الجنوب.. ومستقبل السُّودان من خلال الماضي (4 من 15) … بقلم: الدكتور عمر مصطفى شركيان

 


 

 

ombill.ajang@googlemail.com

 

 

 

الاجتهادات السُّودانيَّة لإحلال السَّلام

 

الحكومة الانتقاليَّة (1985-1986م).. إعلان كوكادام

 

منذ اندلاع الحرب الأهليَّة السُّودانيَّة الثانية العام 1983م كانت جل العمليات العسكريَّة التي بُذِلت لإخضاع حركة التمرُّد، أو المحاولات السلمية للوصول إلى ترضية سياسيَّة، قد باءت بالفشل الذريع.  ولعلَّ واحداً من أسباب هذا الفشل هو إصرار الأنظمة المتعاقبة على السلطة في الخرطوم على التعنت والإيمان الذي لا يخالطه أي شك بأنَّ القوة العسكريَّة وحدها كفيلة بإحراز سلام دائم في السُّودان.  ففي 3 آذار (مارس) 1985م أعلن الرئيس جعفر محمد نميري تشكيل "اللجنة القوميَّة للسَّلام" للنظر في وضع الحرب وإجراء محادثات السَّلام مع قادة الحركة الشعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان بغية الوصول إلى حل سلمي للمشكل.  وترأس اللجنة السيد سر الختم الخليفة، رئيس وزراء حكومة ثورة تشرين الأول (أكتوبر) 1964م، والذي خدم بعدئذٍ كوزير وتقلَّد وظائف عليا في حكومة أيار (مايو) العام 1969م.  وشملت اللجنة – فيما شملت – أعضاءاً من الإقليم الجنوبي وشمال السُّودان، ومنهم الدكتور أندرو ويو رياك، وزير الدولة لشؤون مجلس الشعب القومي، مقرِّراً، وكذلك الدكتور بيتر نيوت كوك (أستاذ بجامعة الخرطوم)، والدكتور لام أكول أجاوين (أستاذ بجامعة الخرطوم)، وأبيل ألير (نائب رئيس الجمهوريَّة ورئيس المجلس التنفيذي للإقليم الجنوبي سابقاً)، وإسايا كولانق (محافظ محافظة بحر الغزال).  غير أنَّه لم يتم التشاور مع كل من الدكتورين بيتر نيوت ولام أكول قبل وضع اسميهما في هذه اللجنة.  ففي صباح 27 آذار (مارس) 1985م خاطب نميري الجلسة الافتتاحيَّة لهذه اللجنة قبل التوجه إلى العاصمة الأمريكيَّة – واشنطن – لإجراء فحوصات طبيَّة ومقابلة المسؤولين الأمريكيين.  ولكن في 6 نيسان (أبريل) 1985م انتفض الشعب السُّوداني، وأزاح الحرس القديم من القصر الجمهوري لتبدأ فترة جديدة في تأريخ السُّودان المعاصر باسم المجلس العسكري الانتقالي ومجلس الوزراء الانتقالي (1985-1986م).  وقد جاء رد الحركة الشعبيَّة على هذه اللجنة في خطاب ألقاه رئيس الحركة – الدكتور جون قرنق – في راديو الحركة في يوم 22 آذار (مارس) 1985م، حيث رفضت الحركة أيَّة محادثات مع نميري، وحثَّت – من جانب آخر – الحاميات العسكريَّة في جنوب السُّودان أن تأخذ المبادرة والمبادأة في تفعيل محادثات مباشرة مع الجيش الشعبي لتحرير السُّودان، وأن تتجاهل نميري وجنرالاته.(73) هكذا لم تثمر جهود نميري في تحقيق أي سلام في جنوب السُّودان، بل ساعدت في استقطاب الأقاليم المهمَّشة الأخرى نحو الحركة الشَّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان.  أما لماذا لم تظفر جهود نميري بقليل من الحظ فكان الأمر واضحاً منذ البداية أنَّ كل ما بات يفعله نميري كان يصب في مجرى تطويل حكمه.  وفي الحين نفسه كان نميري قد اتخذ خطوة أخرى موازية لعمل اللجنة، وهي الاتصالات السريَّة مع الدكتور جون قرنق بواسطة المليونير السعودي عدنان خاشوقجي ورجل الأعمال البريطاني توني رولاند، عارضاً على قرنق أن يكون "قيصراً للجنوب، ومنحه اليد الطولى في إدارة التنمية بالإقليم (الجنوبي)، ولأن يصبح الرجل الثاني بعد نميري في قمة السلطة، وهو مركز كان يستحيل على أي جنوبي أن يقلِّده،" دون التدخل السافر من الخرطوم.  ولكن يبدو أنَّ عروض نميري لم تصادف هوى في نفس قرنق.  وبما أنَّ نميري كان هو الذي هدم المعبد الذي شيَّده، فقد اقتضى الأمر أن يعيد بناءه بنفسه، حيث لم تكد تصلح أيَّة محاولة أخرى دون قيامه بأفعال إيجابيَّة لمعالجة الأوضاع ليست السياسيَّة والعسكريَّة في الجنوب فحسب، بل كل الأحوال السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة في البلاد عامة.

مهما يكن من شيء، فقد كانت الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان من تركة النظام المباد، التي حاول المجلس العسكري الانتقالي برئاسة الفريق (م) عبد الرحمن محمد الحسن سوار الدهب ومجلس الوزراء الانتقالي برئاسة الدكتور الجزولي دفع الله التعامل معها، ولكن على الطريقة السُّودانيَّة.  ففي محاولته الميؤوسة لإعادة السَّلام في جنوب السُّودان دعا المجلس العسكري الانتقالي إلى العودة إلى اتفاق أديس أبابا العام 1972م.  والجدير بالذكر فإنَّ توسُّل المجلس العسكري لهذا الاتفاق القديم ليعكس عدة أشياء: منها أنَّه لم يكن لهم من جديد فيما يمكن أن يقدِّموه لحل مسألة الحرب الأهليَّة التي ورثوها عن النظام المباد؛ وثانيها، أنَّ ذلك الاتفاق قد بات غير مواكب للأحداث والمستجدات التي طرأت على تداعيات الحرب الأهليَّة نفسها؛ ثمَّ إنَّ الأمر لم يغد مسألة جنوبيَّة، بل أمسى قضيَّة سودانيَّة دخلت فيها مناطق سودانيَّة أخرى وشرعت تطرح عدة أسئلة عن مستقبل البلاد مثل: أزمة الحكم في الخرطوم، قضايا التنمية المتوازية، والهُويَّة وغيرها.  كذلك كانت النداءات الإذاعيَّة المكرَّرة لقادة التمرد بالعودة إلى الخرطوم والانخراط في النشاط الحزبي بدعوى أنَّ كل شيء بات على ما يرام بزوال نظام نميري، أو هكذا حسبوا، يعكس تسليم أصحاب السلطان الجدد ورجال الأحزاب القدامى بأنَّ كل ما اعترض حياة السُّودانيين من الصعاب والمحن وألوان الخطوب والصروف السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة قد انتهى بزوال نميري.  أفلم تزل مؤسسات نميري التعسفيَّة قائمة من قوانين أيلول (سبتمبر) 1983م وغيرها؟  بلى!  إذ بعد أن حزموا أمرهم واقتسموا السلطة فيما بينهم دون استشارة الحركة الشعبيَّة في كيفيَّة إدارة المرحلة الانتقاليَّة – برغم من جهود الحركة العسكريَّة والسياسيَّة في إزالة نظام نميري – استنكروا عدم عودة الدكتور جون قرنق إلى الخرطوم.  بيد أنَّ الدكتور قرنق قد ردَّ على استهجانهم له بأنَّهم في الحركة الشعبيَّة والجَّيش الشعبي لتحرير السُّودان ليسوا بقساوسة ليأتوا إلى الخرطوم خنوعين مطأطي الرؤوس لمباركة ما فعله الأساقفة في الخرطوم.  كان الأحرى بهؤلاء المنادين بعودتنا – والحديث لقرنق – أن يشاركوننا في الأمر ويشاوروننا في أهوال السُّودان ومآلها السياسيَّة والعسكريَّة والاقتصاديَّة.  ونحن نعلم حق العلم أنَّ هناك العديد من السُّودانيين الذين كانوا لا يرغبون في "أن يلعب الدكتور جون قرنق دوراً وطنيَّاً لأنَّه وُلِد في الجنوب، وكأنَّما الوطنيَّة إرث جغرافي، بل يرى البعض بأنَّ السُّودانيين ليس مكتوباً عليهم بأن يلعبوا أدواراً وطنيَّة، وإنَّما هناك شخصيات بعينها ومن مناطق بعينها، هم وحدهم المؤهلون لهذا الدور.  هذه نظرة محدودة، إن لم تكن في بعض جوانبها عنصريَّة.  ونظرة تحمل الاستعلاء، و(قد) قادت (هذه النظرة) السُّودان إلى ما هو عليه، وهذه العقليَّة تساهم في إيجاد المزيد من الفوارق والاختلافات بين السُّودانيين أنفسهم."(74)  وفي نهاية الأمر اقتصرت مساعي السَّلام بين الحكومة الانتقاليَّة والحركة الشعبيَّة على الرسائل المتبادلة بين الدكتور الجزولي دفع الله والدكتور جون قرنق.  وفي أمر رسالة الأخير إلى الأول ألف حكاية، حيث سُلِّمت هذه الرسالة إلى قائد الحامية العسكريَّة بمدينة ناصر بأعالي النيل لكي يسلِّمها هو الآخر إلى رئيس الوزراء.  ولكن وجدت الرسالة طريقها إلى الاستخبارات العسكريَّة وعبثت بها الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة تزويراً وتأخيراً قبل أن تصل إلى الجهة المعنيَّة بالأمر.

وفي نهاية الأمر، كان الانجاز الوحيد الذي تمَّ في العهد الانتقالي هو التوقيع على "إعلان كوكادام" في 24 آذار (مارس) 1986م بواسطة التجمع السياسي لإنقاذ الوطن والتجمع النقابي من جهة، والحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان من جهة أخرى، ولم تكن الحكومة الانتقاليَّة طرفاً فيه، بل جاءت الحكومة الانتقاليَّة بطائرات عسكريَّة ليبيَّة وشرعت تقذف مواقع الجَّيش الشَّعبي في جنوب السُّودان في نفس الوقت الذي فيه كان يتحدث قادة الحركة الشعبيَّة والتجمع السياسي في منتجع كوكادام.  على أيَّة حال، تكوَّن التجمع السياسي لإنقاذ الوطن من ممثلي حزب الأمة، الحزب الشُّيوعي السُّوداني، الحزب الاشتراكي الإسلامي، حزب البعث العربي الاشتراكي، الحزب الناصري، اتحاد القوى الوطنيَّة، والمؤتمر الديمقراطي.  وبعد مناقشات مستفيضة خرج المؤتمرون بما بات يسمى ب"إعلان كوكادام".  هذا، فقد حدَّد إعلان كوكادام أجندة المؤتمر الدستوري القومي، واشتملت هذه الأجندة على: مسألة القوميات، الدين، حقوق الإنسان الأساسيَّة، نظام الحكم، التنمية غير المتوازية، الموارد الطبيعيَّة، القوات النظاميَّة، الإجراءات الأمنيَّة، المسألة الثقافيَّة، التعليم، الإعلام العام، والسياسة الخارجيَّة.  كما حدَّد الإعلان مكان عقد المؤتمر، حيث تمَّ تحديده على أن يكون في الخرطوم، وكان هذا تنازلاً أبهج وأثلج صدور الذين كانوا يصرُّون على أن يُعقَد المؤتمر داخل السُّودان.(75)  ومثلما حدث في مؤتمر المائدة المستديرة من غياب للجانب الحكومي، لم تشترك الحكومة الانتقاليَّة في مؤتمر كوكادام، مما بات هذا الجهد حزبيَّاً فقط، وهذا واحد من المثالب التي صاحبت الجهود السياسيَّة لحل المشكل السُّوداني على أمد الدهور.  مهما يكن من شيء، فقد تعلَّقت الحكومة الانتقاليَّة بأستار الحكم حتى نهاية أجلها المسمى، ولم تتخذ أي قرار كان من شأنه أن يغيِّر الأوضاع من حال حرب إلى سلام، أو النهوض بالخدمات التنمويَّة عند مواطني التخوم حتى ينتقلوا من حياة التَّعبيس والتقطيب إلى حياة الكرامة والاعتزاز بالوطنيَّة.  وكانت حجة رجال الانتقال أنَّهم يفتقدون الشرعيَّة الدستوريَّة – برغم من تمتعهم بالشرعيَّة الثوريَّة التي قذفت بهم إلى دست الحكم – لاتخاذ القرارات الحاسمة والنَّاجعة.  بيد أنَّ الشيء الذي لم يدركه عموم أهل السُّودان هو أنَّه كان هناك ضباط متنفِّذين في المجلس العسكري الانتقالي ممن لهم انتماءات حزبيَّة – أي من أنصار الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة الخلصاء النجباء – وما كانوا يقومون به إلا تطبيقاً لسياسات الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، ولكن أكثر النَّاس كانوا لا يعلمون من أمرهم شيئاً.

 

آراء