الحقيقة الضائعة في المشكل السوداني

 


 

 

الصراعات داخل المجتمعات البشرية تتغذى بشكل قد يبدو خفيا على مجموعات من الخطابات التي تدعي انها تمثل الحقيقة. ولكن الذهنية العادية لمتوسط للفرد العادي في مجتمعات كثيرة تعتقد أن الحقيقة هي الأشياء التي تخضع لاختبار الصح والخطأ.
ومن باب العدالة يجدر القول بأن هذا الخلط نجده في أغلب المجتمعات المتحضرة منها وغير المتحضرة.
حين بدأت الحرب بين الجيش والدعم السريع كان شاغل البحث عن الحقيقة يتركز في: من بدأ الحرب؟ الجيش أم الدعم السريع.
ثم سرعان ما حدث نوع من الاصطفاف بين تأييد الجيش من عدمه، وتم حشر فكرة الحقيقة في أن الجيش هو مؤسسة قومية بدونها لا تقوم للبلد قائمة وأن الدعم السريع مليشيا مأجورة غير منظمة. ولزيادة الارباك ظهرت الدعاوى الأخلاقية كمعيار للحكم على المعسكرين: الدعم السريع يحتل المنازل وينهب ممتلكات المواطنين، مقابل الجيش السوداني الذي لا يريد حسم المعركة في حرب المدن هذه لأنها تسقط ضحايا أبرياء. ولكن هل توقف سقوط الضحايا الأبرياء بواسطة القصف الاعمى بالأسلحة والصواريخ والطائرات؟
يمكن القول في البداية، ليس هنالك كاسب في حرب الشعارات والدعاوى الأخلاقية، لأن القصة الأساسية التي تعطي الحقيقة مظهرها ومقصدها مفتقدة هنا.
بمثل ما ننظر لمشكل مثل الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية، وإمكانية ربط ذلك بالاستخدام الواسع للوقود الاحفوري واكتشاف آلة الاحتراق الداخلي. يمكن أيضا رصد الرخاء الناتج عن استخدام الالة في الزراعة والصناعة والتنقل. ذات الأرقام الخاصة بارتفاع معدل الرخاء العالمي منذ الثورة الصناعية، يمكن معها رصد التراجع الكبير الرقعة الخضراء والغابات وارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون والاحماء الحراري على مستوى العالم وما ينجم عنه من ذوبان الجليد في القطبين وارتفاع مستوى سطح البحر وحموضة البحار الى آخر ذلك من الظواهر التي يمكن رصدها بشكل علمي.
ومع ذلك تجد من يغالط هذه الأرقام ويوليها ظهره.. لماذا؟ لأن الأمر ببساطة يناقض خطابات الحقيقة والقصص التي تمثلها كما يراها هو ويعتقد فيها.
الأمر كما قلنا لا يتعلق بمعادلة حسابية واحد زائد وحد يساوي اثنان.. ولكن بمجموعة من المعطيات التي تعطي تفسيرا إذا تم استخدامها داخل نسق معين. يمكن لأي باحث مثلا بعملية التقاط لأرقام معممة أن يثبت أن 80 بالمائة من القطاعات التي تساهم في صادرات السودان وتعود على البلد بالعملة الصعبة هي قطاعات ريفية في مناطق الزراعة والرعي وجني الصمغ العربي وقطاع التعدين الاهلي.
ويمكن أيضا اثبات أن الـ 80 بالمائة التي تساهم في الدخل القومي هي الفئات الأضعف اقتصاديا والأكثر حرمانا من أي خدمات أساسية والأكثر عرضة للمجاعة في حال حدوث أي نقص في الغذاء. مزارعو الدخن والذرة والسمسم والمنتجات المحلية مثل الويكة واللوبيا الذين يعملون في مناطق الزراعة المطرية التقليدية هم الأكثر معاناة في الحصول على الذرة وعلى هذه المنتجات الهامة لطعامهم خارج موسم الحصاد بسبب غلاء أسعارها.
ومناطق التعدين في البحر الأحمر هي الأكثر تخلفا من ناحية تنمية وتوزيع خدمات وسكانها هم الأكثر تعرضا للحميات والسل، وأيضا الأكثر عرضة لسوء التغذية.
لم تفعل الدولة الوطنية منذ استقلال السودان شيء تجاه هذه المعادلة المائلة ولم تبذل أدنى مجهود في انصاف سكان المناطق التي تنتج خيرات السودان بتوفير ما يستحقون من خدمات كمواطنين في المقام الأول وكشرائح منتجه للرفاه العام للبلد بما تدره على الخزينة العامة.
ولم تفعل شيئا أيضا من أجل تطوير القطاعات المنتجة هذه وتحديثها بحيث ترفع من المداخيل ومستويات المعيشة. الرعي التقليدي بقي على حاله، سيارات الخدمات البيطرية التي كانت تجوب السهول في الستينات والسبعينات اختفت تماما. الحفائر التي كانت تحفر من اجل حفظ مياه الامطار لفترات طويلة اندثرت بسبب عدم الصيانة الموسمية.
قطاع الزارعة المطرية التقليدية لم يتم تطويره وبقيت الشرائح التي تعمل فيه على ذات مستوى ضيق ذات اليد وازداد الامر سوء بتغول التجار أصحاب الرساميل على محصولهم وشرائه من قبل البنوك العاملة في مثل هذه المضاربات بأبخس الاثمان وتصديره بفارق كبير في العملة لا يعود عليهم بفلس واحد.
حين يتعرض مجتمع ما، لفترات طويلة، لمثل هذا الحرمان من الخدمات ومن التطور، يصاحب ذلك جمود في حركة الصعود الاجتماعي وتبادل المراكز التي تحدث بفعل ازدياد نسبة التعليم أو ازدياد الدخل. هذا يعني بدوره أن هذه الشرائح لا تقدم أي ممثلين منها للمشاركة الاجتماعية في مستويات أعلى، مستوى المال والاعمال والإدارة، وكذلك التمثيل داخل الشرائح الاكاديمية والبحثية وأصحاب التعليم العالي الذين يتم استيعابهم داخل جهاز الدولة وداخل المنظومة السياسية الكبيرة بأحزابها ومنظماتها.
ربما حاولت الدولة السودانية في بواكير تأسيسها اعتماد مبدأ “الميريتوغراطية" الذي ينبني على فلسفة اتاحة فرصة متساوية ونقطة انطلاق متساوية للجميع داخل حلبة التنافس الاجتماعي بمضماراتها المختلفة من تعليم وتوظيف وابتعاث وتعيين في مؤسسات الدولة العامة. ولكن هذا المبدأ خداع جدا حتى في الغرب الليبرالي الذي ابتدعه.
الجامعات البريطانية كانت تنشر نتائج الطلاب، في الفترة التي أصبح فيها التعليم الجامعي متاحا للطبقة الفقيرة، كانت تنشر نتائج التخرج موضحة امام اسم الطالب من أصول غير نبيلة الاختصار التالي: SNOB والتي تعني من أصل غير نبيل. ومجرد هذا التصنيف يكفل ما يكفي من المصاعب في سوق العمل وقتها.
أيضا لوحظ عندنا هنا في هولندا بموجب إحصائيات القبول للتعليم العالي في مجالات مثل الطب التي اصحبت تستخدم القرعة نسبة للعدد الكبير من المتقدمين المؤهلين، ان أبناء الأطباء وأبناء الأساتذة الجامعيين مثلا فرصتهم أكبر في اجتياز معاينات القبول، وذلك لأنهم يتابعون كورسات خاصة تتعلق بالمنافسة، في وقت لم يسمع فيه بعض أبناء المناطق الريفية وأبناء الطبقة الدنيا بوجود مثل هذه الكورسات أصلا. بمعنى أن الدولة تعتمد المبدأ وأصحاب المال والعلاقات يبتكرون طريقة الالتفاف على المبدأ.
يمتد اختلال التوازن في هذا المبدأ الى ما بعد التخرج. أبناء الساسة والوزراء ورجال الصناعة والمال والاعمال يتخرجون متقدمين نقطتين او ثلاث عن باقي الخريجين من أبناء الطبقة العمالية والشرائح الفقيرة، بسبب العلاقات التي تتمتع بها الفئة الأولى.
ينطبق ذات الأمر على أيام المساواة في التعليم عندنا في السودان. يمكن لأحدهم أن يذهب لنفس الجامعة ولكن بعد التخرج سيحصل ابن الوزير على فرصة أفضل في التوظيف على حساب ابن المزارع من كردفان. ثم جاءت الإنقاذ واعتمدت كتابة القبيلة في الوثائق الرسمية ليختل الميزان كليا بدخول عامل العرق في التنافس الدراسة والتوظف وتقسيم الثروة بشكل عريض. إضافة للجامعات الخاصة ذات الرسوم الباهظة التي لا يقدر عليها الا أبناء الأغنياء والطبقات التي حازت على الثروة بشكل غير منطقي خلال العقود القليلة الماضية.
مظاهر الصراع الحالي بين الجيش والدعم السريع لا تعكس مثل هذه المعطيات وتدعي بألا علاقة للصراع بهذه الخلفية. ولكن يمكننا ان نتساءل من أين أتت الحرب بوقودها من الشباب الذي لا حظ لهم من التعليم ولم يحدث وان استمتعوا بأي خدمات مثل التعليم والصحة والكهرباء والمياه النظيفة وخدمات الانترنت التي أصبح لا غنى لأي مجتمع عنها؟
أن يتطوع الالاف للخدمة في قوات الدعم السريع من أجل الذهاب للحرب في اليمن كمرتزقة، يفضح سوء حظ هذه الفئة وتعاستها وتعاسة الخيارات الماثلة امامها من اجل تحقيق حد أدني من الحياة الكريمة. ناهيك عن التطلع للعيش في مستوى الطبقة الثرية التي تبالغ في اظهار ثرائها بمناسبة ودون مناسبة.
أرجو أن أكون واضحا هنا بأن ما ورد لا يمثل أي مرافعة للدفاع عن قوات الدعم السريع ومنسوبيها وما اقترفته في مسيرتها منذ انشاءها في دارفور وحتى الآن.
هذا المستوى في التناول يختلف كليا عن صراع فتافيت ما يبدو حقائق في خضم الجدل الدائر حول الحرب مثل:
هل مات حميدتي؟ هل الفيديوهات صحيحة أم ذكاء اصطناعي؟ هل يأتي حميدتي بالديمقراطية؟ هل يسلم العسكر الحكم للمدنيين عقب انتصارهم؟
الإجابة على مثل هذه الأسئلة لا توفر الحقيقة ولا تفرق كثيرا. هنالك افراد وجماعات تكذب كذبا صراحا يوميا عبر جميع منافذ النشر في وسائل التواصل الاجتماعي وحتى في قنوات الاعلام التقليدية، ومع ذلك يأخذ الناس قولها مأخذ الحقيقة. لماذا يسمع الناس للانصرافي ويصدقون كلامه؟
لماذا يصوت سبعين مليون شخص في أمريكا لدونالد ترامب مع أنه كان يطلق 300 كذبة موثقة في اليوم اثناء فترة رئاسته؟
ببساطة لأن ما يقوله مثل هؤلاء الناس ينسجم مع تصورات الناس عن الحقيقة. وثبت أيضا أنه بالكذب يمكن خلق حقائق بديلة مثل أن الدعم السريع في الأساس هو صنيعة قوى الحرية والتغيير. وأن الحرية والتغيير هي من دبرت هذه الحرب.
بالنظر للتاريخ السياسي في السودان يمكن أيضا تتبع بعض التصورات المضللة التي يشارك فيها الساسة والعسكر وقطاعات كبيرة من الشعب مثل مقولة أن الحكم العسكري هو الأفضل للشعب السوداني، وأن العسكري "الكارب قاشه" يستطيع اتخاذ القرارات المؤدية لإصلاح حال البلد وإصلاح الاقتصاد واحداث الطفرة التنموية التي نحتاج.
وبعد ثلاث ديكتاتوريات وقرابة الستين عاما من حكم العسكر يمكن رؤية النتائج في الانهيار التام الحاصل في السودان على جميع الأصعدة. بل أظهرت هذه الحرب ان العسكر لا يصلحون للحكم ولا يصلحون للحرب التي تدربوا عليها.

إبراهيم حمودة
03-11-2023

ibrahimhamouda777@hotmail.com

 

آراء