الحردلو صائد الجمال (1) داب مِن زاد عليّ.. وغلّب الداواي !!

 


 

 

اصطياد اللوامع (Subtle References) من أشعار الحردلو مهمة ممتعة شائقة ولكنها ذات نَصَب..! حيث أنها تتطلب التهيؤ اليقظ والاحتشاد النفسي والخيال الملتهب..فللرجل بواطن وأغوار وشغف بالجمال عجيب وله (كاميرا خفية) تلتقط الأطياف السائرة واللحظة الكونية التي ينطوي عليها العالم المرئي في التو والحين...!
وهو شاعر عظيم من غير مغالاة..! من حيث عظمة إبداعه وما أنتجه ولامسه من آفاق كونية وأبعاد إنسانية، وإنعام النظر في ذلك الانجاز الإبداعي وبيان نسبته إلى نفائس الذخيرة الإنسانية و(خزانة الإبداع العالمي) وإمكان مضاهاة الحردلو بالشعراء العِظام الذين مرّوا على الدنيا واحتلوا موضعاً مرموقاً في مراقي الإبداع الكوني مثل شكسبير وامرؤ القيس وميلتون والمتنبي وهوميروس وإليوت على سبيل المثال...فالحردلو من هذه الطبقة وبين هؤلاء الكبار من غير وساطة أو استئذان..ومن غير(جمائل) لأي كان..!!.
لن ندع سهونا عن عظمة بعض مواطنينا السودانيين يلهينا عن سبيلنا في هذا الاستشراف؛ حيث إننا كثيراً ما نهمل (ما لدينا) جرياً على بعض عاداتنا في (طمر الجواهر بالتراب) وتبخيس كل ما هو ثمين..والمتنبي يقول (إنّ النفيس غريبٌ حيثما كانا) وينسبون للإمام الشافعي قوله:
التبر كالتُرب مُلقى في أماكنه
والعود في أرضِه نوعٌ من الحطبِ..!
..وكل القصة المعروفة عن (زامر الحي)..!
والحردلو هذا لا نريد تضخيمه من حيث هو (فلان أو علّان) أو من خلال سيرته الذاتية وماذا كان يأخذ وماذا يدع..ولكن من باب النظر إلى شعره الذي وصل إلى قمم سوامق وشواهق لم تطأها أقدام عابرين..!
وقد نجد بعض الصعوبة في حصر أو تأكيد صحة بعض ما يُروى أو ينُسب للحردلو بسبب أن شعره كان موضوعاً للتداول الشفاهي حسب طبيعة الشعر البدوي، ووفق طبيعة إنشاء هذا النوع من الشعر الشعبي وطرق تداوله وروايته ووفق مواضعات البيئة الحاضنة له.
هذا ما يصفه "عادل بابكر" المترجم الرصين والأديب الإبداعي الذي تتزاوج عنده ملكة الترجمة الناصعة مع الحس الأدبي الشفيف في كتابه بالانجليزية (الحردلو: صائد الجمال) في مدخل رؤيته لحياة وبيئة وأشعار الحردلو..وقد كان مدخله الأول لعالم الحردلو استماعه في مرحلة باكرة من صباه إلى دندنة الدوبيت من عمه الراحل "صديق العمدة" ثم لاحقاً استماعه إلى مقاطع من شعر الحردلو منغومة بلهاة الفنان الكبير عبد الكريم الكابلي..!
ومن هنا تكشّفت له كنوز الحردلو واستوقفته الأخيلة الغنية واستغرقته الغنائية الباذخة...وأدهشه الاستخدام العجيب للغة..ثم الأفكار الكبيرة المدفونة في تعبيراته البدوية التي تتحلّى بالوصف المُعجز والحصافة الشعبية والوجدان العاشق للجمال حيثما كان:
قلبي المن نشوهو للبنات هواي
داب من زاد عليا وغلّب الداواي..!
من مسكة خنيصرو المو شديد لاواي
بتفهق بلا كبد الحُقن ناواي
خلفولها الشتيم شاشاها جاي ..جاي جاي
وجات بتشلّعو.. الفوقها النجيم ضواي
ست تبري اب نقش والداير الباراي
.. يا ستّار عليّ من غيّها السراي..!
(عند الإمساك فقط بأصبعها الصغير(الخنصر) اللين المطاوع تتأود وتتمايس جميعها كما تمايل الفرع الرويان في مجرى المياه أو حيث "مدالق السيل")..!
twisting like a supple branch on the mouth of a watercourse
يا ستار عليّ من غيّها السرّاي
Your protection, O Lord
from a passion running deep in my bloodstream
ومع هذه أخذت بصاحبنا مقاطع أخرى غناها الكابلي من رسالة الحردلو إلى أخيه عبدلله (عِبدله) يخطره فيها بغيابه عن شهود العيد معهم هذه المرّة:
الزول السمح فات الكُبار والقدرو
كان شافوهو ناس عِبدله كان يعذروا
السبب الحماني العيد هناك احضرو
درديق الشبيكي البنّتو في صدرو
نعم..لقد فات الزول (الكبار والقدرو):
Among her age or older,she’s peerless
ثم يعرِّج إلى ذكر مكرمة الباحث الشعبي الكبير جليل الأثر (الطيب محمد الطيب) وثلة من باحثي الفولكلور والأدباء والفنانين وإسهامهم في تمهيد الطريق لكشف مخايل ومحاسن وتجليات الشعر البدوي ونقل المعرفة به إلى قطاع عريض من الجمهور السوداني، مما أتاح لهذا الشعر في بداية الألفية الثالثة أن يكسب (أراضٍ جديدة) عزّزها انتشاره عبر الوسائط الاتصالية الحديثة مما أفضى إلى ذيوع فنون الدوبيت وتسجيلها حضوراً قوياً في المدن وحتى العاصمة...!
لقد استطاع فن الدوبيت وأنماط أخرى من الشعر البدوي أن يجتذب الأجيال الشابة من الجنسين مما أحدث ثغرات واسعة في جدار (الحواجز اللغوية والثقافية) التي جعلت هذا الضرب من الشعر حبيس حدوده الطبيعية (البطانة والبوادي السودانية)..تلك الحدود والسدود التي بدأت في التراجع حالياً..!
عنوان كتاب عادل بابكر الرسمي هو (صائد الجمال: الشعر البدوي السوداني: التطوّر والتأثير - بتركيز على إقليم البطانة):
The Beauty Hunters
Sudanese Bedouin Poetry: Evolution and Impact
With a focus on the Butana Region
شعر الحردلو هو انعكاس لعصره ومزاجه على حد السواء؛ وهو رائد الشعر البدوي السوداني بلا منازع.. الذي منح هذا الفن روحه وكينونته ولا جدال ولا مٍراء في أن شعر الحردلو لا يزال غضاً وحاضراً متساوقاً مع الزمن يتحدث عن رؤية الشاعر وكلمته للكون والحياة..ولا يزال يتم حفظه وروايته والاستشهاد به لأكثر من قرن من الزمان بعد رحيله عن الدنيا...!
ما سر عظمة الحردلو..الباحث عن الجمال الذي يقول إنه (هوّاي للبنات) منذ أن خلقه الله وأودع قلبه في صدره..؟!!

murtadamore@yahoo.com
//////////////////////////

 

آراء