الثُمن المملوء من الكأس

 


 

عمر العمر
30 May, 2023

 

لمّا سكنت جيوش الحرب العالمية الثانية دعا ونستون تشرشيل الأوربيين إلى سكب الماء على جمر فظاعاتها وأوجاعهم. تلك دعوة الاستجابة لها مستحيلة. إذ تعني حرق الذاكرة. فالذاكرة الفردية كما ذاكرة المجتمع تضج عادة بالذكريات الأليمة كما المشاهد المجيدة من الماضي. بل من شأن إبقاء جمر تلك الذكريات متّقدة ما يعين المجتمع على صوغ مستقبل أجمل حينما يتم توظيف أحداث الماضي . ذاكرتنا لا تزال مخضبة جراء حرب الفجار البغيضة بفظاعات طازجة ليست فقط عصية على النسيان بل كذلك يصعب التعافي منها. لكن من المجدي استيعاب كل تلك الأهوال عوضا عن محاولات ستمارس قسراً بغية طمس تلك الحماقات القذرة أو القفز عليها أو التنكر لها من قبل أطراف متباينة. من منطلق التحديق في ما تبقى من ثلث الكأس ، سدسه أو ثمنه ينبغي علينا إعمال عقليتنا على نحو مغاير ، ليس فقط بغية الخروج من تحت الركام ،بل أبعد من ذلك إعادة النظر في العديد من رؤانا وصمدياتنا الخاطئة.
******
فالحرب كما قال نابليون (همجية منظمة مهما حاولت المراوغة في التوصيف ). ففي أتونها تتفجر كل شرور البشر . حرب الفجار لم تكن استثناءاً. فالتعاسة فيها لم تقتصر على الجثث المهملة على قارعة الطرق أو المبعثرة تحت الأنقاض. بل هي أشد وطأة على الأرامل والثكالى واليتامى . هي كذلك أشد قسوة على أصحاب المنازل المنهوبة والمسكونة من بعدهم قسراً،كما على أصحاب المحال ومقار الأعمال والممتلكات المحروقة. للمرة الأولى تشهد أجيال سودانية فظاعات الحرب ،شاهدتها كوابيس تمشي حية أمامها. هي الحرب مثل الحريق لا يحتبس في مكان واحد بعينه حينما يندلع. مآسينا اليومية المنداحة على امتداد مسالك التشريد الجما عي من سرة الوطن إلى حوافه القصيك أمست مادة تلفاز جاذبة للمشاهدة .ربما تستدر التعاطف أحيانا لكنها في الغالب أضحت مادة للفرجة!
******
كلنا نظل نعاني من آثار رماد الحرب حتى بعد خمود الحرائق. فسكوت المدافع لا يعني حتماً حلول الأمان. نحن لن نبلغ السلام حتى نتعافى مليّاً من عاداتنا السيئة المزمنة . فإذا للحرب من جوانب إيجابية فلعلها كشفت العديد من سوأتنا الخبيئة. علينا الاعتراف بأننا مثل جميع البشر حالة وسطى بين الملائكة والشياطين . كما فينا بعضٌ من طهر الأبرياء وربما كثيرٌ من كفر الكافرين. لذلك فلنتخلى عن غطرستنا المركّبة ، كما قناعاتنا الصمدية المتكلسة .فنحن ظللنا نتغنى بماضٍ نكسوه زيفاً بالبهاء. فإبان الحرب البغيضة تكشفت ممارسات تهبط بنا درك الانحطاط. فالتباهي بالشجاعة، الشهامة والكرم والوفاء و النجدة ليست كلٌ سوداني مطلق. فليس عيبا اقتحام أحدهم دارتك عنوة لكن العيب خروجه منها سالماً غانما ً! ذلك شأن مشين لا علاقة له بالشجاعة أو الفحولة.
******
مقابل تلك الفضائل الوضيئة عايشنا مشاهد مشحونة بالخزي والعار بالإضافة إلى هيمنة ثقافة شائنة وضيعة . صحيح الخرطوم مثل العديد من العواصم في أفريقيا ،آسيا واميركا اللاتينية تحفها أحزمة البؤس والفقر . كما يتكدس في قيعان سلّمها الاجتماعي شرا زم من المشردين والمحرومين. حينما تنهار مصدات الأمن المتجسدة غالباً في أجهزة الأمن والشرطة تنفجر تلك الأحزمة والقيعان فتلفظ قطعان نهب السرقة ،السلب والنهب. فعمليات العنف الشرسة الغليظة ليست كلها حكراً على مقاتلي الميليشيات المسلحة. كما هي عمليات النهب والسلب المسلح ليست وحدها بين من قصص الحرب السوداء. فالثابت انغماس العديد من السكان في تلك الممارسات المتوحشة. البعض انجرف إلى ذلك المجرى العشوائي تحت ثقافة (دار ابوك ان خربت شيلك منها شلية). و(المال السائب يعلّم السرقة) فالثابت مساهمة فئات اجتماعية في تفشى تلك العمليات الزميمة إذ لم يتورع رجال ونساء عن تقبل المسروقات بأسعار زهيدة من لصوص ، مع أن تلقي المال المسروق جريمة يأباها الضمير اليقظ قبل محاسبة القانون .بل يحدثك البعض عن عن ازدهار أسواق المنهوبات في المدينة
******
من القناعات الزائفة تحت حمأة الحرب تخثر مقولة الجيش عماد الدولة المركزي . من ثم يحترق كل كلام يمنح المؤسسة العسكرية الامتيازات أو يضعها فوق مستوى والنقد والمكاشفة. كذلك تبطل كل شعارات ترفع الحس الوطني لدى الجنود والضباط فوق أفراد الشعب عامةً. صحيح من طبع الحروب انتشار اللصوص. لكن مصدر أزمتنا العميق يكمن في بروز أناس يكرسون مهارتهم وإمكاناتهم من أجل توسيع دوائر الشر وتقويض فرص السلام والعدالة. حرب الفجار كشفت بل حددت أولئك السفلة الساعين من أجل تعزيز نفوذهم وتكديس ثرواتهم.
******
كذلك من أبرز الدروس أن ما يحدث ليس مجرد تقدير عسكري خاطىء كما يحاول البعض تبريره. ربما ليس ثمة حرب أفضل من هذه الحرب يصدق عليها مقولة الكاتب المؤرخ الأسكتلندي توماس كارليك (الحرب خلاف بين لصين جبنا عن خوض معركتهما ) فحرب الفجار بدأت مثل غيرها من الحروب في عقول مفجريها. لعلهم أدركوا الآن إذا كان بوسعك فتح نيران الحرب عندما تريد فإنك لا تستطيع إسكاتها حينما تود! الأهم من ذلك عليهم الاقتناع بأن السلام مثل الحرب له قادته وجيوشه وعتاده. فمن يقرع طبول الحرب ليس هو من يعزف أناشيد السلام

aloomar@gmail.com

 

آراء