اِستِهلال: لكتاب “كوابيس الإبادة..  سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل” 

 


 

 

الجناة اِستِهلال

 لكتاب "كوابيس الإبادة..  سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

Foreword

 to the book “Genocidal Nightmares. Narratives of Insecurity and the logic of Mass Atrocities”

فرانسيس م. دينق

Francis M. Deng

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة لاستهلال فرانسيس م. دينق لكتاب من تحرير عبد الوهاب الأفندي عنوانه: "كوابيس الإبادة..  سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"، صدر عن دار نشر بلومزبيري الأكاديمية عام 2015م. وجمع الكتاب مقالات لعدد من الكتاب من مختلف أرجاء العالم مثل اليكس دي فال من بريطانيا، وسلوبودان ماركوفيتش من صربيا، وكينيث سيمالا من كينيا، وغيرهم.

وفرانسيس دينق (1938م - الآن) هو سياسي ودبلوماسي وكاتب من جنوب السودان. عمل مستشارا خاصا للأمين العام للأمم المتحدة لمنع الإبادة والفظائع الجماعية، ومديرا لمشروع دعم السلام في السودان في معهد الولايات المتحدة للسلام، وأستاذا باحثا في السياسة الدولية والقانون والمجتمع في جامعة جونز هوبكنز، وزميلا غير مقيم في دراسات السياسة الخارجية في معهد بروكنجز. وسبق لنا ترجمة بضع صفحات من كتابه مع المؤرخ مارتن دالي المعنون "قيود من حرير Bonds of silk".

 أما محرر الكتاب فهو، بحسب ما جاء في صحيفة "العربي الجديد"، أكاديمي سوداني يعمل الآن أستاذا للعلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. وسبق له العمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997م. وكان قد عمل قبل ذلك في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا.

المترجم

***********   **********   **********

قام دكتور عبد الوهاب الأفندي بتحرير كتاب يتناول واحدة من أشد التحديات التي تواجه البشرية هولاً، ألا وهي الإبادة والفظائع الجماعية. وأنجز الأفندي هذا العمل بصرامة فكرية واستقصاء مشوقا ميز انتاجه.

 وتعرض هذا الكتاب لكثير من المعضلات المهمة المتعلقة بجوانب متعددة لوجهات نظر متباينة التخصصات، تدور حول سرديات فلسفية عن الكراهية والشر، وتجليهما في عنف الإبادة والفظائع الجماعية. وهذه أكثر من مجرد "كوابيس"، إذ أن من يصابون بالكوابيس يستيقظون منها ويتنفسون الصعداء. إلا أن ما تفضي له الاستجابة وردة الفعل على المخاوف المفرطة (والتي يسأ فهمها أحيانا) من نتائج كارثية هي نتائج حقيقية ومأساوية.

وتتمركز المعضلات المعيارية والأخلاقية التي كشف عنها هذا الكتاب بتوفيق كبير في دور الجاني الفردي، والعنف الجماعي الذي يحث على القتل إلى حد الفظائع الجماعية، وكذلك الديناميات السياقية التي فك عقالها جنون القتل الجماعي والثقافة المغوية التي تغذي وترعى نزعة أعمق تجاه القضاء "عليهم" ...  أولئك الذين يفترض أنهم يهددوننا "نحن". وهذه الديناميات شديدة التعقيد، ويتعذر تلخيصها بيسر في هذا الاستهلال المختصر. وسواءً تم التركيز على شخصيات "شريرة"، وأفعالهم "الشريرة"، أو الطاعة الجماعية لأوامر قادة استبدادين وفاسدين ومُلتاثي العقل والوجدان، أو التحريض المدمر لبيئات معادية، فإن المعضلة الأخلاقية في تصور الجناة تفصل بصورة قاطعة بين أمرين متعارضين هما: اخْتِطار (risk) الإبادة، وشن هجوم استباقي يهدف للقضاء على ذلك العدو المُهدِّد المفترض. أما من منظور الضحايا، فإن محاولة تفسير المصدر لفهم جذور الأسباب (للإبادة والفظائع الجماعية) تساوي التغاضي عن تلك الفظائع، أو تثبيط الشجاعة الأخلاقية، أو حتى تدل ضمنيا على أننا "كلنا جناة شر محتملين" تحت ظروف مشابهة. ومن جهة أخرى، فإن مواجهة التهديد المحسوس بطريقة منطقية تعني أن "الاستجابة للإبادة الجماعية لا بد أن تكون إبادة جماعية"، كما وصفها الأفندي في عبارة نابضة بالحياة.

وأحد الأمثلة التراجيدية لذلك هو تلك المجازر التي حدثت في جنوب السودان بين الدينكا والنوير بسبب ما قالت الحكومة إنه محاولة انقلاب في 15 ديسمبر 2013م، بينما عزاه قادة المعارضة لصراعات داخلية بين أفراد الحرس الرئاسي. وأعقب ذلك عنف عرقي انتشر بسرعة من العاصمة جوبا إلى خارجها في ولايات أخرى بجنوب السودان. وعندما كان البحث والتحقيق يجرى فيما وقع من أحداث، تواصلت العمليات العدائية، وكانت تلك مأساة مضاعفة، خاصة وقد كان جنوب السودان قد عانى ما عانى من حروب مدمرة تطاولت لنصف قرن من الزمان، وشملت من ضمن ما شملت فظائع جماعية ذات أبعاد تاريخية.

ويبرز هذا الكتاب معضلة أخلاقية أخرى في الاختيار بين التهديد بالعقوبة كرادع، وبين الازالة الاستباقية لمصدر الخوف الذي يدفع للجوء للإبادة. وهذا بالطبع يشابه السؤال الكلاسيكي - غير القابل للحل - عما إذا كانت عقوبة الإعدام تردع جريمة القتل. وأنا أميل لموافقة الأفندي في رأيه الذي يذهب لأنه من غير المحتمل أن يتوقف الذين دأبوا على السير في طريق ارتكاب جرائم قتل جماعي ليفكروا في أي عقوبة قد توقع عليهم نظير تلك الجرائم. ومن جانب آخر إذا كان التوقع المسنود بمصداقية عالية يشير إلى أن الفرد من أولئك القادة الذين خططوا وحرضوا وأداروا عمليات الإبادة الجماعية والجرائم الفظيعة الأخرى سيواجهون المحاسبة عاجلا أم آجلا، فإن هذا من المتصور أن يردع للجناة المحتملين عن ارتكاب مثل تلك الجرائم. وعلى الرغم من ذلك، فلا بد لي من أؤكد أنه في حالات النزاع فإن تقديم لائحة اتهام للقادة وهم في سدة الحكم، والذين لا يزال بإمكانهم أداء أدوار مهمة في حل النزاعات الدموية الشنيعة، يمثل معضلة أخلاقية حقيقية.

وعلى الرغم من الجدل القائم حول اتهام القادة وهم في سدة الحكم بالمسؤولية عن الإبادة الجماعية والجرائم الفظيعة الأخرى، عقابا لهم على أفعالهم السيئة، وكرادع للآخرين، فإن هذا الكتاب يقدم دَعوَى وَجِيهة لإعطاء الأولوية لمعرفة سبب الجريمة من الأصل، وذلك لمنع الجريمة من "المنبع الأصلي". وهذا بدوره يستلزم تشخيصا سليما للمشكلة، وتقديما لاستراتيجيات ملائمة لمعالجة الأسباب الجذرية لجرائم الإبادة والفظائع الجماعية. وبحسب ما ذكره كُتَّاب هذا المُؤَلَّف فإن: "الفرضية التي ندافع عنها هنا هي أن انتاج ونشر وترويج الأطروحات التي تغرس شعورا عميقا بانعدام الأمن في المجتمع هي عادةً نقطة التحول التي تقنع الأفراد العاديين بأن الانخراط في القتل الجماعي هو عمل عقلاني تماما، وربما لا مناص منه". واِنْتَقَى الأفندي كمقدمة لفرضيتهم تلك الترهيب من الإسلام "الإسلاموفوبيا" بحسبانه مثالا مثيرا للاهتمام لـ "سرديات انعدام الأمن" الذي "ينمو ويتطور، وبدأ بالفعل في إحداث تأثير ملموس وخطير أمام ناظرينا. وهو بذلك يقدم لنا "حالة مختبرية" لاستكشاف كيفية حدوث مثل ذلك الضرب من السرديات، وما أصله، وكيف نما وتطور، وكيف يعمل.  وفي الحقيقة، رغم أن بعض الحالات التي درسها الكتاب مثل كينيا ويوغسلافيا السابقة والهند وفلسطين والعراق ونيجريا والسودان (بهذا الترتيب) تناولت صراعات عرقية ودينية أخرى لا علاقة لها بالإسلام، فإن الإسلاموفوبيا لاتزال هي الأبرز في هذا الكتاب. وهذا التركيز ليس بالأمر المستغرب، رغم أن محرر الكتاب ذكر أن ذلك "لم يكن خطة واعية منا، ولكن يبدو أن موضوع الإسلام والإسلام فوبيا هو الخيط الناظم الذي يربط بين كل الحالات التي جُمعت في هذا الكتاب لتوضيح كيف أن سرديات انعدام الأمن هي من تؤطر وتسوغ للعنف الجماعي".

وبينما أجد نفسي على اتفاق مع المُؤَلَّفين في أن الخوف هو العامل المركزي في السبب الجذري (للمشكلة)، فإن تركيزي الشخصي هو على الآثار الناتجة عن صراعات الهوية، والتي تنحدر نحو هوّة عنف الإبادة، مع الأخذ في الاعتبار بالطبع بأن الخوف هو العامل المساهم الرئيس. لقد كانت صراعات الهويات بالفعل هي محطّ واحدة من اهتماماتي لعقود طويلة، عبر دراساتي حول أزمة هوية السودان الوطنية، وأيضا عبر تفويض منظمة الأمم المتحدة لي، أولا لأعمل ممثلا للأمين العام للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان للأشخاص النازحين داخلياً لإثني عشر عاما (1992 – 2004م)، ثم لأعمل مستشارا خاصا للأمين العام للمنظمة في مجال منع الإبادة الجماعية (2007 – 2012م). وفي غضون الفترتين اللتين عملت فيهما بالأمم المتحدة تناولت العديد من المواضيع الحساسة المتعلقة بالسيادة الوطنية، خاصة وأنها تتعلق بمجتمعات منقسمة بصورة شديدة الحدة، وتعاني بصورة كبيرة من عدم المساواة والتفرقة والتهميش وإنكار الحقوق المرتبط بأزمة هوية وطنية، الذي كثيرا ما أفضى إلى إطلاق إِسار صراعات إبادة، وحدد استجابة الدولة للنتائج الإنسانية المترتبة على الصراعات المرتبطة بالهوية. وبعبارة أخرى، فإن أزمة الهوية الوطنية تحدث في فراغ من المسؤولية الوطنية لحماية السكان المهددين بعنف جماعي، أو الذين هم في حاجة ماسة للمساعدات الانسانية. ويغدو المجتمع الدولي هو المصدر البديل لحماية ولمساعدة السكان المحتاجين.

ولكن، في الأقطار المنقسمة على نفسها بين المجموعة الممسكة بزمام مقاليد السلطة بالدولة، وبين المجموعة الأخرى المُضطَهَدة التي كثيرا ما تشوه صورتها، فإن الدولة عادةً ما تذكر أنها دولة ذات سيادة، وتستخدم ذلك لتضعه عقبةً أمام التدخل الدولي. وبخلاف التدخل العسكري (المكلف ماليا وبشريا)، فإن النهج الأكثر عمليةُ وفعاليةً محتملة هو اشراك الحكومات على أساس "السيادة كمسؤولية"، وهي فكرة قمت بتطويرها بالتعاون مع زملاء في "مشروع الدراسات الإفريقية" في معهد بروكنجز بالعاصمة واشنطن، كاستجابة لتحديات صراعات ما بعد الحرب الباردة في أفريقيا. ففي غضون سنوات الحرب الباردة، كان يُنظر للحروب الإقليمية (وحتى النزاعات الداخلية) نظرة مشوهة باعتبارها جزءًا من الحُروب التي تندلع بالوكالة عن القوى العظمى. ومع انتهاء الحرب الباردة بدأ الناس يرون الصراعات الداخلية في سياقها الصحيح، وشرعوا في إعادة توزيع المهام والمسؤوليات للدولة المعنية لمنع تلك الصراعات الداخلية والسيطرة عليها وحلها بالتعاون مع دول الإقليم، ومع دول العالم إن دعت الحاجة. وهذا هو جوهر ما جاء في سلسلة كتبنا بعنوان "السيادة كمسؤولية Sovereignty as Responsibility"، الذي نشره معهد بروكنجز عام 1996م. وبعد ذلك تم إعادة صياغة وتطوير الفكرة لتغدو "مسؤولية الحماية Responsibility to protect". وعلى الرغم من أن مفهومي "السيادة كمسؤولية" أو "مسؤولية الحماية" لا يزالان يثيران الجدل نسبة لأنهما تميلان إلى الارتباط بالتدخل العسكري، وتهديد السيادة (الوطنية). غير أن المفهومين يجدان (الآن) تأييدا واسعا باعتبارهما أفضل الاستراتيجيات العملية لمنع الإبادة الجماعية والجرائم الفظيعة وجرائم الحروب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية، والرد عليها جميعا.

ويقوم مفهوما "السيادة كمسؤولية" و"مسؤولية الحماية" على ثلاثة أعمدة هي: مسؤولية الدولة تجاه حماية سكانها، ومسؤولية المجتمع الدولي في مساعدة الدولة في تعزيز قدراتها لتمكينها من القيام بمسؤوليتها الوطنية، ومسؤولة المجتمع الدولي في القيام بعمل جماعي لحماية السكان عندما يتضح جليا إخفاق الدولة في حماية سكانها. وتتراوح الإجراءات التي قد تتخذ تحت العمود الثالث من المقاطعة الدبلوماسية، وفرض للعقوبات، والتدخل العسكري في الحالات الحرجة.

إن النزوح الداخلي يمثل بصورة واضحة واحدة من الأمور التي تشكل تحديا خاصا للتعاون الدولي مع الدول المعنية. وعندما عُيِّنْتُ كممثل للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الأشخاص النازحين داخل أوطانهم، كان هنالك ما بين 24 إلى 30 مليون فردا من النازحين داخليا في أكثر من 50 دولة. وهؤلاء هم الأفراد الذين اضطرتهم الصراعات المسلحة أو النزاعات الداخلية أو التجاوزات الممنهجة لحقوق الإنسان للفرار من بيوتهم أو مناطقهم التي كانوا يقيمون فيها عادةً، ولكنهم بَقُوا في داخل حدود بلادهم، وإن تخطوا تلك الحدود الدولية فسيعدون لاجئين، ويتولى النظام الدولي، بإطاراته القانونية والمؤسسية، حمايتهم ومساعدتهم. ورغم أن النازحين داخليا يبقون في داخل بلادهم (خلافا للاجئين الذين نجوا من النزاعات الداخلية)، إلا أنهم يبقون في منطقة الخطر المحلي، ويفتقرون لأي مراكز قانونية أو مؤسسية لتقدم لهم حماية ومساعدة المجتمع الدولي. والجدير بالذكر أن النزوح الداخلي هو مجرد عَرَض لنزاع قد يشمل الإبادة الجماعية وغيره من الفظائع الجماعية، التي تتأتى بدورها من أزمات الهوية الوطنية في الدول المنقسمة على نفسها، وهو ذات السبب الذي يجعل التدخل الدولي أمرا ضروريا، لكنه يجد في كثير من الحالات المقاومة (من الدول المعنية).

ورَغْمَ ذَلِكَ، وبما أن هذه الأزمة، بحسب تعريفها، داخلية، فإنها تثير مسائل حساسة بشكل خاص تتعلق بالسيادة. لذا واجه قرار إنشاء ممثلية للأمين العام للأمم المتحدة للنازحين داخليا بكثير من الجدل والاختلاف منذ البداية. وكان على أن أضع هذا في الاعتبار ضمن منهجي وممارستي لذلك التفويض. وإن بدا (لبعض الحكومات) أن دوري يمثل تهديدا للسيادة الوطنية، فستغلق في وجهي الأبواب، ولن يكون متاحا لي أي مجال للحوار مع السلطات الوطنية، ومع الأشخاص النازحين داخل أوطانهم، الذين يفترض أنني أقوم بالدفاع عن قضيتهم. وبقي مفهوم "السيادة كمسؤولية" هو الأساس المعياري في حواراتي مع الحكومات.

وكما كنت أشرح دوما، فإن الدقائق الخمس الأولى مع الرئيس أو الوزير المعني كانت حاسمة ومصيرية لإيصال رسالتي له أو لها. كنت أبدأ معه أو معها بإرسال رسالة مفادها بأنني مدرك تماما بأن المشكلة هي مشكلة داخلية، وتقع تحت دائرة السيادة الوطنية، ولكني لا أرى السيادة كأمر سلبي يعيق المشاركة الدولية في حل المشكلة، بل أراها فكرة إيجابية تتعلق بمسؤولية الدولة تجاه حماية المحتاجين من سكانها وتوفير المعونات الإنسانية لهم، وطلب المساعدة من المجتمع الدولي إن لزم الأمر. وكنت أُضِيفُ، بحذر وحصافة، ولكن بصرامة أيضا، أنه إن أخفقت الدولة في قيامها بمسؤولياتها بصورة تضع أولئك المحتاجين في وضع معاناة يهددهم بالموت، فلن يقف المجتمع الدولي ساكنا يتفرج ولا يفعل شيئا. لذا فإن أفضل السبل لصَوْن السيادة الوطنية هو القيام بممارسة "السيادة كمسؤولية".

وكنت أشير دوما في تقاريري وبياناتي حول الدول المعنية، ليس فقط أن نزوح الأشخاص داخل أوطانهم هو نتيجةً للنزاعات الداخلية، ولكن إن هذه النزاعات نفسها هي أعراض لمشاكل بنيوية أعمق تشمل أزمات هوية وطنية مزمنة. وكنت أناشد السلطات (في الدول المعنية) بأن تنظر لأزمات النزوح الداخلي بحسبانها فرصة لمعالجة تلك المشاكل البنيوية الأعمق، وأن تحاول تجسير الهوة التي تحدثها، وأن تملأ فراغ المسؤولية المرتبط بأزمة الهوية الوطنية.

وعلى وجه العموم، قوبل منهجي في أداء مهتمي المذكورة بالقبول. فقد جعل ذلك المنهج من قضية النزوح الداخلي شأنا قانونيا ومقبولا يستدعي تعاون الدولة المعنية مع المجتمع الدولي. وقام فريق من خبراء قانون دوليين – تحت إشرافي - بكتابة المبادئ التوجيهية الخاصة بشأن النزوح الداخلي، وهي مستوحية من قانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني والقانون المماثل للاجئين. ووجدت تلك المبادئ التوجيهية قبولا واسعا، وتم النص عليها في تشريعات الكثير من الدول، وغدت هي الأساس لاتفاقية الاتحاد الأفريقي لحماية ومساعدة النازحين داخليًا في إفريقيا، والمعروفة أيضًا باسم اتفاقية كمبالا، وهي أول أداة ملزمة في هذا الشأن.

إن الإبادة الجماعية هي ظاهرة عاطفية للغاية، بأكثر ما يثيره النزوح الداخلي. وعلى الرغم من أنها واحدة من أشد الجرائم شناعة، ويتوقع المرء أن توحد تلك الجريمة الجميع في الوقاية منها ومنعها وعقاب من يقترفها، إلا أنه، لنفس السبب، فهي عادةً أمر ينكر وقوعه الجناة، والذين يعهد إليهم بالوقاية منها ومنعها. لهذا فإننا، على وجه العموم، نعلم عن وقوع الإبادة بعد وقوعها في سرديات تاريخية، وبعد اختفاء الجناة، غالبا بعد هزيمتهم.  ويغدو تحديد إن كانت الإبادة قد وقعت بالفعل حكما يقرره المنتصر على من هزمهم. وفي السياق المعاصر تستدعي الإبادة للذهن ما حدث في رواندا والبوسنة وكمبوديا والهولوكوست، وكلها تعد من الأمور الحساسة والبالغة الصعوبة التي تجعل من المناقشة الهادئة أمرا مستحيلا، ولذا يغدو تحاشي ذكرها من الأمور الملائمة المريحة.

ولهذا السبب كنت حين قبلت التكليف لأعمل مستشارا خاصا للأمين العام للأمم المتحدة في مجال منع الإبادة الجماعية قد وَطَّنَت نَفْسَي على قبول مهمة شديدة الصعوبة، إذا لم نقل إنها مستحيلة. وقررت أن أضع تصورا للمشكلة بطريقة تجعلها مفهومة وسهلة المداورة ويمكن السيطرة عليها، وأن أبحث عن حلول عملية يمكن بها عمل ما يمكن عمله بصورة جماعية. وفكرت في أن أفضل طريقة هي أن أبدد الغموض الذي يحيط بالإبادة الجماعية، ومن نظرة البعض لها على أنها شيء لا يمكن المساس به، أو التعامل معه، إلى أنها مشكلة نتجت عن صراعات هوية مفرطة الحدة تستهدف مجموعات معينة من البشر، ويمكن الاستعراف عليها، إما بالعوامل المحددة في اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، والتي تشمل الجنسية والعرق والعنصر والديانة، أو معايير أخرى. ولا أقصد بقولي إن أمر الإبادة الجماعية هو أمر بالغ الحساسية لدرجة تمنع مناقشته، بل أعني أن ادعاء وجود إبادة جماعية يُولَد ردود أفعال مفرطة العاطفية لدي الطرفين: الجناة المزعومين والذين دُعُوا للتدخل، الشيء الذي يجعل من الإنكار استجابةً دفاعية تعيق أي مناقشة جادة.

لا تقع صراعات الإبادة لمجرد وجود خلافات، بل تحدث تلك الصراعات كنتيجة لآثار تلك الاختلافات من ناحية كيفية تباين السكان وتقسيمهم طبقيا. وكما هو الحال دوما في الدول التي تعاني انقسامات حادة، فإن هناك بها بعض المجموعات التي تتمتع بالكرامة وحقوق المواطنة، بين تحرم مجموعات أخرى من كل ذلك، ويجردون من إنسانيتهم ومن حقوق المواطنة المعتادة، ويتعرضون للتفرقة والتهميش والعزل. وكانت ردة فعل هؤلاء المُضطَهَدين المُستصغِرين هي التي ولدت تلك الصراعات، التي كثيرا ما نتجت عن اليأس والقنوط، من غير طرق سليمة بناءة لتحقيق مطالبهم في نيل المساواة والشعور بالانتماء للوطن. ومن المفارقات أن ردة فعلهم تولد حلقة مفرغة من الخوف، وردة فعل من الدولة أو من المجموعات المهيمنة التي لها مصالح مكتسبة في الوضع الماثل.

 ومن هذا المنظور التحليلي، يبدو جليا أن أكثر استراتيجية فعالة لمنع الإبادة والفظائع الجماعية هي الإدارة البناءة للتنوع التي تهدف لتحقيق الإدماج والمساواة والتمتع بحقوق الانسان والحريات الأساسية.  وأرى - من تجربتي الشخصية- أنه بينما يكون النقاش حول الإبادة محفوفا دوما بالعاطفية والإنكار، تجد الدعوة للإدارة البناءة للتنوع في غالب الأحايين آذانا صاغية واستجابة إيجابية. وبذا تغدو المسألة مسألة تطوير المعايير المناسبة، والمؤسسات، والاستراتيجيات التشغيلية لتحقيق تلك الإدارة البناءة. وفي النهاية كنا قد أفلحنا في تطوير إطار للتحليل لتوفي أداة لتقويم اختطار الإبادة، وابتداع طرق عملية لمنعه. ويوفر ذلك الإطار الوسائل التي يمكن بها للدول أن تنظر لنفسها "في المرآة" – إن جاز التعبير - لتقييم أدائهم، وللاسْتِعْرَاف على ما يحتاج لإصلاح حتى يتم الحصول على وسائل وقائية فعالة. وتشمل الاستراتيجيات الهادفة لتطوير ذلك الإطار المعياري المناصرة (الدعوة) والتدريب والورش والتعليم النظامي وغير النظامي.

ويدرك هذا الكتاب مركزية عامل الهوية، ويذكر أنه "في حالات الصراع الحاد، فإن المجموعة المستهدفة يتم تجريدها من انسانيتها، وتوضع خارج الكون الإنساني للجناة". ونحن ندرك جيدا تطبيقات كلمات وتعابير مثل "حشرات" و"جرذان" التي أطلقها الهوتو والقذافي ضد التوتسي والمحتجين الليبيين، على التوالي. والاستخدام الشعبي لكلمة "حيوان" للتعبير عن احتقار المرء لسلوك إنسان آخر يعد مؤشرا مخففا للإنكار الأخلاقي لإنسانية مثل ذلك الشخص. وأقتبس الأفندي هنا من مقال (للمؤرخ الفرنسي) سيميلين المعنون "نحو مفردات المجازر والإبادة" موضحا أن " ولهذا السبب فإن دراسة القصص ... المتعلقة بثقافة من الثقافات ... هو أمر مهم من أجل فهم المجازر التي اُرْتُكِبَتْ في أوساطهم".

وإبان دراستي للقصص الفلكلورية (الشعبية) عند الدينكا عرضت لي بصورة دراماتيكية صورة التجريد من الإنسانية من قبل "الغرباء المعاديين" كجزء من "عالم الحيوان". وفي تلك القصص تجد أن الخصائص المنسوبة للحيوانات التي يصادفونها (غالبا الأسُود، وهي أخطرها)، يمكن أن تنطبق أيضا على سلوك البشر، لدرجة أن الأسد قد يَظُنَّ خطأً أنه إنسان، حتى يبدو عدوانه أو أي أنماط سلوك حيواني آخر وخصائصه ظاهرةً للعيان. وكذلك يبدأ البشر في اكتساب بعض ميول الأسد بطريق لا تدل دوما على تحول مادي أساسي. وكانت العملية التي تظهر بها أحيانا الخصائص الحيوانية تشمل الإشارة البيولوجية لذيل الحيوان أو فرائه، ولكن كان يُشَارُ للشخص ببساطة بأنه قد "توحش". وكل شخص ينتهك المبادئ الأساسية المتعارف عليها ثقافيا للعُرْفٌ الأخلاقي عند الدينكا يُوصَفُ في قصصهم الشعبية بأنه قد تحول لأسد. وعادة ما يقومون بقتل "المنحرفين أخلاقيا" (الذين تحولوا إلى أسود)، حتى ولو كانوا من أقربائهم، ولا تأخذهم بهم شفقة ولا أي شعور بالندم. غير أنه في حالات الانتهاكات الأقل وطأة، فإن المتورطين يتعرضون لعقوبات قاسية، تشمل غالبا الضرب، ويعادون لمكانتهم البشرية السابقة.

ويطلق الدينكا – حتى في لغتهم اليومية العادية - على الأشخاص بالغي الطمع، والذين يأخذون – دون وازع من ضمير – أكثر مما يعطون، اسم "أُسُود". وتحكي "قصة الثور" عندهم عن رجل قام زوج أخته بسرقة ثوره الأثير، وبيعه ليشتري بثمنه ذرة في أيام مجاعة. وأتهم الرجل ذلك السارق بأنه تحول لأسد:

سألت أبيي: " يا والدي. لماذا يهمس النمامون في لغة لا أفهمها؟"

يا أبي، هل أحضرت أسدا لعائلتنا؟"

ابتسم الأب ورد قائلا: "أي أسد يمتلك مثل تلك المجموعة الكاملة من الأسنان؟"

يا أيها الأسد صاحب المجموعة الكاملة من الأسنان،

هل التهمت ثوري؟

الرجل الذي أعطيناه بنتنا قد تحول لوحش.

 وإذا كان الدينكا يعدون ابن قبيلتهم الذي ينتهك العُرْفٌ الأخلاقي أسدا، فمن السهل تفهم لماذا ينظرون للمعتدين الأجانب باعتبارهم وحوشا شرسة. لقد لاقى الدينكا أناسا آخرين لعقود طويلة، وتعرضوا بصورة خاصة لموجات من الغزاة في غضون سنوات القرن التاسع عشر. إلا أن حكاياتهم الفلكلورية لا تشير قط لأصول وأعراق وأوطان أولئك الغرباء، على الرغم من أنماط سلوكهم التي يعدونها شريرة و"غير دينكاوية". وكل من يخادنون أفرادا من "عالم الأسد" ينتهي بهم الأمر ليغدوا أسودا أيضا، وإن لم يمكن إعادة ترويضهم بالعقاب الشديد، فمصيرهم القتل.

ورغم ما ذكرناه آنفا، إلا أن ذلك ليس إلا جزءًا من قصة سلوك الدينكا تجاه الأجانب. وكبشر، فإن أعراف الدينكا الأخلاقية تقضي بأن يلقوا المعاملة الكريمة التي يستحقها كل البشر الذين خلقهم الله. وفي واقع الأمر فإنه يجب احترام حتى الحيوانات والجمادات بحسبانها من مخلوقات الله. ويؤمن الدينكا أيضا بأن الانتهاك الصارخ لكرامتهم الأساسية مَجلَبة لغضب الإله، وقد يفضي لمرض عضال أو حتى الهَلاَك. فالخط الفاصل إذن هو المدى الذي يعتبر فيه الأجانب منحرفين أخلاقيا، مما يفقدهم حقهم الأساسي في الكرامة كبشر.

وكما ذكرنا من قبل، فإن هذا الكتاب يؤكد الرأي السائد على نطاق واسع من أن الخوف هو الدافع الذي يحث الجهات المُهَدَّدة المفترضة على القيام بردة فعل ضد هجمات الإبادة الجماعية. وفي هذا كتب الأفندي أن الخوف هو: "أهم دافع" في ممارسة الفظائع الجماعية. ولا يلزم أن تكون أسباب ذلك الخوف مادية ملموسة. فالخوف في الغالب هو أمر محسوس أو مُخْتَلَق، ليس فقط من قبل المعرضين له وسريعي التأثر به، ولكن أيضا من قبل الأقوياء نسبيا. ويخلق التهديد الوجودي الذي تحس به المجموعة الأقوى من خصمها الضعف تعزيزا لدينامية تبادلية تجعل المجموعات المتنازعة غير قادرة على السيطرة عليه أو إدارته. وعادة ما يتطلب الأمر طرفا ثالثا للوساطة بينهما لفض النزاع.

ومن المفارقة الساخرة أن الذاتية التي يعرف بها الناس أنفسهم (في مقابل للحقائق الموضوعية) كثيرا ما تعني أن ما يقسم أطراف النزاع يتعلق بأساطير وخرافات ليس لها من الحقيقة نصيب. وكثير ممن يخوضون الحرب ضد بعضهم لا يختلفون عن بعضهم البعض كما يظنون. وهم (جميعا) يولدون، كما سماهم الأفندي "الخوف من التلوث". وظهر هذا لي جليا في العديد من الدول التي زرتها بحكم وظيفتي ممثلا للأمين العام للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان للأشخاص النازحين داخلياً. ولم يكن من السهل على دوما وأنا أنظر للمتنازعين لأسباب عرقية أن أميز بين هواياتهم. وأتذكر جيدا أني كنت أخاطب جمعا في برواندي، وكان لبعضهم المميزات (الشكلية) للتوتسي، كما أُخْبِرْنَا بها، وكان لبعضهم الآخر المميزات (الشكلية) للهوتو. غير أن الكثير منهم كان يحمل خليطا من صفات الاثنين الخلقية التي استطعت الاسْتِعْرَاف عليها عرقيا. وذات مرة سألت وزير الخارجية: "هل تستطيع التفريق بين التوتسي والهوتو؟" أجاب بالقول: "نعم، ولكن بهامش خطأ قدره 35%". وذلك القدر من هامش الخطأ واسع الانتشار في غالب الدول المنقسمة على نفسها.

ويقود "الخوف من التلوث"، أو أن يُعَد المرء في المجموعة الخطأ بسبب حالات الغموض والالتباس التي تقع عند الحدود التي تفصل الهويات المختلفة، إلى أن يجعل الذين في "المنطقة الرمادية" يؤكدون هوياتهم المُرَكّبة / المصطنعة (constructed) بانتقام مشوه. ويجدر بالذكر هنا على سبيل المثال المعارك القبلية بين الدينكا وجيرانهم العرب البقارة، الذين كان لهم معهم اختلاط عرقي. والذرية – من الجانبين - التي نتجت عن ذلك الاختلاط يقفون الآن على خط المواجهة ليثبت كل منهما انتمائه واخلاصه للجماعة التي تبناها. وفي الفظائع الجماعية التي اُرْتُكِبَتْ مؤخرا بجنوب السودان، فإن طرفي النزاع (الدينكا والنوير) هما الأقرب لبعضهما عرقيا وثقافيا في البلاد، فهما عمليا مجموعة واحدة متقاربة جدا.

إن الآثار السياسية للتحليل المذكور في هذا الكتاب هي أنه: "ينبغي أن يبدأ العمل (في حل المشاكل) على مستوى هذه السرديات المؤطرة للنزاعات العرقية، وذلك عن طريق تقديم ضمانات عملية ضد التهديدات المحسوسة، ولكن أيضا مع تقويم أكثر واقعية للتهديدات، وفضح مسؤول لنداءات الخوف من الغرباء وبغضهم، وكل السرديات العنصرية، أو المهووسة بالشك أو جنون العظمة، تلك التي تصم أصنافا عديدة من البشر بصفه "الشر"، أو بأنهم غير جديرين بالكرامة الإنسانية". والعمل المتصور هو إلى حد كبير عمل ثقافي للتعبير الفكري عن المسألة، وإيجاد سرديات بديلة وأكثر بنائية. وهذا يمثل تحديا أمام التعليم بشقيه، النظامي وغير النظامي، والمؤسسي والعام. وينبغي أن تتضمن أهداف مثل هذا التعليم نسف أساطير الهويات المشوهة التي تعمل على تقسيم الناس، وإزالة العوامل المفرقة التي لا مبرر لها، واستكشاف أرضية مشتركة.

يجب البدء مبكرا في الحياة بسياسات منصبة على السياسات الموجهة للتعليم الصحيح، الذي يتبنى التعددية كمصدر إثراء أكثر منه مصدر نزاع. وينبغي مثاليا أن يبدأ مثل ذلك التعليم في البيت في غضون سنوات التكوين الباكرة. وأذكر أنه في أثناء زيارتنا للمجلد، المركز الإداري لجيراننا العرب المسيرية، ونحن نسير في طريق ترابي عندما نظر إلينا طفل في الرابعة أو الخامسة من العمر، وهو ملطخ بالطين، ويرتدي أسمالا بالية. رأينا على وجه ذلك الصبي ابتسامة مخادعة وهو يقول: "عبيد". وظن البعض منا ممن لم يكن يعرفون نبرات اللغة العربية المحلية بأن الطفل كان يحيهم. وأخذ مني العجب كل مأخذ عندما رأيت ابن عمي، الذي كان قد فهم تماما معنى الكلمة التي تفوه به الولد الصغير، يخطو نحوه ويصفعه في وجهه. وبعد سنوات طويلة تعرضنا لموقف مشابه في أوروبا حينما كنت في زيارة بعض أقاربي الذين كانوا يدرسون الطب في إيطاليا. وبينما نحن نتمشى في شوارع مدينة البندقية (ڤينيسيا) صاح فينا طفل في نفس عمر طفل المجلد بشتيمة عنصرية "niggers". أين يمكن لأولئك الأولاد الصغار تعلم مثل تلك الكلمات المسيئة إلا من عائلاتهم ومجتمعهم؟

ومن المهم أيضا أن نتذكر أن التعليم النظامي، حتى في أعلى مراحله، لا يضمن، بالضرورة، نتيجة أخلاقية صحيحة. فالإبادة والفظائع الجماعية والعنصرية والخوف من الغرباء وغير ذلك من مختلف صنوف ودرجات التفرقة العنصرية، كلها من بنات أفكار وتخطيط وتحريض وإدارة أفراد تلقوا تعليما عاليا، وبعضهم حاصل على درجة الدكتوراه. ولعلاج أدواء المجتمعات الحالية، ينبغي أن يتضمن التعليم في كل مراحله على محتوى أخلاقي. وفكرة "الكرامة الإنسانية"، التي يُفْتَرَضُ أن تكون مشتركة في كل الثقافات لدرجات مختلفة، والتي يجب أن تمثل الأساس للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، توفر الأساس للسياسات الموجهة للتعليم الصحيح من أجل غرس ثقافة السلام والوحدة مع التنوع.

وهنا يغدو دور نُظُم الاعتقاد Belief systems بالغ الأهمية. وبما أن كل الأديان والمعتقدات تقريبا تتشارك في نفس القيم الأخلاقية الأساسية (رغم أنها تضاد بعضها البعض في الممارسات المؤسسية) قد كنت أرى دوما أن إقامة وتطوير قواعد أو تشريعات معدلة ؟ modem codes تقوم على أساس قيمهم الأخلاقية المشتركة ربما كانت تصلح للاستخدام كأساس لتعليم الأخلاق. وقد أثبت الكثير من علماء الأنثروبولوجيا أن بعض الذين يعدون من المنتمين لفكرة جعل الأديان عالميّة (universalizing religions) هم أكثر الناس تدينا. ويمكن أن يُوثق لنظم الاعتقاد عندهم، وأن تضمن في تشريعات روحية وأخلاقية، وأن تستخدم في تعزيز الهدف العالمي للكرامة الإنسانية.

وما نحتاجه هو وقاية هيكلية مبكرة ضد نزاعات الإبادة المرتقبة الوقوع، واستجابة كافية للنتائج الإنسانية المترتبة على تلك النزاعات، بالإضافة لعلاج جذور النزاع لإعادة السلام والأمن والاستقرار وتنمية اجتماعية واقتصادية منصفة. وهذه هي عناصر الحكم الأساسية المؤسسة على قيم ديمقراطية واحترام للحقوق الأساسية والحريات المدنية. ومن واجبات الدولة الأساسية أيضا حماية مواطنيها، وكل من هم تحت سلطاتها القضائية، مع مساعدة المجتمع الدولي إن لزم الأمر.

وتظهر تجربتنا حتى الآن صياغة أو تصوير الإبادة كنوع مفرط ومتطرف من النزاعات المرتبطة بالهوية تجد القبول عند الكثير من الحكومات، وتوفر أساسا لإشراكهم على نحو بناء. ومن هذه الفرضية، يمكن بيسر فهم أن أفضل السبل لمنع الصراعات التي تسببها الإبادة هي الإدارة البناءة للتنوع. والهدف من هذا هو ضمان اشراك (إدماج) الكل دون تمييز والمساواة واحترام الكرامة الإنسانية لكل مجموعات السكان، بغض النظر عن جنسيتهم وأصولهم وأعراقهم أو ديانتهم، وغير ذلك من عوامل الهوية الأخرى. إن الإطار المعياري للتعاون بين الدولة والمجتمع الدولي ينعكس بصورة واضحة في الأعمدة الثلاث: المسؤولية المشتركة للوقاية، والاستجابة وإعادة البناء، كما تتجسد في المفهومين المزدوجين: "السيادة كمسؤولية" و"مسؤولية الحماية".

وينبغي أن ينظر لكل ما ذكر على أنه جزء من سير لعملية (process) تهدف لتحقيق مُثل عالمية قد لا يمكن تحقيقها في المستقبل القريب، ولكن ينبغي على البشرية أن تسعى جاهدة لتقاربها بصورة متدرجة. ويكمن التحدي هنا في ردم الفجوة بين تطلعات المدى البعيد لتحقيق تلك المُثل، وبين المشاركة العملية – في المدى القصير - مع الحكومات للحصول على نتائج عاجلة. وينبغي أن يبقى المبدأ الْمُوَجَّه الجوهري هو احترام حقوق الإنسان، بحسبانه عنصرا في السعي العالمي لتحقيق الكرامة الإنسانية. غير أن ذلك السعي يجب أن يتم بالتعاون وبصورة جماعية لتقليل فرص إعاقة بعض الحكومات الضعيفة التي تعمد لحراسة أفكارها الضيقة عن السيادة، وتنافح عنها.

إن هناك فرقا شاسعا بين أن تقول لمثل تلك الحكومات إنه، باسم حقوق الإنسان والمبادئ الإنسانية، سيقوم المجتمع الدولي بتجاوز سيادتهم بكل الوسائل الضرورية الممكنة، ويشمل ذلك استخدام القوة المسلحة، وبين أن تقول لهم إن "السيادة نفسها تعني المسؤولية، والكرامة التي تتمتع بها في وسط المجتمع الدولي، والاحترام الذي تحظى به، وشرعيتك في الداخل والخارج، كل ذلك له علاقة وثيقة بمدى قيامك بمسؤوليات السيادة". ولا يوجد قائد ولا حكومة تحترم نفسها وترغب في الحصول على الشرعية في الداخل والخارج أن تعترض على مثل تلك الصياغة البناءة للتحدي.

لقد قدم لنا كُتَّاب هذا المُؤَلَّف قاعدةً مثيرةً للاهتمام لمقاربة أكبر للتحديات المُتَهَيْبَة المتعلقة بالتهديد المرعب للإبادة والفظائع الجماعية. وركز هؤلاء الكُتَّاب في تحليلاتهم الموجهة للسياسات على سرديات الخوف بين المجموعات العرقية، بينما تبنيت أنا في هذا الاستهلال نهجا أوسع في مقاربة أمر الصراعات التي تنتج عن صراع الهويات. غير أننا نتشارك في نفس الفرضية القائمة على صراع الهويات، ونصل لخلاصات متشابهة حول الحاجة العاجلة لمعالجة جذور المشكلة لسرديات الخوف أو سوء إدارة التنوع. ونشترك جميعا في هدف واحد هو بسط مسألة منع الإبادة والفظائع الجماعية وتيسيره، وظل ذلك، للأسف، أمرا مأساويا عصي المنال. لقد نادي – وتعهد – العالم من قبل بأن لا تعود الإبادة للعالم مجددا، وأخفق في عديد المرات في الوفاء بذلك.  غير أن كل إخفاق يرفع من درجة الشعور بالذنب ويعزز التصميم على تحسين ذلك المسعى لتحويل كلمات ذلك التعهد (بألا تعود الإبادة للعالم مجددا) إلى حقيقة واقعة. ويجب أن يقدم هذا الوعي المتزايد والتصميم على القيام بعمل أفضل أرضية صالحة للتفاؤل. وعلى كل حال فإن التفاؤل (شريطة ألا يكون فاقدا للبصر والتبصَّرَ) هو مصدر الدافعية للعمل، بينما لا يقود التشاؤم إلا لطريق مسدود. إن التفاؤل المبدئ، مصحوبا بخطوات عملية متدرجة نحو تحقيق مَطْمَح "ألا تعود الإبادة للعالم مجددا"، يجب أن يعني أنه يمكن بالفعل منع الإبادة.



alibadreldin@hotmail.com

 

آراء