الجهادية الجدد: زحف النمل الجنجويدي! (هل يستحمر الكيزان حميدتي – أم هو الذى يستحمرنا كلنا؟)

 


 

 

 

17 يونيو 2019

يبدو أننا أمام موجة جديدة من الغزاة الهكسوس المجسدين ل"عنف البادية" على أصوله، كما حدثنا عنه جدودنا الذين أدركوا مهدية ول تور شين، وآباؤنا الذين حضروا حوادث أول مارس 1954 بالخرطوم، ومن عايش منا دراما حل الحزب الشيوعي عام 1965 - حيث تم استجلاب البروليتاريا الرثة، جماهير الريف المطوطمين الذين لا يعصون زعيم الطائفة ما أمرهم، ويعملون أسلحتهم البيضاء في سكان العاصمة المثقفين والمسيسين والواقفين على الجانب الصحيح من التاريخ. وها هي "نشقة أخرى من الكوكايين"، وهجمة أشد شراسة من ذات الخلفية المناطقية تفعل ما يأمرها به نظام الإخوان المسلمين الذى ما انفك ماثلاً ومتشبثاً بدولته العميقة. ويبدو أننا قد أُخذنا على حين غرة فتشابه البقر علينا، أو كأنا، ونحن نلعق جراح ثلاثين عام كالحات خلت، أصابنا شيء من الدوار وعمى الألوان ، وما استطعنا أن نميز which is which، وما زالت تنطلي علينا الأكاذيب التمويهية البشيرية/الإخوانية التى لم يتصرم عهدها بعد.

وعموماً، على الذين ما فتئوا يحسنون الظن بحميدتي منذ أن دغدغ مشاعرهم وغبش وعيهم بموقفه "الثوري" المزعوم يوم 11 أبريل، الذى روجت له عناصر مشبوهة مثل الفريق الإخوانجي عمر زين الدين – حيث قال إنه رفض تنفيذ تعليمات البشير بتصفية 50% من الجماهير المحتشدة أمام بوابات القيادة العامة - - علي هؤلاء الأصدقاء الطيبين أن يتدبروا الآتي :-

1. أيدي حميدتي وجنجويده أصلاً ملطخة بدماء مئات آلاف القرويين المسالمين بجنوب دارفور من قبائل الزرقه – الفور والمساليت والزغاوة والداجو والبرتا والميدوب – منذ عام 2003 حتى اليوم؛ ولقد كافأهم البشير باستجلابهم للعاصمة المثلثة بعثاً لاستراتيجية "عنف البادية"، كما فعل الخليفة عبد الله قبل نيف وقرن بجلبه لرهطه التعايشة (ناس الإشارة) ليستقوى بهم ضد جلابة المدن بعد أن دان له الحكم على إثر الوفاة المبكرة للإمام الثائر المهدي. وقام البشير بضم هؤلاء "الجهادية" الجدد للجيش، وهم "جربندية" لا يفكون الخط، ولم يتلقوا أي تدريب عسكري أو شرطي احترافي - مجرد مليشيا راق تاق تحسن فقط الهمبتة والهجوم المباغت على المدنيين الآمنين بالأسلحة النارية، وحرق زرعهم وضرعهم وأكواخهم واغتصاب نسائهم وذبح رجالهم بمن فيهم الطاعنين في السن؛ كما قام البشير بمنح قائدهم حميدتي رتبة فريق أول (قفزاً بالزانة من "نفر" pleb) وزين صدره بالنياشين غير المستحقة، واستتبعه وجنده لرئاسة الجمهورية لزوم حراسته الشخصية، وبذلك شكل جيشاً موازياً أقوى شكيمة وأمضى سلاحاً من القوات المسلحة القومية - (على غرار الحرس الوطنى الإيراني التابع للملالي سارقي ثورة الشعب الإيراني منذ عام 1979م، والحرس الجمهوري التكريتي الملازم لصدام حسين شخصياً في السبعينات والثمانينات، والمليشيا التى كانت مسؤولة عن حراسة معمر القذافي عوضاً عن الجيش الذى لم تقم له قائمة منذئذ، تاركاً ليبيا نهباً للعصابات والمليشيات المتطرفة المتشاكسة والمتحاربة إلى يوم الدين).

2. يجسد الباز حميدتي قول أبي الطيب المتنبي: ( ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده، تصيّده الضرغام فيما تصيدا !)؛ بيد أن هذا الباز القادم من أقاصي الغرب لحماية البشير الشخصية لم يكن بشهامة ونبل الضرغام، إنما بثعلبية وغدر الضبع "المرفعين"، وهذا الفصيل من الكواسر ينقلب على أقرب أقربائه لو عثر أو بان عليه وهن أو غفلة. وفي يوم 11 أبريل اكتشف الباز الجنجويدي أن محروسه محاصر بجماهير عنيدة وذات شكيمة وبأس شديد، فتحول 180 درجة وانقلب على ولي نعمته دون أن يطرف له جفن، وأودعه سجن كوبر، بالتعاون مع الذئاب الأخرى باللجنة الأمنية: صلاح قوش وابن عوف والكيزان الآخرين .

3. طوال الست سنوات المنصرمة ولغت عصابة الدعم السريع (الجنجويد) في دماء المحتجين السلميين بالعاصمة، بدءً بمجزرة سبتمبر 2013 التى استشهد فيها مائتا ونيف شاباً برصاص الباشبوزوك الجنجويد المحمولين على تاتشرات أصبحت ماركة مسجلة معروفة لدى الشعب. ولقد وضح منذ وقت مبكر أن العنف المفرط والجلد بالسياط ودهس وقتل الأبرياء المسالمين المحتجين هو دين وديدن هذه العصبة الرزيقية شبه العربية المستجلب معظمها من الدول المتاخمة لدار فور – تشاد والنيجر وشرق مالي، والناطق جلهم بالفرنسية، والمعبؤون بظلام الجهل وبمرارت لا حدود لها وكراهية تقطر سماً للجلابة وسكان المدن "عيال البحر"، ولكل من ليس من طينتهم، والمجافون لقيم التعايش السلمي والشهامة والشجاعة الأدبية والعفو عند المقدرة واحترام المرأة وتوقير المتقدمين في السن - وكافة تجليات الأخلاق الفاضلة المعروفة عن السودانيين، والتى تميزهم عن كثير من العرب والأفارقة.

4. ما أن استوى حميدتي على عرشه نائباً لرئيس المجلس العسكري حتى تقمص شخصية سلفه البشير بكل استعلائها ونرجسيتها وكذبها وخوائها الفكري وحبها للرازمتاز و"دلّوكة الورل" والخطب الهتلرية أمام الحشود القروية المجلوبة بالترغيب والترهيب، وميلها للتشبث وللتخلص من المنافسين والبطش بالمعارضين. وفي هذه الأثناء، توارى البرهان الرئيس الأصلي في جحر ضب خرب و"عمل نايم"، مثلما توارى أحمد حسن البكر في الستينات تاركاً المسرح لنائبه صدام حسين الذى أذاق العراقيين الأمرين. ويبدو أن البرهان يأتمر بأوامر نائبه العجيب الذى تطفح جيوبه بالنقد المحلي والأجنبي في بلد مجففة ومفلسة تماماً، والذى يبدو أنه الممثل الرسمي لكفلائه العرب والأوروبيين المستفيدين من خدماته، والذين يحسنون الظن به ويحسبونه ترياقاً ضد الإخوان المسلمين، ولا يدرون أنه أكبر كوز في الشرق الأوسط، وأقرب ما يكون وجدانياً وإيديولوجياً لخصمهم الأول الإمبراطورية الشيعية الإيرانية؛ ويستطيع في أي لحظة أن يبيع كل هذه الأطراف ويتحالف مع الشيطان نفسه، aka إسرائيل. ولا ننسي أن الإتحاد الأوروبي متعاقد مع قوات الجنجويد لمكافحة الهجرة الإفريقية السائبة نحو أوروبا، وبهذه الطريقة فإن حميدتي وجنده يحسبون أنهم قد اكتسبوا شرعية شبه دولية و"جُعلاً" مقدراً ومنتظماً باليورو؛ اضف لذلك احتكار حميدتي وجنجويده للتعدين بجبل عامر بدار فور الذى نشأت بموجبه شركات عابرة للقارات تحت إمرته، تقوم بتصدير خام وسبائك الذهب لدول الخليج. أي أن حميدتي أصبح تايكوناً يضاهي شيوخ النفط، ولا غرو أن يلهث خلف سلطة ما تحقق له ملكاً وراثياً يجعله في مصاف أصدقائه العرب.

5. يأتي الحشد الذى تم تنظيمه بقرّي قبل يومين، على مقربة من أكبر قاعدة للجنجويد ب"الجيلي"، في إطار البحث عن الكاريزمية الزعامية البشيرية، والتسربل بغطاء جماهيري ممثلا في شيوخ العشائر والقيادات الريفية، مثلما فعل الإنجليز عندما لاذوا بنظار القبائل وسلحوهم بقوانين تنظيم الإدارة الأهلية لعام1927 و1929 و1930 كترياق للحركة الوطنية الحضرية التى بانت نواجزها منذ ثورة 1924؛ وكأن التاريخ يعيد نفسه حذوك النعل بالنعل. وأكثر ما يلفت النظر في خطاب حميدتي هو الأعطيات التى بات يوزعها ذات اليمين وذات اليسار: وعد بإقامة مدينة حديثة كاملة حول قرّي ِبمدارسها ومشفياتها ومؤسساتها فوراً، من مالية قوات الدعم السريع حصرياً، ونفح المحشودين المساكين بخمسين ألف وظيفة! كم من الوقت ياترى سوف يستغرق بناء هذه المدينة؟ ألا يدل ذلك على أن هذا المتشبث الجديد ينوي أن يقيم بيننا ما أقام عسيب؟ (يحلنا الحل بلة!).

نعم، كما أشار حميدتي في خطبه الأخيرة، هنالك جهات أخرى اشتركت معه في عملية فض الإعتصام – قوات أمن قوش، كتائب الظل، مجندو عبد الحي يوسف، الجندرمة الطلابية....إلخ. ولكن لا نستطيع أن نصدق أكذوبته بأن العملية عبارة عن فخ نصب للإيقاع به وبجنده وبغرض شيطنتهم أمام الشعب. لقد فضحهم الفريق كباشي بقوله إن القرار كان بإجماع المجلس العسكري بمن فيه حميدتي، وبحضور رئيس القضاء والنائب العام؛ وليس هناك دليل أقوى من هذا المسدس الذى يتصاعد منه الدخان لإدانتهم جميعاً بمجزرة الاعتصام الكارثية فجر التاسع والعشرين من رمضان؛ وهذا يعني أن المجلس العسكري بأجمعه قد خرج من العملية السياسية كما خرج إبليس من الجنة، وليس هنالك أي مبرر لجلوس مناديب الحرية والتغيير معه بعد الآن.

ما هو المخرج؟
• السناريو الصحيح هو أن ينسحب هذا المجلس بهدوء لتجنيب البلاد ويلات المواجهات العسكرية، وكما فعل البرهان يوم 12 أبريل، سوف يأتي ضابط آخر – ياحبذا لوكان عميداً أو عقيداً فما دون - لا تشوبه شائبة كيزانية، ويتولى الأمر ويتم استئناف الحوار من حيث انقطع مع مندوبي الحرية والتغيير. وإذا استقوى المجلس الحالي ببعض الدول العربية الداعمة له وركب رأسه بالطريقة البشارية الأسدية، فإن الإنفجار الناجم سوف يربك الحسابات الإقليمية والدولية، وسوف يدفع المعارضة السودانية للبحث عن أصدقاء داعمين قد يعني مجيئهم تبديل الخريطة الجيوبولوتيكية للشرق الأوسط برمته ونسف ميزان القوى الراهن. وإذا دفعت هرة لركن الحائط فهي سوف تدافع عن نفسها بالظلف والناب؛ ولن يقف أهل السودان مكتوفي الأيدي وبلا حليف ذي شوكة، وسوف يتوصلون لنوع الأحلاف التى ترعي مصالحهم وتحفظ كرامتهم وتحترم خياراتهم ولا تفرض عليهم نمطاً معيناً للحكم – واللبيب بالأشارة يفهم!

• إذا تعنت حميدتي، كما تشير الدلائل وكما هدد هو شخصياً، فلا بد من مواجهة بين الدعم السريع والقوات المسلحة ممثلة في كتيبة شندي ولواء المدفعية بعطبرة ولواء القضارف وسلاح الطيران بوادى سيدنا، وكتيبة المظلات بالخرطوم بحري، على سبيل المثال، وسوف تدور معارك شرسة بطرقات العاصمة المثلثة ولكنها لن تدوم طويلاً، وسيختفي الجنجويد من الوجود، once and for all فقلوب السودانيين عامة مغعمة بالحنق الشديد ضد الجنجويد وبالرغبة العارمة في تخليص العالم منهم؛ وما ضباط وعسكر الجيش إلا جزء من تلك المشاعر السالبة ضد الجنجويد بسبب انتهاكات 29 رمضان - خاصة اغتصاب الكنداكات الحرائر.

• السناريو الثالث هو أن تتدخل قوات إفريقية أو أممية لتفصل بين القوات الموشكة على الإصطدام، مثلما حدث في يوغسلافيا قبيل إخماد نيرانها ومن ثم تقسيمها لتسع دويلات صغيرة. وهذ احتمال بعيد، فالعالم لا يكترث لبلادنا كثيراً لأنها ليست كيوغسلافيا الأوروبية من حيث الوزن الجيوسياسي، والدول الإفريقية ليس لها الحول والعزم الذي يحملها على مثل هذا التدخل، فقد استمرت الحروب في السودان منذ أكثر من نصف قرن، إلى أن تم حسمها بمفاوضات ماشاكوس ونيفاشا. وليس هنالك سابقة ناجحة للتدخل الإفريقي، كما تشير التجربة الصومالية، على سبيل المثال.

إذن، فالصورة ضبابية، ولا يستطيع كائن من كان أن يتنبأ بما تخبئه الأيام القادمة للسودان. ولكن من المؤكد أن النفوس معتكرة بالغضب ومتحفزة للإنتقام. وثمة ضباع وكلاب خلوية تجوس بين ظهرانينا بحثاً عن ثغرة ينفذون منها لوضعنا تحت وصاية إقليمية متحالفة مع أوتوقراطية جنجويدية مدعومة بعنف البادية.
ولكن هيهات! فلسوف يتدخل الشعب مرة أخرى بزخمه ومسيراته التسونامية السلمية، ليستعيد الكعب الأعلى لثورة الشارع، بقيادة ذات التنظيم البطل: التجمع النقابي. هذا ما أراه في عين رأسي وما أشاهده في المنام عندما يغمض جفني خزازاً. ولا نامت أعين الجبناء.

حرية سلام وعدالة... والثورة خيار الشعب!

fdil.abbas@gmail.com

 

آراء