الحزب الشيوعي السوداني: 66 عاما من النضال
تاج السر عثمان بابو
17 August, 2012
17 August, 2012
** معلوم أن الحركة السودانية للتحرر الوطني – حستو - ( الحزب الشيوعي فيما بعد) تأسست في اغسطس 1946م من عمال ومثقفين وطلبة. منذ تأسيسه اهتدي الحزب بالماركسية كمنهج وفق ظروف وخصائص السودان، وجاء تأسيس الحزب امتدادا لتقاليد الحركة الوطنية السودانية الحديثة التي انبلج فجرها بتأسيس جمعيتي الاتحاد السوداني واللواء الابيض واندلاع ثورة 1924م، ونهوض الحركة الثقافية والأدبية والرياضية وخروج المرأة للعمل والتعليم وتطور التعليم المدني الحديث وظهور الصحافة الوطنية(الحضارة السودانية، النهضة، الفجر) التي اسهمت في رفع درجة الوعي الثقافي والفكري والسياسي. وبالتالي جاء ميلاد الحزب الشيوعي تطورا طبيعيا ومنطقيا للفكر السوداني.
وكانت الحركة حاجة ماسة فرضتها ظروف البلاد، وكما أشار عبد الخالق محجوب في كتابه "لمحات من تاريخ الحزب" أن الحركة: " ارتبطت منذ تأسيسها بالنضال والمظاهرات ضد الاستعمار ( المظاهرات التي قام بها الطلبة في عام 1946م)، وقدمت الحركة عموميات الماركسية باللغة العربية، وجذبت عددا من المثقفين الوطنيين والعمال لصفوفها، وارتبطت بالحركة الوطنية التحررية منذ نشأتها.
وعندما تأسست الحركة السودانية للتحرر الوطني كان الشعاران المطروحين في الساحة السياسية: وحدة وادي النيل تحت التاج المصري ، والسودان للسودانيين تحت التاج البريطاني . باستخدام المنهج الماركسي تمت دراسة الواقع ، وتوصلت "الحركة السودانية" الي الشعار البديل المناسب وهو: جلاء الاستعمار عن السودان ومصر وحق تقرير المصير للشعب السوداني ، والكفاح المشترك بين الشعبين المصري والسوداني ضد الاستعمار ، وكان هذا هو الشعار الذي التفت حوله الحركة الوطنية فيما بعد وكان استقلال السودان عام 1956م بعيدا عن الاحلاف العسكرية، كما لاينسي شعب السودان تضامن الاتحاد السوفيتي معه عام 1947 م عندما وقف في الجمعية العامة للامم المتحدة مطالبا باستقلال السودان.كما رفض الحزب الشيوعي صيغة النقل الاعمي لتجربة الكفاح المسلح علي نمط التجربة الصينية ، والتي طرحت عام 1952م، وقدر ايجابيا خصوصية نضال شعب السودان الديمقراطي الجماهيري الذي افضي الي الاستقلال بدون الكفاح المسلح.
وفي عام 1947م، دار في الحزب صراع فكري حول: هل يظل الحزب الشيوعي مستقلا سياسيا وفكريا وتنظيميا ام يكون جناحا يساريا داخل الأحزاب الاتحادية (كما عبرت مجموعة عبد الوهاب زين العابدين سكرتير الحزب آنذاك)، وكان من نتائج هذا الصراع أن ساد اتجاه الوجود المستقل للحزب، وتأكدت الراية والهويّة المستقلة للحزب، وبعد ذلك انطلق الحزب واسهم في تأسيس هيئة شئون العمال في عطبرة، و تنظيمات "رابطة الطلبة الشيوعيين" و"مؤتمر الطلبة" و"الجبهة الديمقراطية للطلاب"، و"رابطة النساء الشيوعيات" و"الاتحاد النسائي"، و"اتحاد الشباب"، واتحادات العمال والمزارعين والموظفين والمعلمين..الخ. واصدر صحفه المستقلة مثل: مجلة الكادر(الشيوعي فيما بعد) والتي كانت وحتي اليوم داخلية، ومجلة الوعي، وصحيفة "اللواء الأحمر" التي كانت جماهيرية و صحيفة "الميدان" التي تأسست عام 1954م، وتم وضع دستور للحزب، بعد أن كانت تحكمه العلاقات الشخصية وغير المبدئية، وتم تصعيد النضال ضد الجمعية التشريعية عام 1948م، وقدم الحزب شهداء في ذلك مثل: الشهيد قرشي الطيب في عطبرة.
*وبعد اتفاقية 1953م، رفض الحزب الشيوعي شعار الاتحاديين " تحرير لاتعمير"، وطرح شعار " لاتحرير بلا تعمير"، باعتبار أن الاستقلال السياسي وحده لايكفي، بل يجب استكماله بالاستقلال الاقتصادي والثقافي، وانجاز مهام الثورة الوطنية اليمقراطية، وطور الحزب هذا الخط في برامجه المجازة في المؤتمرات: الثالث والرابع والخامس.
ورغم أن الحزب الشيوعي كان الوحيد الذي نظر لاتفاقية فبراير 1953م نظرة ناقدة وكشف عيوبها مثل: السلطات المطلقة للحاكم العام ، وتأجيل الاستقلال لمدة ثلاث سنوات، ولكنه انتقد موقفه الخاطئ منها من زاوية أنه لم ينظر لجوانبها الايجابية باعتبارها كانت نتاج لنضال الشعب السوداني، وأن المستعمرين تحت ضغط الحركة الجماهيرية تراجعوا.
*وفي تلك السنوات الباكرة من تأسيس الحركة السودانية كان حسن الطاهر زروق يقول: ان شعب السودان سوف يشق طريقه الخاص للاشتراكية وان التجربة السوفيتية ليست ملزمة له، وأن نظام الحزب الواحد ليس هو الطريق الامثل اضافة الي حرية العقيدة والضمير.
*ومن مدخل الاهتمام بالمسألة الوطنية والتنوع اللغوي في السودان نلاحظ ترجمة الاستاذ/ عبد الخالق محجوب لمقالة ستالين : "الماركسية وعلم اللغات"(1954)، وواصل الشهيد عبد الخالق محجوب اهتمامه بهذا الموضوع حيث ورد في وثيقة "حول البرنامج" اخر كتابات عبد الخالق (1971) ما يلي بشأن المسألة القومية/ القبلية واللغات( بالنسبة للتجمعات القومية والقبلية الاكثر تخلفا وفيما يختص بالثورة الثقافية الديمقراطية . لابد من التشجيع الفعلي للنمو الحر لثقافات هذه المجموعات. أ- بعث لغات ولهجات هذه المجموعات وعمدت الدولة الوطنية الديمقراطية بجدية الي تشذيب تلك الأدوات، والتوسل بها في التعليم ( ووفقا للتجارب التربوية في هذا المضمار) وفي النهضة الثقافية الشاملة.ب - ان تصبح هذه الثقافات جزءا من المكونات العضوية للثقافة السودانية). وواصل الحزب اهتمامه بمشاكل القوميات الأقل تخلفا أو القطاع التقليدي، في وثائقه مثل: "الماركسية وقضايا الثورة السودانية 1967م"، و"القطاع التقليدي والثورة الوطنية الديمقراطية 1976" ، ووثيقة المؤتمر الدستوري 1988م.
كما نلاحظ ترجمة عبد الخالق لمؤلف الماركسي الممتاز بليخانوف " تطور النظرة الواحدية للتاريخ"، من مدخل الدراسة العميقة لتطور المجتمع في "المفهوم المادي للتاريخ" ، بعيدا عن الفهم الستاليني الجامد، مما يشير الي اتساع الافق لتجاوز الستالينية.
*وكانت مسألة الحقوق والحريات الديمقراطية والنقابية من المحاور المهمة في نضال الحزب السياسي الجماهيري، وكان هناك اضراب الحريات المشهور عام 1952م، واصل الحزب دفاعه عن الحقوق والحربات السياسية والنقابية ، وطور موقفه من الديمقراطية في وثيقة ل.م " جبهة للديمقراطية وانقاذ الوطن 1977م"، ووثائق المؤتمر الخامس( التقرير السيياسي والبرنامج والدستور)، ورفض نظام الحزب الواحد والشمولية والتاكتيك الانقلابي للوصول للسلطة، ورفض استغلال الدين في السياسية لخدمة مصالح طبقية دنيوية ضيّقة، وطرح الدولة المدنية الديمقراطية في وجه دعاوي الدولة الدينية التي تصادر الحقوق والحريات الديمقراطية باسم الدين والدستور الاسلامي.
* في اوائل الخمسينيات من القرن الماضي ، كون الحزب الشيوعي لجنة لدراسة مشكلة الجنوب ، ونتيجة لدراسة واقع المشكلة ، وبعيدا عن المنقول من الكتب الماركسية، توصل الحزب الي شعار الحكم الذاتي الاقليمي ، والاعتراف بالفوارق الثقافية بين الشمال والجنوب ، وحق الجنوبيين في استخدام لغاتهم المحلية في التعليم ، وقد طور الحزب ذلك لاحقا في عام 1994م، بطرح حق تقرير المصير كحق ديمقراطي انساني ، مع بذل اقصى الجهد في الدفاع عن وحدة الوطن وقيام دولة المواطنة التي تسع الجميع غض النظر عن الدين أو اللغة أو العرق أو الثقافة، كما دافع الحزب بثبات عن المساواة الفعلية بين المرأة والرجل.
*أما علي مستوي تنظيم الحزب، كما أشرنا سابقا، فقد بدأ الصراع ضد اسلوب عمل أول لجنة مركزية للحركة السودانية للتحرر الوطني كما جاء في كتاب عبد الخالق محجوب "لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني" ، تلك القيادة التي لم تبرز وجه الحزب المستقل ، واختزلت التعليم الماركسي في بعض النصوص الجامدة – ولم تدرس أوضاع البلاد أو تحاول دراسة واقع البلاد من زاوية الماركسية ، ولم تتجه لبناء الحزب وسط الطبقة العاملة ، بل الأخطر من ذلك كله أن الحزب لم تتوطد فيه لائحة ، بل ظلت العلاقات بين أعضائه وهيئاته تسودها الاتجاهات الشخصية اكثر من الروابط التنظيمية، وهذا الصراع كان خطوة هامة في مواجهة الجمود الستاليني. أشار عبد الخالق الي أن الصراع والنقد بدأ يبرز ضد هذا الاتجاه، وتوصل الصراع والنقد عام 1947م الي حل المسائل التالية: بناء فروع وسط الطبقة العاملة وترقية كادر عمالي وسط القيادة، وضع لائحة للحزب، اصدار مجلة الكادر(الشيوعي فيما بعد)، اصدار منشورات مستقلة باسم الحزب، تصعيد النشاط السياسي الجماهيري المستقل ضد الاستعمار عام 1948م، حل مشكلة التحالف مع الرأسمالية الوطنية علي أساس التحالف والصراع، الدخول في جبهة الكفاح ضد الجمعية التشريعية وتصعيد النضال ضدها.
وبعد معارك الجمعية التشريعية (1948) ، تواصل الصراع من أجل ترسيخ الديمقراطية في الحزب، وضد اسلوب ومنهج عمل اللجنة المركزية بقيادة عوض عبد الرازق ، واستمر الصراع ضد هذه القيادة والتي قيدت نشاط الحزب المستقل ، هذا اضافة لضيق العمل القيادي وغياب الديمقراطية في الحزب ككل، وكانت العلاقات بين اللجنة المركزية والمستويات التنظيمية الأولي تنحصر في اصدار القرارات وتنفيذها ، ولم يكن في الحسبان مناقشة قرارات ل.م ناهيك عن انتقادها( التجاني الطيب، مجلة الشيوعي، العدد 150). وكان من نتائج هذا الصراع أن انبثقت فكرة المؤتمر التداولي الذي انعقد عام 1949م، وجاء كشكل أرقي لتوسيع الديمقراطية ومشاركة الحزب ومحاسبة اللجنة المركزية عن أدائها. انجز المؤتمر التداولي تعديلات في لائحة الحزب لتتلائم مع تطور الحزب وجرى كفاح ضد الانحلال التنظيمي والعلاقات الفردية ليحل محلها الضبط التنظيمي والعلاقات المبدئية. كما عملت اللجنة المركزية لدعم الديمقراطية في الحزب فاجرت انتخابات القادة (بعد المؤتمر التداولي)، وعقد أول مؤتمر للحزب عام 1950م، كما تم نشر قرارات المؤتمر التداولي لأعضاء الحزب في مجلة الكادرلابداء الرأى حولها.
المؤتمر الأول اكتوبر 1950: طرحت اللجنة المركزية في ذلك المؤتمر قضايا سياسية وفكرية وتنظيمية أمام المؤتمر لاتخاذ قرارات بشأنها ، كانت تلك أول مرة يحدث فيها ذلك في تاريخ الحزب ، كما أجاز المؤتمر الدستور الذي ساهم في الاستقرار التنظيمي، والذي تطور في مؤتمرات الحزب اللاحقة: الثاني 1951م والثالث 1956 والرابع 1967، والخامس2009 م ، وكان من نتائج المؤتمر ايضا انتخاب اللجنة المركزية والتي قبل ذلك كانت عضويتها تكتسب بالتصعيد ( أى بقرار منها بضم اعضاء لها)، وتلك كانت ايضا خطوة حاسمة في ترسيخ الديمقراطية داخل الحزب. كما أشار المؤتمر الي ضرورة ربط العمل الفكري بالعمل الجماهيري واستقلال الحزب في نشاطه بين الجماهير واعلان موقفه المستقل في كل المسائل من منابره المختلفة، أى رفض المؤتمر اتجاه عوض عبد الرازق الذي كان يقول بدراسة النظرية أولا ، ثم العمل الجماهيري ، علي أن يتواصل نشاط الحزب الشيوعي من داخل الأحزاب الاتحادية.
بعد المؤتمر الأول وقع الصراع الداخلي ، وكان الرد بفتح المناقشة العامة علي صفحات مجلة الكادر(الشيوعي فيما بعد).طارحا على الأعضاء القضايا مدار الصراع. وكان اتجاه عوض عبد الرازق يرى أن وجود الطبقة العاملة الصناعية ضعيف في السودان ، وبالتالي لاداعي للتسرع بتكوين حزب شيوعي مستقل، وأن يتواصل نشاط الحزب من داخل الاحزاب الاتحادية، كما كان يرى ضرورة دراسة النظرية أولا قبل التوجه لبناء الحزب وسط العمال والمزارعين، ولاداعي لاغراق قيادة الحزب بكوادر عمالية مستواها النظري ضعيف.
وانعقد المؤتمر الثاني في اكتوبر 1951م، وحسم المؤتمر الصراع الداخلي لمصلحة وجود الحزب المستقل ، وان النظرية ترشد الممارسة والممارسة تغني وتطور النظرية، واقر المؤتمر أول دستور لتنظيم حياة الحزب الداخلية وتحديد هويته كحزب ماركسي ، وبعد المؤتمر وقع انقسام مجموعة عوض عبد الرازق ، وقررت اللجنة المركزية طرد المنشقين.
واضح أن اتجاه مجموعة عوض عبد الرازق كان اتجاه عزلة وجمود( دراسة النظرية بمعزل عن الواقع ، اخفاء هوية الحزب ، العمل فقط من داخل الأحزاب الاتحادية).
هكذا من خلال صراع الأفكار، بدأت تكون هناك حيوية داخل الحزب ، ومن خلال الصراع ضد الجمود بدأت تتسع الديمقراطية داخل الحزب ( المجلة الداخلية، المؤتمرات ، الاجتماعات الموسعة، انتخاب اللجنة المركزية، فتح المناقشة العامة..حسم الصراع ديمقراطيا بالتصويت ،..الخ)، ولكن مجموعة عوض عبد الرازق لم تقبل رأى الأغلبية بروح ديمقراطية، ومواصلة ابداء وجهة نظرها من داخل الحزب ، ولجأت الي التآمر والانقسام، وفشلت في تكوين تنظيم جديد.
وفي عملية بناء الحزب ، كانت ابرز الخطوات هى التي جاءت في اجتماع اللجنة المركزية في مارس 1953م، الذي أشار الي ضرورة بناء الحزب كعملية ثابتة وفي كل الظروف مدها وجزرها ، كما طرح ضرورة بناء الحزب علي النطاق الوطني ليصبح حزبا شعبيا وتحويل الحزب الي قوى اجتماعية كبري . وكذلك طرحت وثيقة "خطتنا في الظروف الجديدة"، الصادرة في يناير 1954م، السؤال: كيف يتم تحويل الحزب الي قوة اجتماعية كبري؟.كما أشارت الي ضرورة تقوية الحزب سياسيا وفكريا وتنظيميا، كما أشارت الي أن عملية بناء الحزب تتم في كل الظروف جزرها ومدها.وتعميق جذور الحزب وسط الطبقة العاملة.
كما أشارت وثائق تلك الفترة الي الاهتمام بالمرشحين وفترة الترشيح، والارتباط بالجماهير وفهم مشاكلها وقيادتها قيادة يومية، اضافة الي تأمين الحزب ومحاربة روح الغفلة ، وضرورة الاهتمام بالعمل الاصلاحي: الجمعيات التعاونية، محو الأمية، الأندية الرياضية والثقافية .. الخ. ونجح الحزب في استنهاض حركة جماهيرية واسعة ( بناء الحركة النقابية وحركة المزارعين، والحركة الطلابية، حركة الشباب والنساء،..الخ)، وقيام الجبهة المعادية للاستعمار ، التي لخص عبد الخالق تجربتها في كتاب لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني.
*وعلي ضوء حصيلة المناقشة العامة التي استمرت منذ بداية اتفاقية الحكم الذاتي في فبراير 1953م، تم عقد المؤتمر الثالث للحزب في فبراير 1956م، واجاز المؤتمر برنامج الحزب الجديد بعنوان" سبيل السودان للديمقراطية والاستقلال والسلم"، واجاز التعديلات علي دستور الحزب، واجاز تغيير اسم "الحركة السودانية للتحرر الوطني" الي " الحزب الشيوعي السوداني"، وطرح المؤتمر شعار " اجعلوا من الحزب الشيوعي قوة اجتماعية كبري".
لقد تركت لحظة التأسيس والصراع السياسي والفكري الذي خاضه الحزب من اجل استقلاله بصماتها علي تطور الحزب اللاحق ومواصلة الصراع من اجل تأكيد وجوده المستقل، وقدم الشهداء في سبيل ذلك، اضافة لتحمل اعضائه السجون والتشريد والتعذيب والقمع والنفي وصموده ضد الانظمة الديكتاتورية المدنية والعسكرية حتي يومنا هذا وحتي انعقاد ونجاح مؤتمره الخامس في يناير 2009م، ومواصلة الصراع من اجل التحول الديمقراطي وتحسين الاحوال المعيشية، والحل العادل والشامل لقضية دارفور وترسيخ السلام ووحدة البلاد.
*****
** عشية الاستقلال 1955م واجهت البلاد انفجار التمرد بجنوب السودان ودعا الحزب الشيوعي الي الحل السلمي الديمقراطي لمشكلة الجنوب، وطرح الحزب شعار الحكم الذاتي الاقليمي لجنوب السودان والاعتراف بالفوارق الثقافية بين الشمال والجنوب، والاعتراف بحق الجنوبيين والتجمعات القومية الأخري باستخدام لغاتها الخاصة في التعليم، تلك السياسات التي شكلت أساس اتفاقية نيفاشا التي تم التوقيع عليها في يناير 2005م.
كما استنكر الحزب الشيوعي مجزرة عنبر جودة 1956م والتي مات فيها اكثر من عشرين مزارعا اختناقا في عملية اعتقال وحبس غير انسانية، كما استنكر ايضا محاولة ربط السودان بالاحلاف العسكرية والمعونة الامريكية التي تفتح الباب للتدخل في الشئون الداخلية، وتمسك بالسيادة الوطنية.
* شهدت بداية هذه الفترة انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي ،والذي تم فيه نقد "الجمود الستاليني" و"عبادة الفرد "، كما أشار المؤتمر الي ضرورة ترسيخ الديمقراطية والقيادة الجماعية داخل الحزب. وبعد المؤتمر اصدر الشهيد عبد الخالق محجوب كتابه: "آفاق جديدة"، 1957م، انتقد عبد الخالق محجوب في هذا الكتاب أفكار ستالين القائلة بأن الثورة لن تنتصر في حركة التحرر الوطني ( الا اذا تم تسليط النيران على البورجوازية الوطنية المهادنة بكشف خيانتها للجماهير الكادحة من نفوذها). أشار عبد الخالق الي خطأ ستالين في تقسيم البورجوازية الوطنية الي كبيرة وصغيرة ، كما لم يشر الي البورجوازية المتوسطة التي تلعب دورا مهما في تاريخ الحركة الوطنية ، كما اشار عبد الخالق الي أن الشعب السوداني سيصل الي المجتمع الاشتراكي حتما بطريقه الخاص ووفق تقاليده لأن هذا هو منطق التاريخ )(ص، 86). كما أشار عبد الخالق الي أن( الاحساس الجديد هو مناقشة القيم السياسية في اسلوب خاص ، واعادة النظر فيها والاحتفاظ بكل ما هو حي وتقدمي ، ونبذ كلما ما هو ميت ومتأخر). كما أشار عبد الخالق الي أهمية القيادة الجماعية.
يواصل عبد الخالق في اتجاه التحرر من الستالينية ويقول: ( ان التطورات الاشتراكية في بلادنا يمكن أن تحدث باتساع نطاق القوى الديمقراطية في حركة واسعة ومستمرة وطويلة الأمد، تحتل مركزها الجماهير العاملة السائرة نحو اليسار ، وبوجود هذه الحركة الواسعة يمكن أن تحرز أغلبية برلمانية من الكتلة اليسارية المؤلفة من الشيوعيين وذوى الميول اليسارية من الاشتراكيين والديمقراطيين). يواصل عبد الخالق ويقول: ( ولكن السير في هذا الطريق لايعتمد عليهم وحدهم ، ولكنه يعتمد علي مدى احترام الدستور المناسب لتطور بلادنا نحو الاشتراكية وتفتح السبيل أمام الجماهير التقدمية والعمالية والاشتراكية ليحرزوا نتيجة لنشاط متنوع ومتسع وطويل الأمد أغلبية برلمانية ، وبهذا يضع اليساريون والشيوعيون اهمية كبرى للنظام البرلماني في بلادنا( ص، 84-85).
ولاشك أن المقالات التي نشرها عبد الخالق في كتابه" آفاق جديدة " وضعت المنهج للتحرر من الجمود الستاليني والاحكام التبسيطية للماركسية ، والاتجاه لدراسة الواقع واستنباط الحلول منه ، لا من المنقول من الكتب.
صحيح أن الحلقات الأولي التي أسست الحزب الشيوعي السوداني، كانت مؤلفات ستالين والتي تعبر عن الجمود النظري متداولة فيما بينها، وحتي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي في عام 1956م، كانت وثائق الحزب الشيوعي السوداني مثل دورات اللجنة المركزية مليئة بالنصوص من ستالين ، ماوتسي تونغ ، .. الخ، وكانت ترد في تلك الوثائق : النظرية الماركسية – اللينينية – الستالينية ، اضافة الي كثرة النصوص من مؤتمرات الحزب الشيوعي السوفيتي وكثرة الحديث عن علم الثورة الماركسي – اللينينيني – الستاليني.. وتعاليم الرفيق يوسف ستالين.
وفي مجلة الشيوعي العدد(8) الصادر عام 1956م، أشار عبد الخالق الي ما يلي( ان الجمود تسرب الي حزبنا في الظروف التي اكتنفت دخول الماركسية الي بلادنا، فعقب الحرب العالمية الثانية تزايدت القوة الجاذبة في المعسكر الاشتراكي ، واصبحت شعوب المستعمرات والبلدان التابعة تؤيد تأييدا تاما وفعالا الاتحاد السوفيتي وتعطف عليه ، وبدخول الماركسية في بلادنا ، وفي وقت ليست فيه تيارات فكرية اصيلة مناوئة ، كان هناك اقبال على هذه الافكار وتقبل لها..).
ويواصل عبد الخالق ويقول: ( ان الانتصارات الأولية جعلتنا نستند دائما الي النتائج العامة للنظرية الماركسية ، ونهمل جانب دراسة خصائص شعبنا وظروفه وأن نضع في الاعتبار التجربة السودانية الخاصة ، وبهذا ظهر وسطنا اتجاه لاهمال الدراسة الواقعية ، والاعتماد على النتائج الماركسية العامة ومحاولة تطبيقها بشكل اعمى ودون دراسة موضوعية علمية لما يجرى حولنا)( ص ، 46).
اذن عبد الخالق وضع اللبنات الاولي لتجاوز الجمود الستاليني بالانطلاق من احتياجات الواقع لحل قضايا عملية ونظرية، وبعيدا عن النقل الاعمى لتجارب الآخرين، ونجد هذا المنهج واضحا في وثائق مثل (الماركسية وقضايا الثورة السودانية 1967م )، واصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير 1963م)، ... الخ.
ويذكر التيجاني الطيب في قضايا سودانية العدد الرابع، ابريل 1994م (وفي النشاط العملي أذكر أنه بيننا في السنوات الاولى ( من تأسيس الحزب) من يصر علي ضرورة صياغة تحليل طبقي للمجتمع السوداني ، فكان عبد الخالق يصر على أن هذا التحليل لن يتوفر الا بالمعرفة العميقة المباشرة للمجتمع ، والا تحولنا الي ناقلين للآخرين . وفي هذا الصدد كانت هناك محاولات لتصنيف المزارعين الي فقراء ومتوسطين وأغنياء وفق معطيات روسية أو مصرية ، ولكنه عارض وظل يطالب لأن نعرف (علي الأرض ) من هو المزارع الفقير حقيقة في مجال مشروع الجزيرة ، وبنفس الطريقة رفض تنزيل المراحل الخمس لتطور البشرية على المجتمع السوداني)( ص، 35).
أى أن منهج عبد الخالق كان ينطلق من دراسة الواقع بذهن مفتوح، لا من المنقول من الكتب، مما يعني عمليا تجاوز الجمود الستاليني.
*وبعد انقلاب 17 نوفمبر 1958م رفض الحزب الانقلاب وطالب بعودة الديمقراطية ، وبعد فشل اكثر من محاولة انقلابية لاسقاط النظام والتي انهكت المعارضة السياسية والعسكرية، طرح الحزب شعار الاضراب السياسي العام في اغسطس 1961م كأداة للاطاحة بالديكتاتورية، وقدم تلك الفكرة لقوي المعارضة التي رفضتها، وانسحب من جبهة احزاب المعارضة وشرع في التعبئة للاضراب السياسي وسط القوي الوطنية الديمقراطية.
وفي التكتيكات ايضا رفض الحزب الاتجاهات اليسارية المغامرة التي طرحت الكفاح المسلح، باعتبار ذلك نقل اعمي للتجربة الصينية. وأخيرا كانت ثورة اكتوبر 1964م والتي تمت فيها الاطاحة بالنظام عن طريق الاضراب السياسي العام، والتي اكدت سلامة خط الحزب السياسي وادارته للصراع.
وتمسك الحزب الشيوعي السوداني بموقفه المستقل والمستند علي دراسة الواقع حول طبيعة النظام، ورفض الحزب الشيوعي السوداني تقدير السوفيت لنظام عبود، باعتباره نظام وطني ، كما رفض الحزب الشيوعي السوداني اتجاه الحزب الشيوعي الصيني لفرض نموذجه في السودان، اى رفض النقل الاعمى لتجربة الصين باعتماد الكفاح المسلح الذي كانت تنادي به العناصر اليسارية التي انشقت من الحزب، وكونت الحزب الشيوعي – القيادة الثورية - (مجموعة احمد شامى ويوسف عبد المجيد...). ونتيجة لدراسة الواقع توصل الحزب الشيوعي السوداني الي شعار الاضراب السياسي العام في اغسطس 1961م، وثابر الحزب في شرح وتوضيح هذا الشعار بتنشيط العمل الجماهيري ، حتى تمت الاطاحة بديكتاتورية عبود في ثورة اكتوبر 1964م عن طريق الاضراب السياسي والعصيان المدني ( راجع كتاب ثورة شعب الذي اصدره الحزب الشيوعي عام 1965م الذي حوي سردا رائعا للتراكم النضالي الذي خاضه الحزب مع جماهير شعبنا وقواه السياسية والنقابية حتي تمت الاطاحة بالنظام).
* وفي الصراع ضد الجمود اليساري ، اسهم عبد الخالق محجوب في ترسيخ الديمقراطية وتنقية الحياة الداخلية للحزب، جاء في وثيقة "اصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير" ( الحياة الداخلية في بعض منظمات الحزب لاتسير على أسس سليمة وخاصة في موضوع المركزية الديمقراطية ، اذ أن بعض الرفاق يدوسون علي هذا المبدأ الذي لن يستقيم الحزب الشيوعي بدون تطبيقه ، انهم يضعون السلطة التنظيمية محل الصراع الفكري والاقناع انهم لايحترمون رأي الأقلية ، انهم لايناقشون سياسة الحزب بقدر ما يصدرون الأوامر العسكرية ، ساعد على نمو هذا الاتجاه ظروف الضغط والاضطهاد التي كان يعيش فيها الحزب الشيوعي ، كان هذا الاتجاه خطيرا جدا وهو صادر عن عقلية فوضوية ، عقلية مغامرة لاعلاقة لها بالعقل الماركسي ، بالفعل في مديرية الخرطوم نتيجة لمسلك سكرتيرها التنظيمي الزميل جبارة ، ولقد انعزل الحزب في دوائر هامة بهذه المديرية، تساقطت عضويته وانفض الروح الثوري عند بعض من بقوا في صفوفه ، ان اساليب الزميل جبارة في القيادة وازاء الاعضاء خير مثال للاساليب الضارة ، فالرقابة على القرارات تعنى التحقيقات المستمرة ، وتعبئة الاعضاء حول خط بعينه تعنى التطبيقات العسكرية ، والاختلاف في الرأى يعنى العداوة والاحقاد والطرد من العضوية ، فاذا كان هذا هو المسلك من الاعضاء ، فما املنا في خلق صلات بالجماهير؟(ص، 38، طبعة دار عزة 2001).
كما لخصت وثيقة "الماركسية وقضايا الثورة السودانية" تجربة الحياة الداخلية في فترة ديكتاتورية عبود على النحو التالى:- ( وبينما حياة حزبنا تتأثر بالاتجاهات اليسارية وتخلف الأداء والتنفيذ ، تعقم الحياة الداخلية وتعصف بالمركزية الديمقراطية ، خاصة وأن الديمقراطية بأسرها مصادرة من الحياة السياسية ، وقد ادى ضعف المركزية الديمقراطية في الحزب الشيوعي وعدم اشراك عضوية الحزب اشراكا نشطا في حياته الداخلية وفي حياة فروعه الي انكماش كبير في عضوية الحزب لدرجة عاقت قدرات الحزب الذاتية وهو يواجه مهام ثورة اكتوبر( طبعة دار الوسيلة، 1987).
كما رفض الحزب الشيوعي السوداني "الانحراف اليميني " عام 1966م، بحل الحزب الشيوعي ودمجه مع قوى اشتراكية سودانية اخرى، اى رفض النقل الاعمي لتجربة الحزب الشيوعي المصري، والذي حل نفسه عام 1966م، وذاب في تنظيم السلطة(الاتحاد الاشتراكي).
وعلي خلاف رأى السوفيت والاحزاب الشيوعية العربية رفض الحزب الشيوعي السوداني قرار تقسيم فلسطين عام 1947 الذي باركه السوفيت ، وتمسك بصيغة( قيام الدولة العربية الديمقراطية فوق أرض فلسطين يصحح الوضع الشاذ الذي نشأ منذ عام 1948م. داخل هذه الدولة الفلسطينية العربية سيجد المواطنون الاصليون عربا وأقلية يهودية حقوقهم الكاملة، وبكامل حقوقها المشروعة في السيادة تصفى آثار الاضطهاد الصهيوني الاستعماري وفي مقدمتها مشكلة الاجئين العرب والهجرة اليهودية(الماركسية وقضايا الثورة السودانية، دار عزة، 2008، ص، 44).
كانت وثيقة "الماركسية وقضايا الثورة السودانية "، الصادرة عن المؤتمر الرابع، اكتوبر 1967م نقطة تحول هامة في تجاوز الجمود والمنقول من الكتب، أشارت الوثيقة الي أن الحزب الشيوعي يتحول الي قوة اجتماعية كبرى من خلال الآتي:-
- التطبيق الخلاق والمستقل للماركسية واكتشاف الاشكال الملائمة للتنظيم ، وأن الحزب الشيوعي لكى يصبح فعلا حزبا جماهيريا ، لابد له أن يحتك بكل الآفاق وان يحس الشعب بوجوده في كافة المستويات .
- لاينمو الحزب بشكل تنظيمي واحد ، فأشكال المدن تختلف عن اشكال القطاع التقليدي .
- الدراسة التفصيلية والملموسة لكل الأقاليم السودانية ، تركيبها الاجتماعي والطبقي واقتصادياتها .. الخ، حتى يعمل الحزب وفق مرشد يحميه من تبديد الجهود ، واستغلال الكفاءات والكادر باقصي مستوى من الكفاءة والانجاز.
- بناء التنظيمات الحديثة المختلفة للجماهير ، التي تلبي المستويات والاهتمامات المتباينة للجماهير.
- كما أشارت وثيقة "الماركسية وقضايا الثورة السودانية " الي ضرورة حل التناقض الذي لازم حياة حزبنا : تطور عمله السياسي ونفوذه الادبي بين الجماهير ، وجمود وتأخر حركة بنائه اداة متصلة بكل آفاق الحياة في بلادنا.
- كما حدد المؤتمر الرابع معالم الخط التنظيمي في المدن والمراكز الرئيسية في قطاع الزراعة الحديثة والقطاع التقليدي في الجنوب وفي الغرب ، وبناءا علي ذلك انجزت كل منطقة دراسة واقعها ووضعت دليلها وصاغت خطها التنظيمي مما جعلها بعد أن كشفت الحقائق الأساسية لواقعها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أن تتوصل للأساليب الملائمة لعملها – اى تقدم الاجابة السليمة للاسئلة التي وضعها المؤتمر الرابع – وبعد الوضوح حول الخط السياسي بمن ننفذ هذا الخط؟ووسط من ؟وكيف ننفذه باسلم الطرق واكبرها عائدا وفائدة؟.
- كان المؤتمر الرابع خطوة هامة في تجاوز الجمود ، فقد رسمت وثيقة "الماركسية وقضايا الثورة السودانية" منهجا علميا سليما في عملية بناء الحزب ، كما وضعت منهاجا للعمل النظري استرشادا بالماركسية كمنهج وليست عقيدة جامدة ، وخلافا للمؤتمر الثالث الذي عالج قضايا التكتيك ، عالج المؤتمر الرابع قضايا "الاستراتيجية والتكتيك" ، وتوصل الي أنه من المستحيل أن نرسم استراتيجيتنا اعتمادا على المنقول من الكتب أو النقل الاعمي لتجارب البلدان الاخرى ، كما وضعت الوثيقة منهاجا لدراسة الطبقات من الباطن ، ودراسة استراتيجية الثورة بناءا علي دراسة الطبقات في البلاد ، كما عالجت قضايا الخط التنظيمي وقضايا بناء الحزب على أساس العلم والتخطيط.
كانت أزمة القيادة احد المشاكل الأساسية التي واجهت الحزب بعد المؤتمر الرابع والتي جاءت ضعيفة ومخيبة للامال ، ولم تكن في مستوى المهام السياسية والفكرية والتنظيمية التي طرحها المؤتمر الرابع. وصدرت دورة اللجنة المركزية في يونيو 1968، بعنوان" قضايا ما بعد المؤتمر" ، والتي عالجت القضايا النظرية والتنظيمية والسياسية والقيادية. أشارت الوثيقة الي فرع الحزب ( وأن يعتبر عمليا لانظريا وحده وليس سواه هو القائد لكل نشاط يجرى حوله والمسئول عنه ، لقد عانينا من هذا كثيرا ، عانينا من الوصاية التي تفرض على فرع الحزب فتطبع الحزب بطابع واحد عقيم وتسلب عضوية الحزب من ارادتهم وتجعلهم متفرجين في كل ما يختص به من افكار جيدة ، وتجعلهم يحجمون عن اثراء الحزب بافكارهم وتجاربهم ، وهذا الاتجاه الذي يصادر الديمقراطية المركزية يخلق السلبية ويحد من طاقات الفرع).
ومشكلة القيادة هي التي دفعت عبد الخالق الي تقديم وثيقة ( في سبيل تحسين العمل القيادي بعد عام من المؤتمر الرابع، مارس 1969). والتي جاء فيها ( أن اعضاء الحزب لم يعودوا يقنعون بالحلول السطحية والشعارات الانتهازية لحل مشاكل العمل الثوري وعلى رأسها تغيير مستوى قيادة الحزب)، كما أشارت الوثيقة الي ضرورة تطوير العمل النظري في الحزب تقول الوثيقة( ولهذا فان الحزب الشيوعي يفتح ميدانا جديدا لتطور النشاط القيادي في صفوفه وهو يتطلب نوعا جديدا من الكادر المثقف الذي يهئ ذاته وقدراته لخدمة الحزب الشيوعي في ميدان المعرفة ، انه ليس كادر العمل السياسي بالمفهوم الذي دخل به المثقفون في الماضي صفوف الحركة الشيوعية السودانية).
كما أشارت الوثيقة الي خطورة التكتيك الانقلابي ( والعقلية الانقلابية)، التي كانت سائدة وسط بعض الكادر القيادي ، بقولها( التكتيك الانقلابي بديلا عن العمل الجماهيري يمثل في نهاية المطاف وسط قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية مصالح البورجوازية والبورجوازية الصغيرة..).
*وفي التحالفات السياسية ادار الحزب الشيوعي الصراع في مستويين من التحالفات:
تحالفات مؤقته واسعة مع القوي السياسية الأخري من اجل الاستقلال والديمقراطية ومطالب لانجاز مهام محددة، مع احتفاظ كل حزب باستقلاله السياسي والتنظيمي والفكري، وبعد انجاز التحالف لمهامه تنشأ تحالفات جديدة تعبر عن قضايا ومهام جديدة(مثال: الجبهة المتحدة لتحرير السودان من اجل استقلال السودان 1952م، والتجمع الوطني الديمقراطي من اجل استعادة الديمقراطية 1989م...الخ).
اما المستوي الثاني من التحالف فهو التحالفات الثابته أو الاستراتيجية من اجل انجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية مثل: الجبهة الديمقراطية وسط الطلاب، اتحاد الشباب السوداني والاتحاد النسائي السوداني، التحالف الديمقراطي في الأحياء، الروابط والجباه الاشتراكية والديمقراطية وسط المهنيين..الخ.
*تعامل الحزب الشيوعي مع الدين باعتباره جزء من التكوين النفسي والثقافي للمجتمع، وطرح في دستوره احترام حرية المعتقد ، وعدم الاساءة لمعتقدات الناس وضرورة المسلك الحسن لعضو الحزب بين الجماهير، كما رفض الحزب الشيوعي استغلال الدين لخلق الفتنة في المجتمع والارهاب باسمه ولخدمة المصالح الطبقية الدنيوية الضيقة، وان يكون الدين اداة لتحرير الانسان السوداني لاقمعه وتعطيل عقله كما تفعل الجماعات الظلامية السلفية، كما صارع الحزب الشيوعي ضد استغلال الدين لمصادرة الحقوق والحريات الديمقراطية، كما حدث عام 1965م عندما تم حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان، وضد محكمة الردة للاستاد محمود محمد طه عام 1968م، وضد مهزلة الدستور الاسلامي بهدف مصادرة الحقوق والحريات الديمقراطية وطالب بديمقراطية وعقلانية الحياة السياسية في السودان، كما قاوم الحزب قوانين سبتمبر 1983م التي شوهت الاسلام، وقاوم الدولة الدينية التي كرسها نظام الانقاد والتي قهرت وافقرت شعب السودان وافقدت البلاد سيادتها الوطنية وعرضتها للتمزق والتفتت، كما رفض التكفير والارهاب باسم الدين كما فعلت ما يسمي ب "لجنة علماء السودان" وتمت هزيمة دعاويها.
* اهتم الحزب الشيوعي بالقطاع التقليدي أو المناطق المهمشة، وطرح ضرورة الايكون الحزب حزبا للمدن، بل لابد من العمل في الريف ووسط ابناء القبائل من ابناء الاقليات القومية المهمشة، واهتم اعضاؤه بالعمل في اتحادات المزارعين وفي الروابط القبلية في المدن التي تهتم بتنمية مناطقها بتوفير خدمات التعليم والصحة والمياه والكهرباء..الخ، كما اسهم في تأسيس مؤتمر البجا في اكتوبر 1958م، وبعد ثورة اكتوبر 1964م رحب بتجمعات ابناء دارفور وجنوب وشمال الفونج التي كانت تطالب بتنمية مناطقها، واشار الي انها ظاهرة صحية، وفي عام 1976 اصدر وثيقة بعنوان(القطاع التقليدي والثورة الوطنية الديمقراطية)، كما اصدر عام 1988م وثيقة للمؤتمر الدستوري بعنوان(ديمقراطية راسخة- تنمية متوازنة- وطن واحد- سلم وطيد).
*في ادارته للصراع السياسي مارس الحزب فضيلة النقد والنقد الذاتي وكمثال علي ذلك:
- انتقد الحزب موقفه الخاطئ من اتفاقية 1953 م، وقدر جوانبها الايجابية من زاوية أنها جاءت نتاج لنضال الشعب السوداني.
- انتقد الحزب الشيوعي شعار تقرير المصير للشعب الاريتري تحت اثيوبيا الموحدة والذي ورد في دورة اللجنة المركزية ابريل 1980م، وأكد علي ضرورة تقرير المصير للشعب الاريتري.
- كما انتقد الحزب في التقرير السياسي المجاز في المؤتمر الخامس تأخير انعقاد المؤتمر الخامس لأكثر من اربعين عاما.
*اهتم الحزب الشيوعي بالتنوع في اشكال الصلة بالجماهير والتواجد حيثما توجد بهدف التعلم منها وتعليمها في مختلف تنظيماتها: النقابية والثقافية والرياضية والخيرية والاصلاحية والتعاونيات والروابط القبلية، وقد عالجت وثيقة (اصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير) الجوانب الفكرية والسياسية لعملنا وسط الجماهير.
*كان الحزب الشيوعي أول الاحزاب التي اهتمت بقضية المرأة وجذبها الي صفوف الحزب انطلاقا من أن قضية المرأة ترتبط بتحرير المجتمع من كل أشكال الاستغلال الاقتصادي والثقافي والجنسي والطبقي، وكانت الدكتورة خالدة زاهر أول أمرأة تنضم للحزب الشيوعي، كما عمل الحزب الشيوعي علي تنظيم النساء للمسك بقضاياهن ومطالبهن، وتم تأسيس رابطة النساء الشيوعيات عام 1947م، والتي استمرت حتي اكتوبر 1964م، وبعد ثورة اكتوبر واتساع دور المرأة في التغيير الاجتماعي وانتزاع حقها في الترشيح في الانتخابات وفوز فاطمة احمد ابراهيم كأول نائبة برلمانية عن دوائر الخريجين، تم حل رابطة النساء الشيوعيات كتنظيم منفصل، واصبح هناك فرع الحزب الموحد الذي يضم الرجال والنساء، كما ساهم الحزب في تأسيس الاتحاد النسائي عام 1952م.
****
** كان من اهم معالم الفترة :1969- 1985م، انقلاب 25 مايو1969م، والصراع الفكري الذي دار داخل الحزب الشيوعي حول طبيعة الانقلاب، وهل يبقي الحزب مستقلا ام يذوب داخل مؤسسات النظام، وقد تناول د. محمد سعيد القدال في كتابه "معالم في تاريخ الحزب" وتاج السر عثمان ذلك بتفصيل في خمس حلقات نشرتها صحيفة الايام في الفترة:3/4- 14/4/2008م. وكان من اهم معالم تلك الفترة انعقاد المؤتمر التداولي في اغسطس 1970 والذي حسمت اغلبيته الصراع لمصلحة استقلال الحزب. كما طور الحزب افكاره حول الديمقراطيين الثوريين ورفض نظام الحزب الواحد والدولة البوليسية التي تصادر حقوق وحريات الجماهير باسم الاشتراكية والتقدمية. واختلفت وجهة نظر الحزب مع السوفيت الذي كانوا يرون في انقلاب 25/مايو/1969، نظام ديمقراطي ثوري، وبالتالي يجب دعمه. وتطور ذلك الصراع والصدام حتي وقع انقلاب يوليو 1971م.
*وخلال ديكتاتورية مايو(1969-1985م) طرح الحزب الشيوعي، بعد المقاومة المسلحة للنظام في الجزيرة أبا وتجربة انقلاب 19 يوليو 1971م والنهوض الجماهيري في اغسطس 1973م، في دورة اللجنة المركزية في يناير 1974م الاضراب السياسي العام والانتفاضة الشعبية باعتبارها الأداة المجربة لاسقاط النظام، وبعد حصيلة تراكمات ونضالات عسكرية وجماهيرية كانت انتفاضة مارس- ابريل 1985م والتي اطاحت بالنظام. وفي ديسمبر 1988م نجح الاضراب السياسي العام في ازاحة حكومة الوفاق مما فتح الباب امام تكوين حكومة موسعة. وصار الاضراب السياسي العام من التجارب المستقرة في الحركة السياسية السودانية كما أشار التقرير السياسي المجاز في المؤتمر الخامس.
*وبعد فشل انقلاب 19/يوليو/1971، طور الحزب الشيوعي السوداني اطروحاته حول انظمة "الديمقراطيين الثوريين" حيث اشارت دورة اللجنة المركزية في يوليو 1977م الي أن الحزب الواحد المفروض بالقانون والانفراد بالسلطة يقودان الي مصادرة الحقوق الديمقراطية للجماهير ، غير أن لايمكن الوصول الي الاشتراكية الا عبر الديمقراطية . كما اشارت الدورة الي أن التكتيكات الانقلابية غير مقبولة ولابديل أمام الحزب الشيوعي غير النشاط الجماهيري. كما أشارت الدورة الي خلاف الحزب الشيوعي السوداني مع الحزب الشيوعي السوفيتي حول دور الديمقراطيين الثوريين في منطقة التحرر الوطني وتكتيكات الحزب الشيوعي السوداني منذ انقلاب 25/مايو/1969م، وقيادة الطبقة العاملة لمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية.
وعندما اندلعت الانتفاضة الشعبية في اثيوبيا عام 1974م ، ونتج عنها الانقلاب العسكري الذي اوصل نظام منقستو الماركسي للحكم، تمسك الحزب الشيوعي السوداني بالديمقراطية والتعددية في اثيويبا بديلا لنظام الحزب الواحد، والكف عن القمع والارهاب ، وكفالة حق تقرير المصير للشعب الاريتري بما في ذلك حق الشعب الاريتري في تكوين دولته المستقلة، وبدلا من صيغة السوفيت التي كانت ترى حق تقرير المصير في اطار اثيوبيا الموحدة( دورة ل.م، يوليو 1977م).
وقبل ذلك كان عبد الخالق محجوب قد اصدر وثيقة "حول البرنامج" 1971م، والتي اثارت قضايا مازالت حية مثل: الموقف من رأس المال الاجنبي ، التنمية الاقتصادية ، الديمقراطية والاصلاح الزراعي ، البعث الثقافي الديمقراطي ، قضية المرأة ، مسألة التجمعات القبلية القومية في السودان، الدين والدولة وحرية العقيدة والضمير، جهاز الدولة والتطهير ، الديمقراطية ومسألة الادب والفن والبحث العلمي... الخ. وهي تعبير عن اجتهاد اصيل لمواجهة فضايا الثورة الديمقراطية التي برزت في تلك الفترة.
رغم أن بعض جوانب الوثيقة شاخت وعفى عليها الزمن مثل : الاعتماد على العلاقات الاقتصادية مع المعسكر الاشتراكي ، والاستناد الي تجربة الاتحاد السوفيتي في بناء المجتمع الصناعي الزراعي.. الخ، الا أن القضايا النظرية التي اثارتها الوثيقة تحتاج فعلا الي دراسات نظرية وتعميق.
علي أن القفزة الكبرى التي تمت في تطور خط الحزب، كانت دورة اللجنة المركزية في اغسطس 1977م(الديمقراطية مفتاح الحل للازمة السياسية .. جبهة للديمقراطية وانقاذ الوطن)، والتي طرحت الوصول للنظام الوطني الديمقراطي بطريق جماهيري ديمقراطي تعددي. وواصلت دورة ديسمبر 1978م القضايا الفكرية والعملية التي اثيرت حول الديمقراطية وتولتها بالشرح والتوضيح.
كما واصل الحزب الشيوعي النضال الجماهيري مع قوى المعارضة ، وطرح في دورة يناير 1974م، الاضراب السياسي العام كاداة للاطاحة بالنظام، وواصل توحيد قوى المعارضة حتى توحدت في 6/ابريل/1985م، في الانتفاضة الشعبية التي اطاحت بحكم الفرد واستعادة الديمقراطية.
وفي 1986م ، اصدر الحزب الشيوعي برنامجه الانتخابي الذي اكد علي الحقوق والحريات الاساسية وتوفير احتياجات الناس الآساسية وتعزيز الديمقراطية وانقاذ الوطن.
وبدأ الحزب في التحضير للمؤتمر الخامس بعد معركة انتخابات 1986م، وانجز في اطار ذلك كتاب "معرض العيد الأربعين للحزب" الذي وضح النضال والتضحيات الجسام التي قدمها الشيوعيون في نضالهم ضد نظام الديكتاتور نميري، وكشف مخطط الجبهة القومية الاسلامية للقيام بانقلاب عسكري في صحيفة "الميدان" التي صدرت علنية بعد الانتفاضة، ولكن بسبب الغفلة والتهاون وقع انقلاب الحبهة الاسلامية، ودخل الحزب في سرية مطلقة، حتي تم توقيع اتفاقية نيفاشا في يناير 2005م.
****
**واجه الحزب الشيوعي السوداني بعد انقلاب:30/يونيو/2008م، ظروفا معقدة وعصيبة لم يواجهها من قبل: فمن جهة صعدت ديكتاتورية الجبهة الاسلامية الفاشية للسلطة عن طريق هذا الانقلاب الذي صادر الحقوق والحريات الديمقراطية واشعل حربا دينية، ارتبطت بتطهير عرقي وابادة جماعية في دارفور وبقية المناطق المهمشة في البلاد، واعتقل وشرد وقتل الالاف من المعارضين السياسيين والنقابيين، وتم استهداف الشيوعيين تشريدا واعتقالا وتعذيبا، بهدف تصفية حزبهم واقتلاعهم من الحياة السياسية باعتبارهم العدو اللدود للجبهة الاسلامية.
ومن جهة ثانية حدث الزلزال الذي غير صورة العالم بعد انهيار التجارب الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق اوربا.
وفي ظل هذه الظروف فتحت اللجنة المركزية في اغسطس 1991م، مناقشة عامة، وبدأت تنشر المساهمات في مجلة الشيوعي، وقضايا سودانية التي كانت تصدر في الخارج في التسعينيات من القرن الماضي، واستمرت المناقشة العامة جنبا الي جنب مع نضال الحزب الشيوعي ضد الديكتاتورية ومن اجل الديمقراطية.
ومما زاد الامور صعوبة وتعقيدا، تزامن ذلك مع خلل في منهج العمل القيادي والذي استمر من بداية الانقلاب وحتي فبراير 1995م، حيث عقدت أول دورة للجنة المركزية بعد الانقلاب، حيث اسهمت تلك الدورة في معالجة ذلك الخلل وتصحيح مسار العمل القيادي، فماهي ابرز معالم ذلك الخلل:
1- أشارت دورة اللجنة المركزية في فبراير 1995م، الي ابرز مظاهر ذلك الخلل حيث تم تهميش اللجنة المركزية ولم يتم عقد دورة لها لمدة ست سنوات، في حين كان من المفترض عقد دورة مباشرة بعد الانقلاب للنظر في ترتيب العمل القيادي لمواجهة ظروف القمع والارهاب التي فرضها انقلاب يونيو 1989م، وفي غياب اللجنة المركزية تم تكوين "سكرتارية مؤقتة " بعد الاعتقالات التي تمت لاعضاء السكرتارية، تم تكوين تلك السكرتارية المؤقتة دون التشاور مع اعضاء المركزية، حيث تم تصعيد زملاء لها بطريقة فردية ودون التشاور ايضا مع الهيئات التي يعمل فيها هؤلاء الزملاء، حسب مناهج العمل السليمة، حدث خطأ في تصعيد زملاء من اعضاء اللجنة المركزية لهذه السكرتارية المؤقتة في غياب اللجنة المركزية، وخطأ مركب آخر في تصعيد زملاء ليسوا اعضاء في اللجنة المركزية الي تلك السكرتارية( الخاتم عدلان ووراق). وكان السليم هو عقد دورة للجنة المركزية لانتخاب سكرتارية لمواصلة العمل بشكل منهجي وسليم. وتم انتقاد ذلك المنهج الخاطئ ولصيغة "السكرتارية المؤقتة".
2- الخلل الثاني الذي اشارت له دورة فبراير 1995م، أنه تم فتح المناقشة العامة بعد اخطار اعضاء اللجنة المركزية، ودون أن يتم اجتماع صحيح لها، ودون تحديد اطار عام لها، واصدار موجهات ووثائق من اللجنة المركزية تحدد ضوابطها ومحاورها وفترتها الزمنية، وتم تصحيح هذا الخلل، عندما كون مركز الحزب لجنة لوضع الاطار العام للمناقشة في نوفمبر 1994م، وقد انجزت تلك اللجنة ذلك التكليف ورفعت الاطار العام للجنة المركزية والتي ناقشته واجازته في دورة ديسمبر 1997م، وتم نشره علي الاعضاء، حدد الاطار العام محاور المناقشة العامة التي تلخصت في: دروس انهيار التجربة الاشتراكية، الماركسية ومستقبل الفكر الاشتراكي، الحزب(تجديد برنامج الحزب واسمه، ولائحته، التقويم الناقد لمسيرته).وكونت اللجنة المركزية لجان لاعداد مشروع البرنامج ومشروع الدستور ولجنة لتسيير المناقشة العامة، من مهامها اعداد تلخيص ختامي للمناقشة العامة،..الخ
، وكان ذلك خطوة هامة في تصحيح مسار العمل القيادي ومسار المناقشة العامة، وخطوة عملية في التحضير للمؤتمر الخامس.
3-حدث خلل وهرج ومرج في قضية تكتيكات الحزب لمواجهة النظام، ودار صراع حول ذلك في "السكرتارية المؤقتة "، كان هناك اتجاه الخاتم عدلان الرامي لتحويل الحزب الي قوة مسلحة لمواجهة النظام، علما، أن الاساس في نشاطنا العمل الجماهيري والعمل المسلح مكمل، كما تم نشر وثيقة الخاتم في مجلة الشيوعي(158)، وناقش كادر الحزب في المركز والمديرية هذه الوثيقة، ولكن كان الخلل عدم نشر هذه المناقشات علي اعضاء الحزب، اى ظل الصراع الفكري محجوبا عن قواعد الحزب، وكان الخلل الاساسي، كما اشرنا سابقا، غياب اللجنة المركزية وعدم رسمها لوجهة عامة لتصعيد النشاط السياسي الجماهيري ضد ديكتاتورية الجبهة الاسلامية، ورسم هذه السياسة بالتشاور مع كادر واعضاء الحزب، وقد ترك ذلك اثره السلبي علي نشاط الحزب الجماهيري، ونشاطه المستقل.فغابت الخطابات الداخلية ومجلة المنظم، وغير ذلك من الوثائق التي تسهم في رفع القدرات السياسية والفكرية والتنظيمية للاعضاء.
4-توقف التعليم الحزبي وبناء الحزب بجذب الاعضاء الجدد له، تحت تأثير فهم خاطئ تصفوي للحزب بوقف عملية التجنيد حتي تضع المناقشة العامة اوزارها، وتم عقد سمنار حول كورس المرشحين، والذي نشر في مجلة الشيوعي 160، ولكن لم يصدر كورس جديد للمرشحين يأخذ المتغيرات الجديدة في الاعتبار. وقد تم تصحيح ذلك عام 1996م، حيث تم اعادة تكوين مكتب التعليم الحزبي، وتم وضع محاضرات للمرشحين حول متغيرات العصر والبرنامج واللائحة، وتم عمل مدارس للمناطق والطلبة ومديرية الخرطوم، وعلي ضوء حصيلة التجربة والملاحظات، تم اعداد كورس آخر عام 2003م، يتكون من : البرنامج، اللائحة، متغيرات العصر، المنهج الديالكتيكي، المفهوم المادي للتاريخ، الاقتصاد السياسي ، وانتظم العمل في هذه الجبهة.وتم تنقيح هذا الكورس بعد المؤتمر الخامس في ضوء ملاحظات الأعضاء والمناطق وموجهات وقرارات المؤتمر الخامس.
5- تمت دورة للجنة المركزية في اغسطس 2001م، والتي جاءت كأول دورة بعد انقلاب الجبهة، لتعالج المتغيرات التي حدثت في البلاد، بعد اكتشاف تصدير البترول، واهتمام المجتمع الدولي عن طريق منبر الايقاد لانهاء الحرب في جنوب السودان، رحبت الدورة بمساعي المجتمع الدولي لانهاء الحرب والحل السلمي الذي يفضي لتصفية الشمولية واستعادة الديمقراطية والحقوق والحريات الاساسية، كما عالجت ظاهرة المنظمات الطوعية والمتغيرات في تركيب الطبقة العاملة وفي حركة المزارعين وفي التعليم العام والعالي، والمتغيرات في اوضاع المرأة السودانية..الخ.
4-علي أن من ايجابيات هذه الفترة صمود اعضاء الحزب وكادره امام اكبر حملة لتصفيته واقتلاعه من الحياة السياسية وفق مخطط الجبهة الاسلامية، وواجه اعضاء الحزب والديمقراطيون وقوي المعارضة الاخري حملات الاعتقال والتعذيب بصلابة، وتم شن حملة داخلية وعالمية، كان لها الأثر في اغلاق بيوت الاشباح، وفي لجم عصابة الجبهة في تنفيذ مخططاتها، كما تم تكوين التجمع الوطني الديمقراطي، وتم التوقيع علي ميثاقه في : 21/10/1989م، وكان ذلك ايذانا بتكوين اوسع تحالف من اجل استعادة الديمقراطية والحقوق والحريات الاساسية وتصفية الشمولية، وتم تتويج ذلك بتوقيع ميثاق اسمرا في يونيو 1995م، اضافة للمقاومة الجماهيرية مثل: اضرابات الاطباء وعمال السكة الحديد بعطبرة، وانتفاضات ومظاهرات الطلاب ومقاومتهم لقرار السلطة بتصفية الاعاشة والسكن والقرارت العشوائية حول التعليم العالي، اضافة للمقاومة المسلحة في الجنوب ودارفور والشرق ..الخ.
وكان تراكم المقاومة الداخلية والضغط الدولي هو الذي ادي لتوقيع اتفاقية نيفاشا في يناير 2005م، التي اوقفت الحرب، وفتحت الطريق لمواصلة النضال من اجل انتزاع التحول الديمقراطي الكامل وتحسين احوال الناس المعيشية والحل الشامل لقضية دارفور وبقية أقاليم السودان، وتوحيد البلاد علي اسس طوعية وديمقراطية، ومحاسبة المسئولين عن انتهاكات حقوق الانسان.
ولاشك أن مواصلة تراكم النضال الجماهيري والضغوط المحلية والعالمية، سوف يؤدي في النهاية الي الانتفاضة والنهوض الجماهيري من اجل التحول الديمقراطي واقتلاع الشمولية من الحياة السياسية.
* ورغم انقسام الخاتم عدلان ومجموعته الذين طرحوا التخلي عن الماركسية والطبيعة الطبقية للحزب وحل الحزب الشيوعي وتكوين حزب جديد باسم جديد، وبالفعل كونوا حركة ( حق)، استمرت المناقشة العامة حتي انعقد المؤتمر الخامس في يناير 2009م، وحسم المؤتمر الصراع حول طبيعة الحزب باعتباره حزب يدافع عن مصالح الطبقة العاملة والكادحين، والابقاء علي منهجه الماركسي واسمة ، واجاز وثائقه: التقرير السياسي والبرنامج والدستور التي اكدت طبيعة الحزب الطبقية ومنهجه الماركسي ووحدته الفكرية والتنظيمية.
* في الصراع الفكري كما اشرنا لبعض تجاربه سابقا، نلاحظ أن الحزب الشيوعي راكم تجربة غنية منذ أول صراع فكري دار في الحزب عام 1951م، حول هل يظل الحزب مستقلا ام يكون جناحا يساريا في الاحزاب الاتحادية؟، وحول النظرية، وتم فتح أول مناقشة عامة في تاريخ الحزب، وتم نزول الوثائق لاعضاء الحزب، وبعد انتهاء المناقشة تم المؤتمر الثاني في اكتوبر 1951م، ووقفت اغلبية اعضاء المؤتمر مع الوجود المستقل للحزب، وبعد المؤتمر لم تقبل مجموعة عوض عبد الرازق برأي الأغلبية وقللت من أهمية المؤتمر وخرجت في أول انقسام في تاريخ الحزب وكونت تنظيم( الجمعية الوطنية) الا ان التنظيم لم يستمر وتعرض لانقسامات اميبية.
والمثال الثاني فتح المناقشة العامة بقرار من اللجنة المركزية في اغسطس 1969م بعد الخلاف الذي برز في قيادة الحزب حول طبيعة النظام الجديد، وصدرت وثيقتان للاعضاء : وثيقة عبد الخالق محجوب، ووثيقة معاوية ابراهيم، وبعد المداولات في المكاتب والمناطق الفروع، انعقد المؤتمر التداولي لكادر الحزب في اغسطس 1970م، ووقفت أغلبية المؤتمر مع الوجود المستقل للحزب ورفض ذوبانه في تنظيم السلطة الواحد(الاتحاد الاشتراكي) وضد تحويل كادر الحزب الي موظفين في الدولة.وبعد المؤتمر قللت مجموعة معاوية ابراهيم من أهمية المؤتمر ونتائجه، ولم تقبل برأي الأغلبية وتدافع عن رأيها من داخل الحزب، بل نظمت اكبر انقسام في تاريخ الحزب شمل 12 من أعضاء اللجنة المركزية وعدد من الكادر في المكاتب المركزية ولجنة منطقة كاملة(الجزيرة – عدا زميلين)، وفشلت المجموعة المنقسمة في تكوين حزب اكثر ديمقراطية وتعرضت ايضا لانقسامات داخلها.
وخلال فترة الديمقراطية الثالثة تم فتح مناقشة عامة حول عمل الحزب وسط النساء الا أن انقلاب يونيو 1989م قطع سيرها.
وفي اغسطس 1991م وبعد فشل التجارب الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق اوربا، فتحت اللجنة المركزية مناقشة عامة، وتم تحديد محاورها في دورة ديسمبر 1997م في: أسباب ودروس فشل التجربة الاشتراكية- الماركسية ومستقبل الفكر الاشتراكي – الحزب من حيث: تجديد برنامجه ودستوره واسمه والتقويم الناقد لتجربته.
استمرت المناقشة لفترة 14 عاما حنبا الي جنب مع نضال الحزب ضد نظام الجبهة الاسلامية ، ورغم الانقسام الذي نظمته مجموعة الخاتم عدلان وتكوينها لحركة(حق)، علي أساس أن الماركسية والشيوعية فشلت، وتكوين حزب جديد يتخلي عن الماركسية وعن الطبيعة الطبقية للحزب وباسم جديد غير الحزب الشيوعي(وثيقة الخاتم عدلان: الشيوعي 157)،وبالتالي لم ينتظر حتي نهاية المناقشة العامة.
وتم انجاز بقية وثائق المؤتمر(التقرير السياسي والبرنامج والدستور وتقرير الكادر والتقرير التنظيمي والمالي) وتم عقد ونجاح المؤتمر.
ولخص دستور الحزب تجربة المناقشة العامة والصراع الفكري والذي يقوم علي المبادي التالية: تقوم علي المبادئ لا الاشخاص، ويبتعد عن الحدة والمرارة، ويقوم علي التوضيح المنطقي للحقائق والأفكار، وفي حالة النزاع يتم فتح مناقشة عامة تحدد اللجنة المركزية قضاياها وفترتها الزمنية، وتحدد الهيئة المناسبة لحسمها(مؤتمر..الخ) ويصبح رأي الأغلبية هو السائد مع احتفاظ الأقلية برأيها، وأن يكون الصراع مكشوفا للاعضاء وبعيدا عن التكتلات.
تلك هي المبادئ التي نظمت الصراع الفكري باعتباره ضرورة حيوية لتطور الحزب، وباعتبار أن الصراع داخل الحزب لاينفصل عن الصراع الطبقي والاجتماعي الدائر في المجتمع. ( للمزيد من التفاصيل راجع: "تجربة الحزب الشيوعي في الصراع الفكري في الحزب الشيوعي"، سلسلة محاضرات الكادر(5) ، اصدار مكتب التثقيف المركزي.
alsir osman [alsirbabo@yahoo.co.uk]