفنا ذلك الموقف بأنه مخزي، يؤكد للعالم أننا كأمة لا نملك قرارانا بل يمليه علينا الآخرون ممن صاروا يتصدقون علينا بالخبز والوقود ونحن نملك الخبرات والخيرات وتملك بلادنا ثروات الدنيا و العالمين. كان ذلك الحديث بالأمس القريب. ولكن ما زال الاحتماء بالجيش قائما لكل ذي بصيرة. فبينما يرى الثوّار في المجلس العسكري حماية من اعتداءات المليشيات الحزبية لبقايا المؤتمر الوطني ومن القتل والترويع يرى فيه الاسلامويين، أيضا، حاميا نفسيا، وأملاً في الإفلات، لبقايا المنظومة الكيزانية ودولتها العميقة التي لم تسقط بعد. فمن طُرف السياسة أنّ الجميع الآن يعوّل على الجيش بينما لكلٍ أجندته. وينسى هؤلاء أنّ الجيش نفسه في حمى الشعب الآن – وهذه من معجزات هذه الثورة ودرسٌ من دروسها الكثيرة التي يقدمها السودانيون لشعوب العالم.

جنودنا في اليمن راجعون
الوفود الخارحية ما زالت تهل على السودان من محور ثلاثي معروف له أطماع في هذا البلد؛ وله مقرّبون مدسوسون يبيعونه كل شئ من أراضي زراعية شاسعة الى جنود مجندون يحاربون إنابة عن شعوبه، في اليمن، ويموتون في أحراشها وجبالها موت الذل والمهانة. هذه حربٌ لا ناقة لنا فيها، نحن السودانيون، ولا جَمَل. فكيف يستقيم عقلاً أنّ الشعب السوداني الأبي قد ثار على حكامه الظالمين الفاسدين واقتلعهم اقتلاعا ولا زال لنا جنودٌ يحاربون اخواننا في اليمن؟ أين هي خطّة سحب هذه الجيوش من اليمن الشقيق الذي يستحق أهله الكرماء، الذين يعزّوننا ونعزهم أن نعينهم على محنة الحرب التي رزأت بها بلادهم بدلا من قتالهم. ومالنا نشيح بوجوهنا عن قول الحق وفعله. فقد جاءت هذه الثورة لاسترداد كرامتنا المهرقة محليا وعالميا وتذكير العالم بأننا شعبٌ متميز يحب الخير للجميع ولسنا سوقا للنخاسة السياسية. ومن ظن أن المليارات المضخوخة في خزينة الدولة ستسكت أقلامنا فليراجع حساباته السياسية. فجودنا في اليمن راجعون. ولنجعل هذا من مطالب الثورة.

آرجي بارجي السياسة
“Argy-Bargy” تعبير معروف، في اللغة الإنجليزية، ويعني بالعامية السودانية "النِقّة" و"اللّت والعجن". وعلى الرغم من أنّ قدرا معقولا من التباين في الآراء والتحاور المنتج واللت والعجن هو جزء من صميم الفعل الديمقراطي ومطلوب إلّا أنّ التمادي في الأمر دون هدي ودون اعتبار للوقت هو ضربٌ من عدم النضج السياسي. بل هو مؤشر علة قاتلة في مثل هذه اللحظات المفصليّة التي تمر بها بلادنا والتي لعامل الوقت والتوقيت فيها أهمية كبيرة. خاصة وقد مرت أسابيع من الفراغ السياسي الذي لابد من ملئِه حتى لا يحدث ما لا تحمد عقباه. إذن فالمرحلة تتطلب رجال دولة ذوي رؤى وتجرد. أناس يضعون مصلحة البلد فوق مصالح احزابهم السياسية وفوق مصالحهم الشخصية. الشارع السوداني متقدم على السياسيين الذين لا يرون الأمور إلا من خلال منظار الحزبية الضيّق. الفراغ قاتل يا هؤلاء. التربص بالثورة كبير. الأطماع المحلية والإقليمية والعالمية في هذه الثورة بلا حدود. الشراك منصوبة خارجيا وداخليا. جهاتٌ عدّة تبحث عن مدخل لقلب الطاولة عليكم. البيت السوداني السياسي في حاجة ماسة لتنظيف. الحصة الآن وطن يا من تهرفون بالحريّة والتغيير. فهل تسمعون. أما مخضرمي السياسة ممن عركتهم الأيام منذ الخمسينات من القرن المنصرم فعيبٌ عليهم أن يقفوا في السياج في هذه اللحظات التاريخية من عمر الوطن. هذا هو الوقت الذي نحتاج فيه لخبرتهم ومقترحاهم ومشورتهم القانونية والإجرائية والتنظيمية المفقودة حاليا من الساحة السياسية فلكل مقام مقال ولكل زمان رجال ولكل ميدانٍ حِصانه – "horses for courses" .


غرفة الحرب
"غرفة الحرب" (War Room) تعبير أضحى معروفا في علم إدارة المشروعات الكبيرة ويعمل به في اللحظات الحرجة عندما يكون طاقم الإدارة تحت ضغوط كبيرة لاحتواء الامر. والتعبير في الغالب أتى من المؤسسة العسكرية، بدلالة الاسم. وهو يتلخص في فكرة انشاء غرفة للاجتماع، على مدار الساعة، لمتابعة الشأن الحربي (تقرأ السياسي في ظرفنا الراهن) وإصدار القرارات المصيرية التي يتطلبها الموقف. هذه الفكرة يمكن تطبيقها حرفيا في هذا الظرف. والحديث ليس موجها للمجلس العسكري الذي لا يحتاج لملكي ليحدثه في الشأن الحربي هنا بقدر ما هو موجه لقوي "الحريّة والتغيير" والذين أصبح لزاما عليهم أن ينتبهوا لمسألة الوقت والتوقيت لأن أسبوعا واحدا في حساب السياسة وقتٌ طويلٌ جداً !!

 

ballah.el.bakry@gmail.com


* م/ محمد الأمين حامد مرجي

 

آراء