الجنوب ، خطأ تاريخي ومعضلة الأخلاق
في يوليو من العام 2010م، اي قبل الاستفتاء علي انفصال الجنوب بحوالي نصف عام، انعقد اجتماع بين نائبي رئيس جمهورية السودان (الموحد انذاك) ونائب رئيس جنوب السودان (الذي كان يتمتع بسلطات اكبر مما هو عليه اليوم). كان ذلك الاجتماع يهدف الي الوصول لاتفاق ما حول تأمين حقول النفط الواقعة في منطقة (وصفتها في ذلك الوقت في مقال لي بتاريخ 12 يوليو 2012م بانها ملتهبة ، انظر سودانايل، منبر الرأي، هل ستغرق مواردنا في الدماء؟). المقصود بمواردنا من وجهة نظري هي الموارد الطبيعية والبشرية، الموجودة في شكل خام او المعالجة. تلك الموارد مملوكة لشعب السودان في الشمال والجنوب ، وجدت علي الطبيعة كهبة الاهية ( GOD- Given) او تم استخراجها بجهد بشري (كالبترول) او اعدادها (كالبنيات التحتية علي قلتها). من الطبيعي ان الحكومة لا تملك مال خاص بها تحصل عليه نتيجة للاستثمارات الشخصية للمنتمين اليها ، او ان السادة الحكام هم اسياد يتصدقون ويمنون علي شعوبهم باموالهم الخاصة، التي حصلوا عليها من عرق جبينهم او نتيجة لورثة او هبات آلت اليهم من ذويهم واولياء امورهم المتوفين او الاحياء. بهذا الشكل فان عدم المحافظة علي تلك الموارد واستخدامها بالشكل الامثل وصيانتها، يعني بشكل مباشر لا لبس فيه ان الدولة المعنية او الدول المعنية بالقيام بتلك المهمة هي دولة (دول ) فاشلة.
نبهنا في ذلك الوقت الي ان تلك الموارد سيعتمد عليها اقتصاد البلدين بشكل حاسم آنيا ومستقبلا. لا توجد ضرورة للتذكير بدور النفط في اقتصاد الدولتين وما آل اليه الحال بعد فقدانه او تعثر انتاجه وتصديره. اهمية النفط من الاشياء القليلة في الاقتصاد التي استطاع حكام الدولتين السودانيتين ادراكها بشكل واضح، بحكم انه مورد سوقي مدر للسيولة يغذي الموازنة العامة للدولة ويعود بالخير، بالضرورة علي الجيوب والشركات الخاصة المملوكة للحكومتين بشكل ما ، او لاشخاص منتمين اليهما ومرتبطين ارتباطا عضويا بالجهاز الحكومي (ولا اقول الدولة هنا لان هذا شأن اخر اتمني ان نصل اليه في المدي المنظور). بالرغم مما لعبه البترول من دور اساسي في الوصول لاتفاقيات السلام الشامل وضمانه لاتفاق الاخوة الاعداء وعلي الاستمرار في تعاقدهم السلطوي خلال الفترة الانتقالية، الا انه في نفس الوقت تحول الي نقمة في العلاقة بين الدولتين بعد الافصال، كما شكل واحدا من اهم الاسباب التي ادت للخلاف الحاد بين مكونات الحكم في دولة جنوب السودان.
نسبة لعدم وجود دولة او مؤسسات في الجنوب فمن الطبيعي ان تهيمن المؤسسة القبلية التقليدية، التي علي اساسها تم الاستقطاب من قبل مكونات الازمة (الكامنة)، الي ان وصل الامر الي حرب ضروس حصدت ارواح الاف من المواطنيين الابرياء، الذين كانوا يمنون انفسهم بقيام دولة خاصة بهم تحقق لهم العيش الكريم وتسير بهم نحو الحرية والرفاهية التي حرموا منها ، حسب ما تم زرعه في اذهانهم ووجدانهم بسبب الشمال.
اشرنا في ذلك الوقت الي الآتي (....ويساهم بذلك (النفط) بشكل حاسم في بناء الاحتياطي اللازم للقدرة المالية للدولة ولتوفير عوامل الاستقرار النقدي والمالي وضخ السيولة الضرورية للأداء الاقتصادي وتأمين سعر صرف الجنيه السوداني. لهذه الأسباب أثارت أخبار استقالة عدد من العاملين بحقول النفط في الجنوب الذعر حتي وسط الدوائر الحكومية التي لا تتوقف عن التهديد وادعاء القوة والاستعداد لكل ما يأتي مهما كانت خطورته. لكن، والحمد لله، أن هذا الأمر قد حدث في وقت مناسب ليدق ناقوس الخطر بشكل يهدد امتيازات حكام الدولتين السودانيتين وينبههم الي خطورة التصعيد، الذي قد يؤدي الي حرب طاحنة تجعل منهما دولتين فاشلتين بامتياز وتجعل من الحكام أشخاص عاديين ، لا يتعب احد بحصر ثرواتهم او تجميدها او الحاجة الي إصدار قرارات دولية بالعقوبات او الحصار الاقتصادي، "المقال السابق"..) انتهي .
يبدو ان ذلك (الناقوس) لم يكن كافيا لادراك خطورة الموقف من جميع الاطراف ، سواء في الدولتين او علي المستوي الاقليمي او الدولي (دولا ومنظمات)، بذلك يصبح الحمد قائما للذي لا يحمد علي مكروه سواه. تم فصل الجنوب الي دولة مستقلة دون ان تتوفر ابسط المقومات لذلك. لم توظف الموارد في الفترة الانتقالية لبناء ما تم النص عليه في اتفاقيات السلام الشامل فيما يتعلق ببناء القدرات والمؤسسات الضرورية بالحد الادني لادارة شئون دولة، تقع في واحدة من اشد مناطق العالم اضطرابا وخارجة من حرب اهلية وصفت بالاطول، ليس فقط في افريقيا بل وربما علي مستوي العالم في القرن الماضي. كلما تم الاستناد اليه هو جملة من معطيات التاريخ بين الشمال والجنوب، توجه الحكم الحالي في السودان وادخاله لعنصر الدين وبعض الجوانب العرقية في الحرب الاهلية بين ابناء الوطن الذي كان واحدا، اضافة لتقارير تقول ان السودان اصلا دولة فاشلة فما هو الجديد في تقسيمه الي دولتين فاشلتين؟
لكن غاب عن الحساب او اهمل بشكل متعمد ان فشل الدولة في هذا الاطار خطر يهدد شعب الدولتين ويمتد اقليميا ودوليا، خاصة بعد احتواء ثورات الربيع العربي وتحويل دولها الي حاضنات للارهاب والفوضي ، وتحويل دولة كانت آمنة مثل سوريا الي مسرح للعبث الدولي وجعل شعبها يتسول القوت او يموت علي طرقات دول الجوار. بذلك فان اداء الانظمة الحاكمة اصبح من مهددات السلم الاقليمي بشكل مؤكد، وهنا تتحقق نبؤة رئيس الوزراء الاثيوبي الراحل ملس زناوي الذي شبه انفجار الوضع في الجنوب ب"يوم القيامة". من هنا فان دولة مثل جنوب السودان ستتحول الي عبء عالمي ثقيل يمثل معضلة مركبة سياسية – اقتصادية – أمنية، بل معضلة (اخلاقية) تجب مواجهتها، لكن السؤال يكمن في – باي امكانيات وباي ثمن؟ ومن الذي سيدفع التكلفة الانسانية والمادية الباهظة لخطأ تاريخي مركب؟-.
اتضح ان جميع المبررات الاقتصادية (وجود النفط الذي سيشكل موردا مضمونا لدولة الجنوب ويساعد في استغلال الموارد الطبيعية الضخمة التي تتوفر لها)، او الاسباب الثقافية والاجتماعية، او الاعتبارات السياسية، خاصة الاختلاف الجوهري في الرؤية السياسية بين الشمال والجنوب خاصة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، اتضح ان جميع تلك المبررات كانت اوهام وقائمة علي رؤية اشخاص وجهات لا علاقة لهم بالشعب السوداني ومنفصلين تماما عن الواقع الذي تسير عليه الامور علي الارض. اولئك الاشخاص الذين تم جمعهم من جميع اطراف الارض ثم انضم اليهم بشكل اساسي كما هو معلوم كل من المؤتمر الوطني الحاكم في الشمال والحركة الشعبية التي كان علي رأسها شخص استثنائي يتمتع بكارزمة ومواهب استثنائية كانت في حد ذاتها تشكل شيك ضمان معتمد لنهاية حميدة، بخلاف هذا العامل الذاتي، لم تتوفر لاولئك الاشخاص والجهات رؤية مكتملة للمصير التاريخي الذي ينتظر الجنوب بعد الانفصال. بعد ان تم توقيع الاتفاق وبعد الشعبية الجارفة التي اظهرها للعالم استقبال الزعيم الراحل جون قرنق من قبل الشعب السوداني، تمت ازاحته عن المشهد السياسي، الامر الذي شكل قاعدة اساسية لبناء الازمة وتطويرها وانتشارها الي ان وصلت الي حالة سرطانية، لا يمكن استئصالها فآل الحال الي ما هو عليه اليوم.
اذن من يتحمل مسئولية ما جري؟ نقول الجميع وان بدرجات متفاوتة، تبدأ من نظامي الحكم في الشمال والجنوب، ثم المكونات السياسية والاجتماعية الاخري، اما بضعفها وهوانها وعجزها واما بفشل متأصل فيها ، لا شفاء منه داخل عناصر اساسية منها (توصف بالكبري) او ، وللمسئولية التاريخية حتي (شعبي) السودان، اما بالسلبية والاسترخاء او بسبب اندفاع وتفاؤل مفرط غير مبرر بان ما حدث هو الحل الامثل، وانتهز هذه الفرصة لاقول ان الصفوة السودانية الشمالية (العاطلة عن المبادرة وفاقدة القدرة علي اقتحام الاحداث والتأثير في مسارها ايجابيا)، تتحمل مسئولية تاريخية كبري في ذلك الخطأ التاريخي الجسيم. اما المسئولية الاعظم، التي تصل الي حد الجرم الصارخ ، فتقع علي ما يسمي بالمجتمع الدولي خاصة ما عرف (باصدقاء ايقاد) – بما يتوفر لديهم من امكانيات وقدرات تنظيمية - الذين اوهموا الجميع بحرصهم علي مصلحة دولة الجنوب وبالتالي العمل علي رعايتها والاخذ بيدها، الي ان تصبح دولة تتجاوز مرحلة الاقلاع الامن في دروب التنمية والبناء، اي ال (Take – Off). بدلا عن ذلك اكتفت بالتفرج علي الازمة في الجنوب تتشكل وتتطور الي ان وصلت الي الانفجار وهي الان تبحث عن مسكنات تخفف الالم.
هل ستستطيع جهة ما ان تنهي هذه الكارثة الانسانية التي تجري في الجنوب؟ ام ستتحول الي عار جديد علي الانسانية يضاف الي ما سبقه من مخازي في هذه القارة المنكوبة، التي يبدو ان انسانها يقيم باقل مما تستحقه القرود، خاصة من الدول التي تدعي حرصها علي الحرية وحقوق الانسان وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية، التي بالتأكيد لديها رؤية حول ما يجري في الجنوب ولكن الرجاء هو ان لا تكون رؤية شيطانية.
ما يحدث في جنوب السودان معضلة اخلاقية اخري تواجه الانسانية وعلي حلها تعتمد العديد من الاسئلة المرتبطة بالحقوق والحريات وتطور النظم السياسية في عصر رأس المال المتعولم هذا. هل في هذا مبالغة؟ لا اري ذلك، الا اذا كان الدم الذي يراق في جنوب السودان رخيصا ولا يستحق الاهتمام ، لان من يتم سحقهم هناك لا يملكون ادوات للانتاج ولا قوة شرائية تملأ خزائن الشركات بالارباح.
drhassan851@hotmail.com