الثورة العربية واسس التغيير في السودان

 


 

 


(1)


احتلت مواقع الانترنت الاجتماعية خاصة فيس بوك وتويتر موقع الصدارة من بين عوامل كثيرة لعبت دوراً كبيراً في انطلاق الثورات العربية، حيث سهلت هذه التقنيةعلى المعارضين والنشطاء الاجتماع وتداول المعلومات، مما ساعد على الإطاحة بأعتى الدكتاتوريات في مصر وتونسوليبيا، كما ساهمت في قيام الثورات في اليمن وسورية والبحرين. كذلك سهلت الهواتف المحمولة عملية نشر الأعمال الوحشية وتسجيلها ونشرها عبر يوتيوب والفضائيات، فأصبح القمع والبطش الحكومي مكشوفاً للجميع ليحكم عليه الناس. كما لعبت بعض القنوات الفضائية دوراً هاماً في كشف الممارسات الوحشية لهذه الانظمة العربية.

ذكرت صحيفة واشنطن بوست انه بعد انتصار الثورة التونسية والإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي، كُتب على جدران الطريق الرئيسي "شكراً لك فيس بوك". وأصبحت الثورات العربية (في مصر وتونس) تُعرف باسم "ثورة الفيس بوك". ولذلك سوابق في التاريخ السياسي، فثورة الخوميني لعب فيها شريط الفيديو دوراً مشهوداً، وثورة شرق أوروبا أحيانا تسمى بثورة الفاكس، وسقوط الاتحاد السوفيتي نسبه احد الكتاب الى  الجنرال تلفزيون General TV.

ولكن، من المؤكد ان الثورات لا تحدث في الفضاء الاسفيري فقط، ولن يكون لها اثر ان لم تطأ الارض، فالبشر في النهاية هم من يقررون كل شيء.فما حدث في ميدان التحرير إبان الثورة المصرية يؤكد أنه حتى في ظل هذا التطور التكنولوجي لا تزال أرض الواقع هي أهم ساحات المعارضة وثورات التغيير السياسي.

انطلقت شرارة الثورات العربية، او ما عرف لاحقاً بالربيع العربي، من تونس الخضراء، حيث نجحت في تحقيق اهدافها وازالة نظام الرئيس بن علي، ثم انتقلت لمصر حيث تمكنت من خلع الرئيس مبارك وعائلته ودائرته من الحكم، ولكنها تغيرت تماماً في ليبيا حيث نجح الثوار بدعم عسكري كبير من حلف الناتو في إزالة نظام القذافي وقتله الى جانب بعض ابنائه، مع غموض كبير لا زال يكتنف مصير الثورة في كل من اليمن وسورية والبحرين.

تونس التي شهدت انطلاقة الشرارة الاولى للربيع العربي، يعيش شعبها في رفاهية اقتصادية، اذ يعتبر اقتصادها من افضل الاقتصاديات العربية غير النفطية، ومستوى دخل الفرد فيها من اعلى المستويات، وتتوفر فيها خدمات الانترنت لأكثر من ربع السكان تقريباً. وتتمتع تونس بطبقة وسطى قوية، وهي من أوائل الدول العربية التي تمنح حقوقاً دستورية متساوية للمرأة.

ولكن كغيرها من الدول، ابتليت تونس بنظام حكم مركزي باطش، يحميه جهاز امن اشتهر بشراسته ومصادرته للحريات السياسية، وحظر نشاط الأحزاب ومطاردة قادتها، وقد تمادى جهاز أمنها في بطشه لدرجة انه فرض استخدام البطاقة الشخصية عند الحضور لصلاة الفجر في بعض المناطق. وكان نتيجة هذه السياسات القمعية أن انهارت الأحزاب السياسية والتنظيمات المدنية الأخرى التي تدعو للحرية والديمقراطية في تونس.

ونتيجة لاستمرار دورة بطش النظام وتركز السلطة والثروة في أيدي الرئيس وعائلته ومحسوبيه، والانعدام التام للحريات، وتفشي الفساد، فقد النظام شرعيته التاريخية المستمدة من الثورة الدستورية التي قادها سلفه الرئيس الحبيب بورقيبة. وكشفت حادثة بوعزيزي ضعف النظام وهشاشته، حيث قامت شقيقة بوعزيزي بنشر رسائل على الفيس بوك صورت فيها حادثة حرقه لنفسه وتفاصيل قصة اهانته من قبلالسلطات المحلية. انتشرت القصة بسرعة رهيبة، وتناولتها القنوات الفضائية الإخبارية التي بثتها مما جعل من الثورة التونسية "ثورة على الهواء مباشرة" شاهد كل العالم تفاصيلها. وهكذاتسببت حادثة صغيرة في تغيير كبير لم يسبق له مثيل في تونس والمنطقة العربية.

أما مصر التي شهدت ثاني الثورات فتعتبردولة مركزية في العالم العربي، انفردت بكونها مركز الثقافة العربية لفترة طويلة. ورغم ذلك تعاني مصر من اكتظاظ حاد في السكان، ويتميز اقتصادهابالضعف والاعتماد على المعونات الأمريكية التي تبلغ اكثر من  2 بليون دولار سنوياً، كما تستورد أكثر من 60% من الأغذية خاصة القمح. وينتشر الفقر في مصر بصورة كبيرة تصل الى 42% حسب اإحصائيات الأمم المتحدة.

منذ قيام ثورة 23 يوليو التاريخية اتسمت الحياة السياسية المصرية بانفراد ما عرف بمراكز القوى داخل الحزب الحاكم بمقاليد السلطة، والسيطرة على مصادر الثروة في أحايين كثيرة. ونتيجة لذلك انعدمت الأحزاب السياسية في مصر وأصبح دورها اقل من هامشي، وتلاشى بعضها وأصبح في ذمة التاريخ. ولا تعتبر الثلاثة عقود التي قضاها الرئيس حسني مبارك في الحكم استثناء من هذه القاعدة، حيث انفردت مراكز القوى في الحزب الوطني الحاكم بالسلطة تماماً، كما تحكمت عائلة الرئيس وأصهاره والمقربين منهم ومنسوبي الحزب بثروات البلاد وفرص التجارة والعمل والاستثمار كما حدث في تونس. واستشرى الفساد المالي والمحسوبية في السلطة، وأصبح بطش أجهزة الشرطة والأمن المركزي والمخابرات ظاهرة تظلل الحياة العامة في مصر، فلم يأمن من شرها الطلاب والشباب والنساء.

في العشر سنوات الأخيرة لنظام مبارك نشبت العديد من المعارك السياسية التي قادتها  حركات المجتمع المدني الجديدة مثل مركز ابن خلدون لسعد الدين إبراهيم، وحركة كفاية لأيمن نور وحركة 6 ابريل وغيرها، حول الحريات الأساسية وحرية الصحافة، حيث كشفت هذه المعارك عن مدى بشاعة التعذيب ووسائله وفضح جهاز الأمن المركزي والمخابرات والشرطة. وفي عام 2005 اشتدت هذه المعارك وخرجت المظاهرات على النظام بشكل ملحوظ.ثم تعقد هذا الصراع وتشعب إلى جبهات مختلفة، مثل الصراع حول الدستور وتعديله، ثم نشوب معركة تزوير الانتخابات، ومعركة القضاة، ثم المعركة الكبرى التي شاركت فيها كافة الأحزاب والمنظمات ضد التوريث، ونتيجة لذلك انتشرت الأشعار المناوئة التي تسخر من الرئيس وأسرته.

ولعبت الصحافة المصرية دوراً كبيراً في كشف الفساد ومقاومة تزوير الانتخابات والتوريث، كما كان لقناة دريم دور ملحوظ في كشف بشاعة بطش الأجهزة الأمنية المصرية بنشرها لقضايا التعذيب وإتاحة الفرصة للضحايا لكشف ما تعرضوا له وكشف  أسماء من عذبوهم ومطالبتهم بالعدالة.

أدت هذه الممارسات الطويلة وانتشار الفساد والصراع السياسي الذي استمر لأكثر من عشر سنوات إلى تآكل الشرعية التاريخية للنظام وإضعاف أعمدة بقائه، وانهارت القيم التي كنت تضع مصر في الريادة والقيادة العربية. نتيجة لهذه الأسباب خرج الشعب المصري بكل فئاته وطبقاته المختلفة في مظاهرات سلمية يوم 25 يناير 2011 مطالباً برحيل مبارك وإسقاط النظام مستخدمين في ذلك الانترنت وتوزيع المنشورات في الأحياء السكنية للتواصل مع الجماهير وحشدهم في الميادين العامة للتظاهر والتعبير عن رفضهم للرئيس ونظامه. لدهشة الجميع استمرت الثورة 18 يوماً فقط، حيث اجبر المتظاهرون الرئيس مبارك على التنحي عن السلطة، ثم اعتقاله الى جانب ابنائه ووزرائه ومحاكمتهم.

هذا السرد التاريخي يثبت أن الثورة المصرية لم تولد فجأة وإنما كانت في الحقيقة عملية مخاض استمر طويلا وتراكماستمر لسنوات، تجسدت في تنظيم الاعتصام والإضرابات والمظاهرات والاحتجاجات التي بدأت في عام 2005. ويبدو أن نجاح الثورة التونسية قد شجع المصريين على كسر حاجز الخوف والخروج على النظام  في ثورة شملت كل فئات المجتمع المصري لإسقاط الرئيس مبارك.

في 17 فبراير انطلق قطار الثورة في ليبيا على نظام العقيد القذافي، ولكن سرعان ما تطورت المظاهرات إلى ثورة مسلحة بسيطرة الثوار على مدن البيضاء وبنغازي، وأجدابيا، وتحولت الثورة السلمية إلى معارك لتحرير المدن، وبمرور الايام والشهور تحولت الثورة الليبية إلى ثورة عسكرية مسنودة بعمليات عسكرية يقوم بها حلف الناتو في طرابلس وبعض المدن تحت شرعية دولية بموجب قرار مجلس الامن الدولي. وفي عملية عسكرية جريئة مدعومة من حلف الناتو دخل الثوار الليبيون طرابلس وهرب العقيد القذافي وأبنائه إلى مكان غير معلوم، ليتضح لاحقاً انه موجود في مدينة سرت معقل اهله وعشيرته، حيث شن عليه حلف الناتو هجوماً عسكرياً كاسحاً شتت قافلته التي كانت تنوي الهروب من سرت الى مكان اخر، حيث قام الثوار باعتقال القذافي وابنه لتتم تصفيتهما دون محاكمة في ظروف غير واضحة. ويسود الجدل الآن حول هوية الثوارالليبيين، حيث ظهرت أدلة تثبت ارتباطهم بالإسلاميين المتطرفين اضافة الى اسلوبهم في قتل اركان نظام القذافي وعائلته خارج اطار القضاء.

في شهر فبراير ايضاً انطلقت الثورة في اليمن، واستمرت شهوراً دون استسلام من قبل أي من الطرفين. وشاركت فيها النساء والأطفال بكثافة ملحوظة لأول مرة في تاريخ اليمن والمنطقة العربية بأسرها. ويلاحظ أن الثورة اليمنية تختلف كثيراً عن مثيلتها المصرية والتونسية، فهي لا تستخدم كثيراً من الأساليب التقنية على نطاق واسع، بل تعتمد على تعبئة المحتجين بالطرق التقليدية. ولعب الرئيس علي عبد الله صالح على الانقسامات القبلية وتجاهل مطالب الثوار لشهور طويلة.

بعد تسعة اشهر من المظاهرات المستمرة والمناوئة له، وقع الرئيس علي عبد الله صالح بتاريخ 27 نوفمبر 2011 على المبادرة الخليجية التي يرعاها مجلس التعاون الخليجي، وذلك بحضور وفد من المعارضة اليمنية. كما قام ممثلون للحزب اليمني الحاكم بالتوقيع على الآلية التنفيذية لنقل السلطة لحكومة مدنية. وتقوم المبادرة والالية على ان يسلم الرئيس صالح صلاحياته الى نائبه عبد ربه منصور هادي ويبقى رئيساً شرفياً لمدة تسعين يوما، على ان تشكل حكومة وحدة وطنية برئاسة شخصية من المعارضة، واجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، على ان يقوم البرلمان الجديد بإصدار قرار يضمن للرئيس صالح الحصانة وعدم ملاحقته بواسطة القضاء. ولم تجد هذه المبادرة وتوقيع الرئيس عليها أي قبول من الشباب المعتصمين في ساحة التغيير في صنعاء، بل رفعوا شعارات تطالب بمحاكمة علي صالح مرددين " لا حصانة ولا ضمانة لعلي صالح واعوانه".

وفي سورية ايضا اندلعت الثورة في شهر فبراير، ولكنها لم تجد تعاطفاً دولياً ملحوظاً في بداية الامر، مثلما لقيت في ليبيا واليمن، ولعل ذلك يرجع إلى تخوف الغرب من أن انهيار النظام السوري سيقود إلى عنف طائفي وحرب اهلية وفوضى، مما يؤدي إلى انتشار التطرف إلى خارج الحدود والتأثير على المنطقة ودول الجوار، خاصة اسرائيل ولبنان. ويخشى كثيرون من أن التغيير في سورية سيكون مماثلا لذلك الذي حدث في العراق، وليس مشابهاً لما حدث في مصر وتونس، نظراً لتولي الأقلية الشيعية العلوية زمام الأمور في مقابل الأغلبية السنية، وموقع سورية الاستراتيجي وتحالفها القوي مع حماس وحزب الله من جهة اخرى.

ولكن مع مرور الايام والشهور واشتداد المظاهرات وازدياد عدد القتلى بشكل يومي، استنكر المجتمع الدولي بشاعة التعامل السوري مع المتظاهرين، مما دفع الجامعة العربية للتدخل والضغط الدبلوماسي على النظام السوري وفرض عقوبات دبلوماسية واقتصادية على سورية.وهذه هي المرة الاولى التي تتولى فيها الجامعة العربية زمام القيادة وتفرض عقوبات على دولة عضو فيها نتيجة لأحداث داخلية.وشملت هذه القرارات التي اصدرتها الجامعة العربية ارسال 500 مراقب لسورية لمراقبة تصرفات الجيش والشرطة ومراقبة حقوق الانسان، كما شملت العقوبات الاقتصادية حظر سفر المسؤولين السوريين للدول العربية وتجميد ارصدتهم في هذه الدول، ووقف التعامل مع البنك المركزي السوري، ووقف المعاملات التجارية مع الحكومة السورية.

ومع اشتداد عنف النظام السوري وارتفاع عدد القتلى فقدت سورية التعاطف الدولي وغض الطرف الذي قوبلت به الثورة، وأعلنت الولايات المتحدة على لسان نائب رئيسها جو بايدن، إن انهيار نظام الأسد لن يثير بالضرورة صراعاً طائفياً إقليمياً، مستبعدا بذلك المخاوف التي تتحدث عن احتمال نشوب صراع بين السنة والشيعة في سوريا والعراق وإيران. وفي نفس الوقت قال مساعد وزيرة الخارجية الامريكية جيفري فيلتمان ان بشار الاسد يقود سورية نحو الحرب الاهلية. و فرضت وزارة الخزانة الامريكية عقوبات على شركات سورية ومسؤولين سوريين، كما دعت إلى ممارسة مزيد من الضغوط لوضع حد للعنف ضد المحتجين. كما فرض الاتحاد الاوروبي ايضاً عقوبات على سورية.

ونتيجة لهذه التعقيدات التي حدثت في كل من ليبيا واليمن وسورية تحولت الثورة السلمية إلى موجهات دموية أسفرت عن سقوط آلاف القتلى، وفتح ذلك فصلاً مظلماً وتحول الربيع العربي إلى صيف عربي لا يعرف احد نهايته على وجه الدقة.وكان أن استعدت هذه الدول – ليبيا واليمن وسورية- لاستخدام القوة العسكرية ضد المتظاهرين، بعد أن وعت الدرس التونسي والمصري الذين استجابا سريعاً لمطالب الثوار.

تحليل ومقارنات:

تساءل الكثيرون واحتار آخرون عن السبب وراء هذه الثورات الشعبية التي عصفت ببعض الانظمة العربية، كما تساءلوا عن سر هذا التوقيت بالذات. بالطبع للثورات أسباب كثيرة ومعقدة، ولا يعرف توقيتها احد. و لا يمكن اعتبار الفقر والعطالةوالاوضاع الاقتصادية السيئة هي الاسباب الوحيدة للثورة العربية، والا امتلأ العالم بالثورات، لأن معظم سكان الارض هم من الفقراء. فالثورة التونسية أثبتت أن الثورات يمكن ان تولد من الأمل والتطلع للمستقبل والطموح في حياة أفضل، وليس من اليأس والفقر والجوع.والثورة المصرية يمكن ان نطلق عليها ثورة الكرامة الانسانية.

وقد يكون السبب في اندلاع الثورة هو الافراط في العنف والقتل كما حدث قبل الثورة الايرانية عام 1979، او قد يكون سببها شابعاطل يحرق نفسه احتجاجاً على اهانة كرامته من قبل شرطية و تعبيراً عن رفضه لسياسات حكومته مثل الشاب التونسي محمد بوعزيزي في ديسمبر 2010 . وقد يكون السبب الرئيسي الذي يقف وراء ذلك هو اقتران لحظة الادراك بالشجاعة الجماعية لعدد كبير من جمهرة الناس العاديين وعندها يقررون الخروج للشارع للتعبير عن معارضتهم واحتجاجهم على الأوضاع بصورة سلمية كما حدث في تونس ومصر.

من الواضح أن هذه الثورات العربية كانت ثمرة تراكمات تاريخية طويلة من الظلم والاستبداد والبطش والفساد وغياب الديمقراطية وحقوق الإنسان واهدار كرامته، كما انها نتيجة لأشواق عارمة لهذه الشعوب لحياة أفضل بالمعايير الحديثة التي لعبت الثورة التقنية دوراً في عكسها. كما وصفت بأنها ثورات لاستعادة الكرامة الإنسانية المسلوبة لهذه الشعوب.

ومهما يكن من اسباب فقد امتازت هذه الثورات بأنها صناعة وطنية بحتة لم يساهم فيها الخارج بشيء مما منحها مصداقية عالية وقبولا كبيراً وسط الشعوب العربية، مما حدا ببعض الشعوب محاولة تقليدها والسير على خطاها.إن نجاح ثورتي مصر وتونس منح شباب العالم العربي الأمل وأكد قدرتهم على النجاح، لتصبح حركة الشباب نموذجاً جديداً في الدول العربية، حيث بدأ القادة في الإنصات لهم وتحقيق مطالبهم.

لعب الشباب دوراً محورياً في الترتيب والاعداد لهذه الثورات واشعالها، وكانت لهم الريادة في التنظيم والقيادة حتى عرفت بثورة الشباب العربي. ويلاحظ بشكل خاص الدور الظاهر للشباب من الطبقة الوسطى في كل من تونس ومصر، فمثلا وائل غنيم ينتمي لأسرة مصرية ميسورة الحال. وقد ضاق صدر الطبقة الوسطى في ظل هذه الانظمة  الاستبدادية التي وضعت القيود امام شبابها الطموح، فانبرت لتقوم بدورها الوطني الطليعي في تخليص الدولة من الظلم والفساد واستعادة الكرامة المفقودة.

استطاع الشباب، الذي ولد في ظل هذه الانظمة الدكتاتورية ونشأ في عمق أزماتها الوطنية وترعرع في ظل المعاناة، الاستفادة من التطور الهائل في وسائل الاتصال الحديث "الانترنت"، لتنظيم احتجاجاته حيث رفع شعارات ثورية واضحة محددة مثل "الشعب يريد اسقاط النظام" لحشد الجماهير حول هذا الشعار، آملين في تحقيق البديل الديمقراطي الذي يقوم على مفاهيم عالمية مثل حقوق الانسان والحرية والديمقراطية والمساواة لحفظ الكرامة الانسانية.

كذلك يمكن القول إن الجماهير في مصر وتونس تمكنت من الإطاحة بالطاغية عبر اتحاد المجتمع والعمل الموحد، فسادت روح الجماعة بين طبقات المجتمع المختلفة وسادت غريزة الحماية المشتركة بينهم لتأمين تحركاتهم وخططهم. فتوحد الثوار خلف مطلب واحد هو الحرية والكرامة، وشعار واحد هو رحيل الرئيس وسقوط النظام. ولكن، رغم الدور الكبير للشباب الا ان التاريخ لم يعرف ثورة شعبية انجزتها فئة واحدة من فئات الشعب كالشباب مثلاً، بل تنجح الثورة الشعبية بإقناع كامل تضامن فئات الشعب في التحّرك لإجراء التغيير المنشود والضغط على النظام واجباره على التنحي.

رغم الغياب الكامل للمشاركة الحزبية في هذه الثورة وهو امر يعزى الى البطش الشديد الذي تعرضت له الاحزاب مما دفعها للهجرة واللجوء للمنافي في الحالة التونسية، والى التلاشي من الوجود في الحالة المصرية، الا اننا نلاحظ ظهور ثمة تشكيلات وتنظيمات اجتماعية وسياسية مثل دور اتحاد الشغل في تونس في تنظيم المظاهرات والاضراب العام، كما نلاحظ دور واضح لمنظمات المجتمع المدني والحركات الشبابية التي ظهرت في مصر لتملأ الفراغ السياسيوالتي تعتنق افكار وبرامج عمل مختلفة مثل حركة شباب 6 أبريل اليسارية، وحركة كفاية، وحركة شباب مصر المستقل، ومركز ابن خلدون، وغيرها، هذا الى جانب دور الاخوان المسلمين كمجموعة سياسية.

نتيجة لسياسات الانظمة الدكتاتورية وحظرها للأحزابومنعها لقيام اي تنظيمات سياسية جديدة، لم يكن متاحاً للشباب الذي ولد او نشأ في ظل هذه الانظمة ان ينضوي تحت لواء اي حزب او منظمة سياسية كما لم يكن امامهم تأسيس منظماتهم التي ستحظر من قبل النظام، لذلك لجأ الشباب الجديد لوسائل جديدة من التواصل عبر مواقع الانترنت والطرق التقنية الحديثة الاخرى لتوصيل رسائلهم لبعضهم البعضمثل فيسبوك، والتي أثبتت أنها أكثر فعالية في حشد الشباب من أجل التغيير.

هذا يثبت ان هذه الثورات كانت نتيجة طبيعية لسياسة قمع وسحق الأحزاب التي اتسمت بها الأنظمة الدكتاتورية سواء في مصر حيث انعدمت الحياة الحزبية وانهارت التشكيلات السياسية بسبب تعرضها للبطش والقمع المستمر، أو في تونس حيث يحرم القانون قيام الأحزاب التي لجأت بدورها للمنفى. وعلى عكس توقعات هذه الانظمة الدكتاتورية التي ارادت سحق الاحزاب السياسية والغائها من الوجود حتى تمنعها من الثورة عليها، خرجت عليها الجماهير غير المنظمة سياسياً وازالتها من الحكم.

كذلك يمكننا القول إن الثورات تحدث في غياب الأحزاب والتنظيمات السياسية الأخرى في الدولة، بل هي تعبير حقيقي لحالة غياب وانعدام المشاركة في الحياة السياسية العامة والتي من أهم ملامحها وجود الأحزاب والتنظيمات السياسية. ومن المعروف ان الاحزاب تعمل على احتواء الشباب وتنظيمهم وتدريبهم على السياسة والالتزام. عندما يظن الدكتاتور انه سحق الأحزاب وألغاها من الحياة واطمأن لعدم وجود خطرها عليه، اصبحت الحياة خالية من التنظيم وأصبحت البيئة أكثر خصوبة للثورة عليه. فالنظم الدكتاتورية تصنع نهايتها بسياساتها وحدها، وهذا تماماً ما حدث في مصر وتونس إذ ظن النظامين أنهما قضيا على الأحزاب المعارضة وتخلصوا من خطرها للابد، ولكنهما بفعلهما ذلك جهزوا الجماهير للثورة عليهما.  

رغم هذا الدور الكبير والظاهر للشباب في إحداث الثورة، الا اننا نلاحظ غياب قيادة واضحة لحركة الشباب الثوري بدرجة متفاوتة في كل من تونس ومصر، فقد كان الاتصال والتنظيم يتم بشكل عفوي وتلقائي دون أن تكون ورائه قيادة كاريزمية ملهمة مثلما كان الخميني القائد الملهم ابان الثورة الايرانية. وكانت بحق ثورة شاملة بغير مركز ناظم. ومن المثير للدهشة والاعجاب ان الانترنت وفر لكل ناشط ومتظاهر فرصة ان يكون قائداً بمفرده وهذه ظاهرة جديرة بالدراسة ايضا.

صحيح في تونس لم تكن هناك قيادة مركزية للثورة وموجهة للمظاهرات في الشارع، ولكن كانت هناك قيادات نقابية موجودة على الأرض لعبت دوراً في تحريك الجماهير وتنظيمها وحثها على التظاهر ضد نظام بن علي، سواء في المدن الصغرى التي انطلقت منها المظاهرات أو في العاصمة، وهي قيادات منحدرة من الاتحاد العام للشغل التونسي ومن نشطاء سياسيين ومن طلاب جامعات. وفي هذا اختلاف عن القيادات المصرية التي تخلقت وتشكلت بسرعة أثناء الثورة وتواكبت مع إدارة الأزمة والمظاهرات وتنظيمها بإيقاع سريع على خلاف ما حدث في السودان خلال ثورتي اكتوبر وابريل (اكتوبريل)، حيث أن النخب الاجتماعية تشكلت في رحم الاتحادات الفئوية والنقابات التي أخذت وقتا طويلا لتخرج من رحم الصراع لقيادة المعركة ضد النظام الحاكم.

كذلك لم يقدم الثوار المتظاهرون الذين اسقطوا هذه الانظمة في تونس ومصر وليبيا فكراً واضحاً ومتماسكاً يعرض أهدافهم، ويوضح رؤيتهم لمستقبل دولهم او مستقبلهم هم كناشطين ينشدون التغيير، ولم يتبلور برنامج سياسي واضح ومفصل أثناء الثورتين التونسية والمصرية، ولكن كانت الخطوط العريضة للبرنامج السياسي تنحصر في التغيير وشعارات الحرية والعدالة والكرامة، والمطالبة بإسقاط الرئيس بشكل محدد.

وقد ظهرت هذه المشكلة لاحقاً في مصر عقب سقوط مبارك، عندما بدأ التفاوض حول قضايا النظام السياسي والانتخابات ودستور الدولة، فلم يكن واضحاً من يفاوض من، وانفرد المجلس العسكري الاعلى بكونه الجهة الاولى التي يتم معها التفاوض حول هذه القضايا، حيث كان المفترض ان يكون حواراً وتفاوضاً بين تنظيمات واحزاب سياسية مختلفة فيما بينها. الآن فطن الثوار إلى حاجتهم للتنظيم والتحزب بعد انتصارهم، وعند هذه اللحظة التاريخية بدأ صراعهم الذاتي في الظهور، فأخذ بعضهم يفكر في إنشاء حزب واحد للثوار رغم أن خلفياتهم مختلفة ومتناقضة أحياناً، كما اخذ البعض يفكر في إنشاء أحزاب جديدة متعددة، في حين اكتفى البعض بدوره في المنظمات المدنية ورفض فكرة التحزب. وأصبح هذا الصراع هو الخطر الماحق الذي يهدد وحدتهم الآن. يحدث هذا في مصر بينما نجت تونس بعودة احزابها من المهجر وممارستها للديمقراطية بمشاركتها في الانتخابات.

الجدير بالملاحظة ايضا هو الدور الكبير الذي اضطلعت به المرأة خلال الثورة التي أطاحت بالنظم الاستبدادية الفاسدة. فالصوت الأول الذي أطلق الثورة من عقالها في تونس كان شقيقة محمد البوعزيزي، الشاب الذي ضحى بحياته وأطلق تلك الاحتجاجات العارمة التي أطاحت بالنظام التونسي الحاكم، حيث قامت ببث خبر انتحاره على الانترنت مما اشعل الشرارة الاولى لثورة الياسمين. وفي مصر لعبت كل من : إسراء عبد الفتاح وأسماء محفوظ دوراً قيادياً ظاهراً في تنظيم الثوار، وفي اليمن شهدنا المناضلة توكل كرمان ودورها القيادي الملحوظ مما أهلها لنيل جائزة نوبل. كذلك لأول مرة تشهد الثورات مشاركة كافة أفراد الأسرة وظهور الأطفال كظاهرة تدعو للتأمل، ومشاركتهم بل واستخدامهم كواجهات دعائية لترويج الشعارات الثورية، وهذا ما لم يحدث اثناء اكتوبريل. 
كذلك يلاحظ أن التغيير جاء سريعاً في كل من تونس ومصر، حيث استجاب الرئيسان التونسي والمصري بسرعة للضغوط الجماهيرية وتنحيا عن السلطة في فترة وجيزة جدا وبصورة غير متوقعة أدهشت الجميع. يقول شادي حامد، الباحث المتخصص في قضايا الإصلاح الديمقراطي في الشرق الأوسط في معهدبروكينغز الدوحة لصحيفة واشنطن بوست: "إن الطبيعة السريعة للثورة المصرية والثورة التونسية كانت شيئاً من قبيل المصادفة. فالأمور في العادة لا تسير بمثل تلك السلاسة ... هذا وقد أدرك قادة المنطقة الأخطاء التي ارتكبها مبارك وبن علي، وهم حريصون على ألا يقعوا بها".

ما يجمع بين الرئيس زين العابدين بن علي والرئيس مبارك هو أنهما استلما السلطة خلفاً لرؤساء سابقين، فلم يقم احدهما بانقلاب أو ثورة كما في حالتي اليمن وليبيا.  لذلك ربما كان هذا احد الأسباب التي عجلت برحيل الأوائل وأخرت رحيل الآخرين. كذلك يلاحظ الفرق الكبير في المستوى الحضاري والمدني للشعبين التونسي والمصري مقارنة بالشعب الليبي والسوري واليمني، وايضا الفرق بينهما وبين الدول الاخرى في مستوى مؤسسات الدولة وتطورها وقدرتها على استيعاب الاحتجاجات والتعامل معها.

يبدو أن تنازل زين العابدين وحسني مبارك السهل والسريع ثم تعرض حسني مبارك وعائلته للمعاملة القاسية والاعتقال ثم المحاكمة قد شجع بقية الحكام الذين أصابهم الخوف من مصير مبارك على التمسك بالسلطة والاستعداد لضرب الثورة مبكراً واستخدام ابشع الوسائل في التعامل مع المتظاهرين.لذلك اتبعت هذه الدول استراتيجيات مختلفة تتراوح بين استغلال الولاء القبلي لاصطناع صراع قبلي أو لتوجيه النزاع نحو افتعال حرب اهلية، كما حدث في ليبيا واليمن، أو استغلال وتوظيف الانقسام الطائفي والترويج لخطره كما يحدث في سورية الان.

يقولالأستاذ مأمون فندي في مقال له بعنوان " ثورات ام تحلل دولة ما بعد الاستعمار" ان ما حدث ليست ثورات بل هي نهاية دولة ما بعد الاستعمار، وان هذا التحلل لم يبدأ في تونس وانما بدأ بالصراع الدائر في السودان حيث ادى الى تفكك الدولة وانشطارها الى قسمين، وربما ثالثة في دارفور. وفي مقاله (هل تكسر القبيلة موجة الثورة) بصحيفة الشرق الأوسط يقول فندي ان التغيير السريع الذي حدث في تونس ومصر هو استثناء لا يمكن ان يتكرر في الدول العربية الاخرى التي تشهد ثورات، مثل ليبيا واليمن وسورية، لأن تكوين هذه الدول الاخيرة قبلي او قبلي- طائفي. ويضيف ان تغيير النظام في هذه الدول ذات البني التقليدية سيأخذ وقتاً طويلا وربما يؤدي الى تفكيك الدولة وليس تغيير النظام. ويشاركه في الوصف توماس فريدمان حيث وصف معظم الدول العربية بانها قبائل ذات اعلام، ويستثني من ذلك تونس ومصر باعتبارهما دول ذات هوية قومية.

ومهما يكن من امر فندي، الا ان اليمن قدمت نموذجاً جديراً بالدراسة حيث أن الشعب اليمني رغم تسلحهالكثيف وايمانه الثقافي بحمل السلاح إلا انه لم يلجأ أحد لاستخدام السلاح ضد السلطة في المظاهرات الأخيرة رغم أن الرئيس ظل يحاول أن يدفع الناس دفعاً لاستخدام السلاح وتحويل الأمر لحرب أهلية، كما يلاحظ أن الثورة وحدت الفرقاء وصالحت بين المتخاصمين، حتى الحوثيون الذين خاضوا حرباً مسلحة ضد السلطة في صنعاء، القوا بالسلاح أرضاً وشاركوا في المظاهرات السلمية. وتخلي الجنوبيون اليمنيون عن شعارات الانفصال في خضم الثورة فأصبحوا وحدويين، وأصبح الشماليون يرفعون شعارات تعبر عن تضامنهم مع الجنوبيين ضمن يمن موحد.

اثبتت هذه الثورات أن تغيير الانظمة في هذه الدول ممكن وسهل، كما أثبتت أن هذه الأنظمة الدكتاتورية تستمر وتستمد وجودها من خوف الجماهير المغلوب على امرها ومن انقسام قوى المجتمع المدني والسياسي. كما اثبت الربيع العربي ان باستطاعة الشباب العادي غير المسيس بالمظاهرات السلمية إدخال الرعب والخوف في قلوب الرؤساء المستبدين، وإحداث تغييرات جوهرية في نظام الدولة السياسي. كذلك يلاحظ أن الأحزاب الحاكمة في هذه الدول وأجهزتها الأمنية كانت مجرد واجهات وهي أول من ينهار عند حدوث الثورة، حيث اختفى تماماً الحزب الدستوري التونسي وعجز عن مجابهة الجماهير، كما اختفى الحزب الوطني المصري الحاكم وخلت دوره من عضويتها بمجرد سقوط النظام ومن قبلهما انهار الاتحاد الاشتراكي السوداني واختفى من الوجود بسبب انتفاضة ابريل 1985 التي اسقطت النميري.

من المؤكد ان هذه الثورات تواجه الان تحديات كبيرة تتعلق بتنفيذ التغييرات الثورية المطلوبة مثل استئصال ادوات القمع والاستبداد، واعادة هيكلة الانظمة السياسية التي اسقطوها، ومن ثم الانتقال للتحول الديمقراطي.ففي تونس قامت الانتخابات النيابية التي فاز بالأغلبية فيها الاسلاميون، وفي مصر أخذ الحوار السياسي حول القضايا الاساسية مثل الدستور والحقوق والنظام السياسي منحى غريباً، وافرزت الانتخابات المتعجلة ايضاً عن فوز الاسلاميين والسفليين، وهزيمة كبيرة للشباب الذي اشعل الثورة. وهذه قضايا سنتناولها في مقال قادم.

 

آراء