الحركات المسلحة: عصب أم مدنيون مسلحون؟ (2-2)

 


 

 

كان حديثنا عن هرج السلاح وفجوره في ميدان السياسة السودانية. ونعرض في هذه الجزء الأخير لنقد للعزة بالسلاح في الحركات المسلحة بأقلام من خبروا الظاهرة عن كثب.
لربما كنا أشبعنا هرج السلاح بيد الحكومة الديكتاتورية نقداً في حين أعفينا الحركات المسلحة من مثله، وهو إعفاء مقصود ومبيت لأن عثراتها بالسلاح مسامحة طالما كانت في صف المعارضة لحكومة الوقت الديكتاتورية. ومن ذلك غض المعارضون الطرف عن النقد القليل الذي صدر عن ممارسين للكفاح المسلح. فلم يرخ المعارضون سمعهم للنقد البليغ الذي وجهه كل من الأكاديمي "لام أكول" للحركة الشعبية لتحرير السودان بعد مغادرته صفوفها في كتابه "داخل ثورة أفريقية" (2001)، ومحمد هارون كافي، الكاتب والمقاتل في نفس الحركة من جبال النوبة، في كتابه "نزاع السودان" (1997). وربما عد المعارضون الكتابين تجديفاً بحق حركة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
ولم يتأخر نقد الحركات المسلحة لفرحها بالسلاح والإساءة به طويلاً. فصدرت خلال السنوات الماضية كتابات في باب هذا النقد من رموز بارزة في هذه الحركات. فكتب ياسر عرمان، القيادي في الحركة الشعبية، والعقيد قرنق منذ النصف الثاني من الثمانينيات "نحو ميلاد ثانٍ لرؤية السودان الجديد" قبل ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2019، وبعد انقسام الحركة الشعبية، قطاع الشمال إلى جناحين بقيادة كل من عبدالعزيز الحلو ومالك عقار. وكان ياسر مع عقار، وهو الجناح الخاسر في ذلك الانقسام.
من الجهة الأخرى، نشر شريف حرير، الأكاديمي ومؤسس التحالف الفيدرالي الدارفوري (1994)، كتابات في مناسبة تكريمه أخيراً أخضع فيها الكفاح المسلح لشواظ نقد فادحة.
دعا ياسر عرمان في كلمته إلى أنه جاء الوقت لمراجعة تجربة الكفاح المسلح ورد الاعتبار للعمل السلمي الجماهيري دون أن يعني هذا التخلي عن هذا الكفاح. فلن تخرج الحركات المسلحة من عنق الزجاجة إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية، في قوله، من دون التوصل إلى استنتاجات سليمة "حول أهمية العمل السلمي الديمقراطي في داخل المدن" واستنهاض جماهيرها.
وركز ياسر على وجوب ارتهان السلاح بالوعي السياسي وبالديمقراطية في أداء الحركة المسلحة. فقال إنه من طريق ضعف الوعي السياسي في الكفاح المسلح استطاع نظام الإنقاذ صناعة حروب لصالحه في الهامش ارتكبت خلالها انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان بيد جماعات زعمت التحرير.
ونعى ياسر تجفيف الحركة المسلحة للديمقراطية في أدائها. فقال إن هيكل الحركات المسلحة التنظيمي اتسم بالعسكرة والتراتبية مما قلص مساحة الديمقراطية الداخلية، ومركز عملية اتخاذ القرار واحتكاره. وأسهم هذا "في خلق مناخ مواتٍ لانتشار الفساد الذي بدأ بالتلاعب في الإمدادات وعدم توزيعها بعدالة". وهو فساد لم يبرحها حتى وهي في الحكم.
وغابت بالنتيجة المحاسبة عملاً بالقاعدة في حركات التحرير "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، أي بالتركيز على العدو في الخارج، تاركين "مساحة للوحوش الداخلية لتنمو". وساء الأمر بعدم ثقة قوى الريف في مناضلي المدن ممن التحقوا بالكفاح المسلح، بل "وعدم مساواة العضوية التي تناضل بوسائل غير الكفاح المسلح في الحقوق والواجبات". وأدى هذا إلى تكلس الكفاح المسلح وتجمده مقتصراً على أساليبه الخشنة في ريفه "في غياب تام لوسائل العمل الناعم، مما أدى إلى نتائج سالبة على الكفاح المسلح نفسه".
وكان شريف حرير الأقرب من ياسر إلى مقاربة علاقة السياسي والعسكري في الكفاح المسلح. فقال إن حركات دارفور المسلحة التي وصفها بالتكاثر والتشظي، أسيرة سوء فهم. فنهضت باسم "شعب زعل وتعسكر" لتفتتن بالعسكرية.
والعسكرة، في قوله، "وسيلة لعمل سياسي، وليست في غاية حد ذاتها". وقال إن على الحركات المسلحة ألا تخدع نفسها بأنها تكوين عسكري. فتجد قادتها يقارنون بين العسكرية والسياسة مقارنة مجيرة لصالحهم. فيقولون إنهم عسكريون على الجادة، بينما ساء السياسيون مصيراً. فذكرهم حرير بأنهم سياسيون في الأساس وليسوا عسكراً. وأبدى حرير شفقته على الشباب الذين تنادوا للحركات المسلحة مكرهين بالظلم. فالحركات، في قوله، تعسكره بدلاً من أن تسيسه. وبعسكرته تخرجه من صناعة القرار السياسي لأنهم جعلوا من العسكرية للثورة "جندية" تخضع لسلسلة الأوامر المتدرجة من علٍ. وتساءل "كيف تخرج وبكامل وعيك لتحرير أهلك لترتهن لإرادة قائد، وتقول نعم سيادتك، حاضر سيادتك؟. فمتى ما طأطأت لمثل هذه التراتبية نفيت نفسك كثوري وهزمت الثورة. فالذي يقود الثورة العمل الواعي والفكر السياسي للدفاع عن النفس حيال جهاز قمعي للنظام. وقال للشباب متى كان هدفكم من العمل المسلح الاستيعاب في جيش الظالم والميليشيات فقد ألغيتم بأنفسكم جيشانكم الثوري الأول الذي جاء بكم لحركة التغيير السياسي".
انتهى ياسر وحرير إلى عبارة مأثورة عن منزلة السلاح في الحركة الثورية لأمليكار كابرال، زعيم حركة تحرير غينيا بيساو من الاستعمار البرتغالي في الستينيات. فقال كابرال يحذر حركته من العزة بالسلاح والفجور به إلى أن الحركة المسلحة ليست عصبة عسكرية (military)، بل مناضلين تأبطوا سلاحاً مكرهين (militant). ولا يخفى أن حركاتنا المسلحة افتتنت بالسلاح افتتاناً أنساها أصل حملته كمدنيين في أول أمرهم. وتأخر كثيراً نقد هذه الحركات على هذه العاهة بذريعة ألا نقد لمعارض من معارض. وها نحن نرى معارضي الأمس رفاق الحركات المسلحة من عطلوا نقدها لعقدين من الزمان هم الأعلى صوتاً في الضجر منها. تأخر النقد طويلاً للحركات المسلحة، ولكنه يلاحقها الآن كما رأينا.

mahaseen622@gmail.com

 

آراء