الجذور التاريخية لإضرابات العاملين في السودان ( 1900- 1939)
تاج السر عثمان بابو
30 September, 2022
30 September, 2022
1
تشهد البلاد حاليا موجة عاتية من الاضرابات والاحنجاجات من أجل تحسين الاوضاع المعيشية التى ازدادت سوءا بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 ، ونتابع في هذه الدراسة الجذور التاريخية لهذه الاضرابات التى جاءت امتدادا لتاريخ نضالي طويل خاضه العاملون منذ بداية القرن العشرين ، وحتى قيام التنظيم التقابي" هيئة شؤون العمال" لعمال بالسكة الحديد بعطبر 1946 والتي خاضت معركة الاضرابات من أجل تحسين الاوضاع المعيشية والأجوروتركيز الأسعار، والمطالبة بالاعتراف بتنظيمهم النقابي حتى تم انتزاع قانون النقابات للعام 1948 الذي اعترف النقابات ، ومن ثم تم تسجيل النقابات. ولا شك أن ارادة العاملين في اضرابانهم الحالية منتصرة ، وسوف تذهب ريح السلطة الانقلابية الراهنة ، كما ذهبت ريح السلطة الاستعمارية في العام 1956.
معلوم أنه مع بداية القرن العشرين شرعت الإدارة البريطانية في السودان في إنجاز مشاريعها الزراعية والصناعية والخدمية في السودان ( راجع تاج السر عثمان الحاج : خصوصية نشأة ونطور الطبقة العاملة السودانية ، الشركة العالمية 2007) ،واتجهت إلى توفير الأيدي العاملة من السودانيين وتشجيع العمل المأجور في التعدين وبناء السكك الحديدية وفي قطع الأخشاب وفي المشاريع الزراعية ، وكانت ظروف العمل سيئة والأجور ضئيلة ، وتشير تقارير الحاكم العام عام : 1903 ، 1907 ، 1908 ، إلى إضرابات وقعت في تلك الفترة ، رغم سطوة وقسوة الإدارة البريطانية في بدايتة احتلالها للسودان.
وإذا تتبعنا خيوط نضال الطبقة العاملة السودانية في الفترة : 1900 – 1939 ، نلمس الآتي : -
– في عام 1903 ، 1907 أضرب عمال مصلحة الغابات احتجاجا علي ظروفهم السيئة.
–في عام 1907 قام العمال المصريون الذين جاءوا إلي العمل في مصلحة البواخر النيلية بإضراب نتيجة تذمرهم من ضآلة أجورهم ، وكان السجن نصيب البعض منهم. وفي العام نفسه حدث إضراب للعاملين بمزرعة الفاضلاب ببربر وكانت أعمار العاملين تتراوح ما بين الثانية عشره والرابعة عشرة ( ويعكس هذا الاستغلال البشع لللاحداث دون سن ال16 سنة ) .
– وفي عام 1908 م قدم موظفو السلك الكتابي مذكرة ضمت شكواهم من شروط الخدمة وضآلة المرتبات.
– في عام 1909 م قام سبعون من عمال الزراعة بمشروع الكاملين الحكومي بإضراب عن العمل لزيادة أجورهم ، ولم يتم الاستجابة لمطلبهم ، وتم فصلهم ، ومع ذلك حدث إضراب آخر من جانب عمال المزرعة الباقين (محمد عمر بشير: تاريخ الحركة الوطنية، ، ترجمة الجنيد لى عمر وهنرى رياض، 1987م، ص 213).
– وفي عام 1912 ، 1913 م أضرب عمال ميناء بور تسودان وعمال طريق أر كويت ، وكانت هذه الإضرابات جنينا وبذورا وشكلا جديدا للنضال ضد المستعمر ولمقاومته في الحقلين الصناعي والزراعي كما لاحظ محمد عمر بشير.
2
بعد الحرب العالمية الأولى دخلت نضالات الطبقة العاملة مع الحركة الوطنية بأسرها مرحلة جديدة في تطورها ذلك أن الأسعار قد ارتفعت وبوجه أخص سعر السكر ، ومن ثم ازداد بؤس أصحاب ذوي الدخل المحدود بالمقارنة مع الطبقات والفئات الأخرى هذا إضافة للكساد الاقتصادي الذي حدث عام 1908 م في النظام الرأسمالي العالمي وكان له انعكاسه علي السودان الذي أصبح دائرا في فلكه منذ عام 1898 م . زد علي ذلك تدهور التجارة في عام 1913 م نتيجة للأزمة التي بدأت مع الحرب العالمية الأولى والأزمة الاقتصادية والمجاعة التي حدثت عام 1914 م ويذكر الشيخ بابكر بدري في تاريخ حياته أن الحكومة اضطرت لاستيراد الذرة من الهند . وفي اجتماع عقده الموظفون الحكوميون في نادي الخريجين بأم درمان في 23 – 10 - 1919 م لمناقشة مشكلة ارتفاع الأسعار قرر الموظفون مطالبة الحكومة بزيادة المرتبات ومن ثم تقدموا بمذكرة للحكومة ، وبعد مناقشة مجلس الحاكم العام لها ، وملاحظته القلق السائد لدي موظفي الحكومة طلب المجلس من لجنة الاقتصاد المركزية القيام بعمل إحصائيات بشأن مستوي الأسعار فيما قبل الحرب وبعدها . ولكن لم تتخذ الحكومة أي إجراء من جانبها للاستجابة لمطلب زيادة الأجور مما أدي ازدياد قلق المواطنين المصريين العاملين بعطبرة ووادي حلفا ، وقام موظفو وادي حلفا بإضراب في : 20 – 10 – 1919 م . وتمت تعبئة وحشد قوات الجيش وأرسلت بعض الفرق البريطانية والمصرية لكل من بور تسودان وكوستي وعطبرة ، وعكس إرسال الجنود قلق الحكومة فيما يتعلق بتطور روح المقاومة بين العمال والموظفين وقامت بتهديد وإنذار العمال بالفصل واستخدام قوات الجيش للقمع عند الضرورة ، ولكن ذلك لم يمنع من انتشار روح المقاومة وسط العمال إذ حدث إضراب مماثل لعمال السكة الحديد بعطبرة خلال الأعوام 1920 إلى 1923 م ، وذلك بعد تهديدهم بالإضراب.
عندها تراجعت الحكومة ، واقترحت تطبيق نظام التدرج الجديد عام 1920 م أو هيكل مرتبات هدلستون الذي بدأ العمل به عام 1922 م. للمزيد من التفاصيل : راجع تاج السر عثمان الحاج ، مصدر سابق ، ص 68- 69،
3
في يناير 1921 احتج 108 عامل من عمال ورش السكة الحديد بالخرطوم علي تطبيق ذلك النظام الجديد واضربوا عن العمل ( محمد عمر بشير ، ص 211 – 212 ) .
ونتيجة لهذه التحركات والإضرابات تم تأسيس لجنة العمل والتي كانت من المفترض أن تقوم بتقديم الاستشارات اللازمة في شئون العمل للإدارة الاستعمارية الحاكمة والقيام بالمشاركة في المفاوضات بين تلك الإدارة وأي طرف آخر بالإضافة إلي تقديم الاستشارة في قضايا العمل والأجور لحكام المديريات وقوة دفاع السودان ، ولكن ما حدث أن تلك اللجنة استمرت دون نشاط حتى عام 1936 م ، وفي الفترة اللاحقة الممتدة حتى عام 1945 م كان نشاطها نادرا ومحددا ودون حكم مسبق. ( تاج السر عثمان: المرجع السابق ). أما بالنسبة لعمال القطاع الخاص، فلم يتخرطوا في الحركة المطلبية إلا عام 1929 ، ومن ثم انضموا إلى ركاب الحركة الوطنية .
4
في عام 1929 م نشبت الأزمة الاقتصادية للنظام الرأسمالي العالمي ، التى كان تأثيرها علي السودان كبيرا ، فقد تجاوز عجز الميزانية المليون جنية ، واتخذت الحكومة الإجراءات التالية : - سحب مبلغ كبير من حساب الاحتياطي العام ، - بيع بعض الأوراق المالية الحكومية التي بلغت قيمتها 600 ألف جنية مصري ، - تخفيض الإنفاق الحكومي إلى أدني حد ممكن ، - تأجيل مشاريع الخدمات والإصلاح الاجتماعي ، - الاستغناء عن عمل حوالي 1000 موظف ربعهم من الإنجليز ، وخفضت عدد الوظائف بميزانية الحكومة المركزية من 5888 في 1930 إلي 4753 وظيفة في 1933 ، أي ما يعادل 20 % من الوظائف ( محمد عمر بشير : التعليم ومشكلة العمالة في السودان ، ترجمة هنرى رياض والجنيد على عمر دار الجيل بيروت 1980 ،ص 18 ) ، هذا إضافة لإيقاف الترقيات وتخفيض المرتبات بنسبة تتراوح بين : 10 % - 15 % ( د . زكي البحيري :التطور الاقتصادي والاجتماعي في السودان ، دار النهضة المصرية ، ص 285 ) ، وأيضا كان من آثار هذه الأزمة علي السودان انخفاض أسعار المحاصيل الزراعية وبوجه أخص القطن ، كما أن رداءة الأحوال الجوية وغزو أسراب الجراد سب انخفاضا عظيما في الكمية المنتجة ، ومن ثم انخفضت قيمة الواردات في عام 1930 بمقدار 679 ألف جنيها ، كما انخفضت قيمة الصادرات بما يجاوز 1,550,000 جنيها ، ومرة أخري انخفضت الواردات بمقدار 2,5 مليون جنيه وانخفضت الصادرات بمقدار 3 ملايين من الجنيهات ( محمد عمر بشير : تاريخ الحركة الوطنية ، 129 ) ، كما تقلص حجم تجارة السودان من 13,5 مليون جنية إلى 5’ 5 مليون جنية مصري ( عبد الخالق محجوب : لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني ، طبعة دار الوسيلة ، ص 25 ) . نتيجة لذلك اضطرت الحكومة إلي اتباع سياسة تخفيض القوي العاملة أملا في تخفيض المصروفات ، وطلب من المصالح الحكومية الاستغناء عن بعض الموظفين والخدمات ومن ثم فصل 1095 موظفا تقريبا من بينهم 271 موظفا بريطانيا و520 مصريا و69 سودانيا والباقون من السوريين والجنسيات الأخرى ، وتم استقطاع نسبة تراوحت بين : 5 –10 % من المرتبات كما خصمت بعض العلاوات الخاصة وتم تحقيق وفر قدره 125 ألف جنيه في السنة ( محمد عمر بشير : تاريخ الحركة الوطنية ، ص 129 ) .
5
كان رد الموظفين السودانيين على اجراءات الحكومة إرسال عريضة للحاكم العام عبروا فيها عن معارضة سياسة التقشف وكانت العريضة التي وقعت من اللجنة المنتخبة ( لجنة العشرة ) من أعضاء نادي الخريجين تشتمل علي المقترحات التالية بدلا من تخفيض مرتبات السودانيين : - 1 – يجب أن يطلب من الحكومة البريطانية والمقرضين بلندن وقف مطالباتهم لاستيفاء القروض في مواعيد استحقاقها ، 2 – لا تخفض أي وظيفة شغلها سوداني ، 3 – لا يخفض مرتب خريج كلية غردون ، 4 – المطالبة بوجوب إصلاح نظام التعليم بحيث يهئ السودانيين لممارسة المهن الحرة خارج دواوين الحكومة واقترحوا بوجه خاص توسيع برنامج التعليم ليشمل بعض المهن التي لم تكن قد أنشئت لها مؤسسات تعليمية بعد مثل كلية التجارة والقانون والزراعة والبيطرة وكانت العريضة أول عمل منظم من جانب الخريجين منذ عام 1924 م ( راجع نص العريضة في حسن نجيلة : ملامح من المجتمع السوداني ، الجزء الثاني ، دار جامعة الخرطوم للنشر 1991 ، ص 97 وما بعدها ) . رفضت الحكومة المقترحات التي وردت في العريضة ومن ثم اضرب طلاب كلية غردون في عام 1931 الذي كان من مطالبهم إلغاء قرار الحكومة بتخفيض المرتب الشهري للخريج من 8 جنيهات إلى 5 جنيهات و500 مليم ، ورغم أن الإضراب لم ينجح في تحقيق أهدافه إلا أنه كان معلما بارزا في صراع الخريجين ضد الإدارة البريطانية ( للمزيد من التفاصيل عن إضراب 1931 راجع مذكرات عبد اللطيف الخليفة ، الجزء الأول ، دار جامعة الخرطوم للنشر 1988 ، وحسن نجيلة : ملامح من المجتمع السوداني ، الجزء الثاني ) . مرة أخرى أرسلت لجنة العشرة عريضة تطالب بالمطالب السابقة نفسها في يناير 1932 ، وكان رد الحكومة إيجابيا هذه المرة إذ أعادت النظر في قرارها فيما يتعلق بمرتب الخريج الجديد ، إذ قررت أن يكون 6 جنيهات شهريا بدلا من 5 جنيهات و500 مليم ، وكان القرار في نظر لجنة العشرة انتصارا ، وبنجاح إضراب كلية غردون أضحي الخريجون اكثر ثقة في بالنفس وتوصلوا إلى إمكانية إزالة بعض المظالم الواقعة عليهم من خلال العمل الجماعي المنظم ، ودفع ذلك الخريجين إلى اتباع وسائل اكثر فعالية لمواصلة عملهم . في الواقع إن دور الخريجين بدأ يتعاظم ويزداد في الحياة العامة بعد إضراب 1931 ومذكرة لجنة العشرة ، وتعيين سايمز حاكما عاما والذي طرح أفكارا تحررية حول التوسع في التعليم العالي وتقليص نفوذ الإدارة الأهلية ، وبدأ الخريجون يخرجون للحياة العامة بأشكال جديدة ، حيث ظهرت مجلتا الفجر والنهضة السودانية والجماعات الأدبية المختلفة وازداد النشاط الثقافي في أندية الخريجين بأم درمان ومدني وغيرهما . وأثمرت هذه الجهود تكوين مؤتمر الخريجين عام 1938 م ، بالإضافة للخريجين ، كان اثر الأزمة الاقتصادية كبيرا علي الطبقة العاملة وعلي مستوي معيشتها من تخفيض للأجور وتشريد واسع من العمل والمعاناة التي كان يواجهها المزارعون نتيجة للانخفاض المستمر في أسعار السلع الزراعية ونتيجة لذلك اضرب عمال ورش النجارين التابعة للسكة الحديد ( عبد الخالق محجوب : المرجع السابق ، ص 25 ) . وكان أثر الأزمة الاقتصادية كبيرا علي العمال الذين فضلا عن ذلك ازدادوا استياءا من استيعاب العمال الأجانب في الوقت الذي يعاني فيه الكثير من العمال السودانيين من البطالة ويعيشون حياة العوز والفاقة . وفي عام 1934 م اضرب 200 عامل بخزان جبل أولياء مطالبين بزيادة الأجور ، كما قام العمال المصريون في الخزان نفسه بإضراب مماثل ( محمد عمر بشير : ص 212 ) وفي سنة 1934 قام سائقو الترام والمفتشون وجامعي التذاكر بشركة الماء والقوي الكهربائية بإضراب لمدة خمسة أبام ( نفسه : ص 212 ) ، كما يشير النقابي إدريس عبد القادر في مؤلفه : نضال العاملين عبر السنين ص 9 – 15 إلى إضراب عمال التراموي ( عمال مواصلات العاصمة ) في مايو عام 1928 ، ( إضراب شركة النور والقوي الكهربائية فيما بعد ) ، نتيجة لخصم 25 % من مرتب كل عامل لقيام حفل وداع للسيد الإنجليزي ( مدير المصلحة ) والذين قادوا ذلك الإضراب هم : علي عبد الله ، إسماعيل أبو حراز الفضل ابر أهيم سليمان. الخ .
6
في عام 1935 اضطرت الحكومة نتيجة لإضرابات وضغوط العمال أن تصدر هيكلا راتبيا جديدا ، وتم رفع الحد الأدنى للأجور كما كان معمولا به في جدول هدلستون من 180 قرشا مصريا وزيادة الحد الأقصى للأجور من 15 إلى 17 جنيها.
استمر العمل بهذا النظام حتى عام 1934 م حيث استحدثت علاوة غلاء المعيشة نتيجة لضغوط العاملين وارتفاع الأسعار ، تراوحت علاوة غلاء المعيشة بين 30 إلي 285 قرشا مصريا في الشهر ، كذلك أدخلت علاوة الانتقال بين المنزل والمكتب للعاملين بالعاصمة ..
وكان الهيكل يتكون من ثماني درجات وثلاثة أقسام عمالية ( عمال مهرة ، عمال شبه مهرة ، عمال غير مهرة ) ، وطبق هذا الجدول علي العمال بالسكة الحديد أولا ثم جري تعميمه علي كافة الوحدات الحكومية بحلول عام 1939 م .
ورغم صدور الهيكل الجديد لاجور العمال إلا أن إضرابات العمال تواصلت : ففي عام 1938 م أضرب 60 عاملا من عمال مصانع حلج القطن بالحصاحيصا كما أضرب عمال ميناء بور تسودان وخلال عام 1940 م حدثت إضرابات من جانب العاملين بالزراعة في مديرية كسلا والجزيرة والشمالية ( محمد عمر يشير : تاريخ الحركة الوطنية ، ص 213 ) .
وهكذا استمر نضال العاملين من أجل حقوقهم حتى النهوض الكبير عام 1946 للعاملين بالسكة الحديد بانتزاع تنظيمهم النقابي" هيئة شؤون العمال" كما أشرنا سابقا ، والذي تم تتويجة بانتزاع قانون نقابات العمل والعاملين عام 1948م الذي اعترف بالنقابات.
alsirbabo@yahoo.co.uk
//////////////////////////
تشهد البلاد حاليا موجة عاتية من الاضرابات والاحنجاجات من أجل تحسين الاوضاع المعيشية التى ازدادت سوءا بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 ، ونتابع في هذه الدراسة الجذور التاريخية لهذه الاضرابات التى جاءت امتدادا لتاريخ نضالي طويل خاضه العاملون منذ بداية القرن العشرين ، وحتى قيام التنظيم التقابي" هيئة شؤون العمال" لعمال بالسكة الحديد بعطبر 1946 والتي خاضت معركة الاضرابات من أجل تحسين الاوضاع المعيشية والأجوروتركيز الأسعار، والمطالبة بالاعتراف بتنظيمهم النقابي حتى تم انتزاع قانون النقابات للعام 1948 الذي اعترف النقابات ، ومن ثم تم تسجيل النقابات. ولا شك أن ارادة العاملين في اضرابانهم الحالية منتصرة ، وسوف تذهب ريح السلطة الانقلابية الراهنة ، كما ذهبت ريح السلطة الاستعمارية في العام 1956.
معلوم أنه مع بداية القرن العشرين شرعت الإدارة البريطانية في السودان في إنجاز مشاريعها الزراعية والصناعية والخدمية في السودان ( راجع تاج السر عثمان الحاج : خصوصية نشأة ونطور الطبقة العاملة السودانية ، الشركة العالمية 2007) ،واتجهت إلى توفير الأيدي العاملة من السودانيين وتشجيع العمل المأجور في التعدين وبناء السكك الحديدية وفي قطع الأخشاب وفي المشاريع الزراعية ، وكانت ظروف العمل سيئة والأجور ضئيلة ، وتشير تقارير الحاكم العام عام : 1903 ، 1907 ، 1908 ، إلى إضرابات وقعت في تلك الفترة ، رغم سطوة وقسوة الإدارة البريطانية في بدايتة احتلالها للسودان.
وإذا تتبعنا خيوط نضال الطبقة العاملة السودانية في الفترة : 1900 – 1939 ، نلمس الآتي : -
– في عام 1903 ، 1907 أضرب عمال مصلحة الغابات احتجاجا علي ظروفهم السيئة.
–في عام 1907 قام العمال المصريون الذين جاءوا إلي العمل في مصلحة البواخر النيلية بإضراب نتيجة تذمرهم من ضآلة أجورهم ، وكان السجن نصيب البعض منهم. وفي العام نفسه حدث إضراب للعاملين بمزرعة الفاضلاب ببربر وكانت أعمار العاملين تتراوح ما بين الثانية عشره والرابعة عشرة ( ويعكس هذا الاستغلال البشع لللاحداث دون سن ال16 سنة ) .
– وفي عام 1908 م قدم موظفو السلك الكتابي مذكرة ضمت شكواهم من شروط الخدمة وضآلة المرتبات.
– في عام 1909 م قام سبعون من عمال الزراعة بمشروع الكاملين الحكومي بإضراب عن العمل لزيادة أجورهم ، ولم يتم الاستجابة لمطلبهم ، وتم فصلهم ، ومع ذلك حدث إضراب آخر من جانب عمال المزرعة الباقين (محمد عمر بشير: تاريخ الحركة الوطنية، ، ترجمة الجنيد لى عمر وهنرى رياض، 1987م، ص 213).
– وفي عام 1912 ، 1913 م أضرب عمال ميناء بور تسودان وعمال طريق أر كويت ، وكانت هذه الإضرابات جنينا وبذورا وشكلا جديدا للنضال ضد المستعمر ولمقاومته في الحقلين الصناعي والزراعي كما لاحظ محمد عمر بشير.
2
بعد الحرب العالمية الأولى دخلت نضالات الطبقة العاملة مع الحركة الوطنية بأسرها مرحلة جديدة في تطورها ذلك أن الأسعار قد ارتفعت وبوجه أخص سعر السكر ، ومن ثم ازداد بؤس أصحاب ذوي الدخل المحدود بالمقارنة مع الطبقات والفئات الأخرى هذا إضافة للكساد الاقتصادي الذي حدث عام 1908 م في النظام الرأسمالي العالمي وكان له انعكاسه علي السودان الذي أصبح دائرا في فلكه منذ عام 1898 م . زد علي ذلك تدهور التجارة في عام 1913 م نتيجة للأزمة التي بدأت مع الحرب العالمية الأولى والأزمة الاقتصادية والمجاعة التي حدثت عام 1914 م ويذكر الشيخ بابكر بدري في تاريخ حياته أن الحكومة اضطرت لاستيراد الذرة من الهند . وفي اجتماع عقده الموظفون الحكوميون في نادي الخريجين بأم درمان في 23 – 10 - 1919 م لمناقشة مشكلة ارتفاع الأسعار قرر الموظفون مطالبة الحكومة بزيادة المرتبات ومن ثم تقدموا بمذكرة للحكومة ، وبعد مناقشة مجلس الحاكم العام لها ، وملاحظته القلق السائد لدي موظفي الحكومة طلب المجلس من لجنة الاقتصاد المركزية القيام بعمل إحصائيات بشأن مستوي الأسعار فيما قبل الحرب وبعدها . ولكن لم تتخذ الحكومة أي إجراء من جانبها للاستجابة لمطلب زيادة الأجور مما أدي ازدياد قلق المواطنين المصريين العاملين بعطبرة ووادي حلفا ، وقام موظفو وادي حلفا بإضراب في : 20 – 10 – 1919 م . وتمت تعبئة وحشد قوات الجيش وأرسلت بعض الفرق البريطانية والمصرية لكل من بور تسودان وكوستي وعطبرة ، وعكس إرسال الجنود قلق الحكومة فيما يتعلق بتطور روح المقاومة بين العمال والموظفين وقامت بتهديد وإنذار العمال بالفصل واستخدام قوات الجيش للقمع عند الضرورة ، ولكن ذلك لم يمنع من انتشار روح المقاومة وسط العمال إذ حدث إضراب مماثل لعمال السكة الحديد بعطبرة خلال الأعوام 1920 إلى 1923 م ، وذلك بعد تهديدهم بالإضراب.
عندها تراجعت الحكومة ، واقترحت تطبيق نظام التدرج الجديد عام 1920 م أو هيكل مرتبات هدلستون الذي بدأ العمل به عام 1922 م. للمزيد من التفاصيل : راجع تاج السر عثمان الحاج ، مصدر سابق ، ص 68- 69،
3
في يناير 1921 احتج 108 عامل من عمال ورش السكة الحديد بالخرطوم علي تطبيق ذلك النظام الجديد واضربوا عن العمل ( محمد عمر بشير ، ص 211 – 212 ) .
ونتيجة لهذه التحركات والإضرابات تم تأسيس لجنة العمل والتي كانت من المفترض أن تقوم بتقديم الاستشارات اللازمة في شئون العمل للإدارة الاستعمارية الحاكمة والقيام بالمشاركة في المفاوضات بين تلك الإدارة وأي طرف آخر بالإضافة إلي تقديم الاستشارة في قضايا العمل والأجور لحكام المديريات وقوة دفاع السودان ، ولكن ما حدث أن تلك اللجنة استمرت دون نشاط حتى عام 1936 م ، وفي الفترة اللاحقة الممتدة حتى عام 1945 م كان نشاطها نادرا ومحددا ودون حكم مسبق. ( تاج السر عثمان: المرجع السابق ). أما بالنسبة لعمال القطاع الخاص، فلم يتخرطوا في الحركة المطلبية إلا عام 1929 ، ومن ثم انضموا إلى ركاب الحركة الوطنية .
4
في عام 1929 م نشبت الأزمة الاقتصادية للنظام الرأسمالي العالمي ، التى كان تأثيرها علي السودان كبيرا ، فقد تجاوز عجز الميزانية المليون جنية ، واتخذت الحكومة الإجراءات التالية : - سحب مبلغ كبير من حساب الاحتياطي العام ، - بيع بعض الأوراق المالية الحكومية التي بلغت قيمتها 600 ألف جنية مصري ، - تخفيض الإنفاق الحكومي إلى أدني حد ممكن ، - تأجيل مشاريع الخدمات والإصلاح الاجتماعي ، - الاستغناء عن عمل حوالي 1000 موظف ربعهم من الإنجليز ، وخفضت عدد الوظائف بميزانية الحكومة المركزية من 5888 في 1930 إلي 4753 وظيفة في 1933 ، أي ما يعادل 20 % من الوظائف ( محمد عمر بشير : التعليم ومشكلة العمالة في السودان ، ترجمة هنرى رياض والجنيد على عمر دار الجيل بيروت 1980 ،ص 18 ) ، هذا إضافة لإيقاف الترقيات وتخفيض المرتبات بنسبة تتراوح بين : 10 % - 15 % ( د . زكي البحيري :التطور الاقتصادي والاجتماعي في السودان ، دار النهضة المصرية ، ص 285 ) ، وأيضا كان من آثار هذه الأزمة علي السودان انخفاض أسعار المحاصيل الزراعية وبوجه أخص القطن ، كما أن رداءة الأحوال الجوية وغزو أسراب الجراد سب انخفاضا عظيما في الكمية المنتجة ، ومن ثم انخفضت قيمة الواردات في عام 1930 بمقدار 679 ألف جنيها ، كما انخفضت قيمة الصادرات بما يجاوز 1,550,000 جنيها ، ومرة أخري انخفضت الواردات بمقدار 2,5 مليون جنيه وانخفضت الصادرات بمقدار 3 ملايين من الجنيهات ( محمد عمر بشير : تاريخ الحركة الوطنية ، 129 ) ، كما تقلص حجم تجارة السودان من 13,5 مليون جنية إلى 5’ 5 مليون جنية مصري ( عبد الخالق محجوب : لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني ، طبعة دار الوسيلة ، ص 25 ) . نتيجة لذلك اضطرت الحكومة إلي اتباع سياسة تخفيض القوي العاملة أملا في تخفيض المصروفات ، وطلب من المصالح الحكومية الاستغناء عن بعض الموظفين والخدمات ومن ثم فصل 1095 موظفا تقريبا من بينهم 271 موظفا بريطانيا و520 مصريا و69 سودانيا والباقون من السوريين والجنسيات الأخرى ، وتم استقطاع نسبة تراوحت بين : 5 –10 % من المرتبات كما خصمت بعض العلاوات الخاصة وتم تحقيق وفر قدره 125 ألف جنيه في السنة ( محمد عمر بشير : تاريخ الحركة الوطنية ، ص 129 ) .
5
كان رد الموظفين السودانيين على اجراءات الحكومة إرسال عريضة للحاكم العام عبروا فيها عن معارضة سياسة التقشف وكانت العريضة التي وقعت من اللجنة المنتخبة ( لجنة العشرة ) من أعضاء نادي الخريجين تشتمل علي المقترحات التالية بدلا من تخفيض مرتبات السودانيين : - 1 – يجب أن يطلب من الحكومة البريطانية والمقرضين بلندن وقف مطالباتهم لاستيفاء القروض في مواعيد استحقاقها ، 2 – لا تخفض أي وظيفة شغلها سوداني ، 3 – لا يخفض مرتب خريج كلية غردون ، 4 – المطالبة بوجوب إصلاح نظام التعليم بحيث يهئ السودانيين لممارسة المهن الحرة خارج دواوين الحكومة واقترحوا بوجه خاص توسيع برنامج التعليم ليشمل بعض المهن التي لم تكن قد أنشئت لها مؤسسات تعليمية بعد مثل كلية التجارة والقانون والزراعة والبيطرة وكانت العريضة أول عمل منظم من جانب الخريجين منذ عام 1924 م ( راجع نص العريضة في حسن نجيلة : ملامح من المجتمع السوداني ، الجزء الثاني ، دار جامعة الخرطوم للنشر 1991 ، ص 97 وما بعدها ) . رفضت الحكومة المقترحات التي وردت في العريضة ومن ثم اضرب طلاب كلية غردون في عام 1931 الذي كان من مطالبهم إلغاء قرار الحكومة بتخفيض المرتب الشهري للخريج من 8 جنيهات إلى 5 جنيهات و500 مليم ، ورغم أن الإضراب لم ينجح في تحقيق أهدافه إلا أنه كان معلما بارزا في صراع الخريجين ضد الإدارة البريطانية ( للمزيد من التفاصيل عن إضراب 1931 راجع مذكرات عبد اللطيف الخليفة ، الجزء الأول ، دار جامعة الخرطوم للنشر 1988 ، وحسن نجيلة : ملامح من المجتمع السوداني ، الجزء الثاني ) . مرة أخرى أرسلت لجنة العشرة عريضة تطالب بالمطالب السابقة نفسها في يناير 1932 ، وكان رد الحكومة إيجابيا هذه المرة إذ أعادت النظر في قرارها فيما يتعلق بمرتب الخريج الجديد ، إذ قررت أن يكون 6 جنيهات شهريا بدلا من 5 جنيهات و500 مليم ، وكان القرار في نظر لجنة العشرة انتصارا ، وبنجاح إضراب كلية غردون أضحي الخريجون اكثر ثقة في بالنفس وتوصلوا إلى إمكانية إزالة بعض المظالم الواقعة عليهم من خلال العمل الجماعي المنظم ، ودفع ذلك الخريجين إلى اتباع وسائل اكثر فعالية لمواصلة عملهم . في الواقع إن دور الخريجين بدأ يتعاظم ويزداد في الحياة العامة بعد إضراب 1931 ومذكرة لجنة العشرة ، وتعيين سايمز حاكما عاما والذي طرح أفكارا تحررية حول التوسع في التعليم العالي وتقليص نفوذ الإدارة الأهلية ، وبدأ الخريجون يخرجون للحياة العامة بأشكال جديدة ، حيث ظهرت مجلتا الفجر والنهضة السودانية والجماعات الأدبية المختلفة وازداد النشاط الثقافي في أندية الخريجين بأم درمان ومدني وغيرهما . وأثمرت هذه الجهود تكوين مؤتمر الخريجين عام 1938 م ، بالإضافة للخريجين ، كان اثر الأزمة الاقتصادية كبيرا علي الطبقة العاملة وعلي مستوي معيشتها من تخفيض للأجور وتشريد واسع من العمل والمعاناة التي كان يواجهها المزارعون نتيجة للانخفاض المستمر في أسعار السلع الزراعية ونتيجة لذلك اضرب عمال ورش النجارين التابعة للسكة الحديد ( عبد الخالق محجوب : المرجع السابق ، ص 25 ) . وكان أثر الأزمة الاقتصادية كبيرا علي العمال الذين فضلا عن ذلك ازدادوا استياءا من استيعاب العمال الأجانب في الوقت الذي يعاني فيه الكثير من العمال السودانيين من البطالة ويعيشون حياة العوز والفاقة . وفي عام 1934 م اضرب 200 عامل بخزان جبل أولياء مطالبين بزيادة الأجور ، كما قام العمال المصريون في الخزان نفسه بإضراب مماثل ( محمد عمر بشير : ص 212 ) وفي سنة 1934 قام سائقو الترام والمفتشون وجامعي التذاكر بشركة الماء والقوي الكهربائية بإضراب لمدة خمسة أبام ( نفسه : ص 212 ) ، كما يشير النقابي إدريس عبد القادر في مؤلفه : نضال العاملين عبر السنين ص 9 – 15 إلى إضراب عمال التراموي ( عمال مواصلات العاصمة ) في مايو عام 1928 ، ( إضراب شركة النور والقوي الكهربائية فيما بعد ) ، نتيجة لخصم 25 % من مرتب كل عامل لقيام حفل وداع للسيد الإنجليزي ( مدير المصلحة ) والذين قادوا ذلك الإضراب هم : علي عبد الله ، إسماعيل أبو حراز الفضل ابر أهيم سليمان. الخ .
6
في عام 1935 اضطرت الحكومة نتيجة لإضرابات وضغوط العمال أن تصدر هيكلا راتبيا جديدا ، وتم رفع الحد الأدنى للأجور كما كان معمولا به في جدول هدلستون من 180 قرشا مصريا وزيادة الحد الأقصى للأجور من 15 إلى 17 جنيها.
استمر العمل بهذا النظام حتى عام 1934 م حيث استحدثت علاوة غلاء المعيشة نتيجة لضغوط العاملين وارتفاع الأسعار ، تراوحت علاوة غلاء المعيشة بين 30 إلي 285 قرشا مصريا في الشهر ، كذلك أدخلت علاوة الانتقال بين المنزل والمكتب للعاملين بالعاصمة ..
وكان الهيكل يتكون من ثماني درجات وثلاثة أقسام عمالية ( عمال مهرة ، عمال شبه مهرة ، عمال غير مهرة ) ، وطبق هذا الجدول علي العمال بالسكة الحديد أولا ثم جري تعميمه علي كافة الوحدات الحكومية بحلول عام 1939 م .
ورغم صدور الهيكل الجديد لاجور العمال إلا أن إضرابات العمال تواصلت : ففي عام 1938 م أضرب 60 عاملا من عمال مصانع حلج القطن بالحصاحيصا كما أضرب عمال ميناء بور تسودان وخلال عام 1940 م حدثت إضرابات من جانب العاملين بالزراعة في مديرية كسلا والجزيرة والشمالية ( محمد عمر يشير : تاريخ الحركة الوطنية ، ص 213 ) .
وهكذا استمر نضال العاملين من أجل حقوقهم حتى النهوض الكبير عام 1946 للعاملين بالسكة الحديد بانتزاع تنظيمهم النقابي" هيئة شؤون العمال" كما أشرنا سابقا ، والذي تم تتويجة بانتزاع قانون نقابات العمل والعاملين عام 1948م الذي اعترف بالنقابات.
alsirbabo@yahoo.co.uk
//////////////////////////