“الحوت” والجلاد والثُريَّا!

 


 

 

mohamed@badawi.de
قصتان تذكراني برحيل الفنان المبدع "الحوت". الأولى عندما كنت بزيارة للإمارات حينا عدت من ليون مارّا وقاصدا السودان. علمت في نفس يوم قدومي أن الجالية السودانية تقيم حفلا سودانيا بفنان واعد. لم أتوان في الذهاب لأشبع فضولي الذي أثاره الخبر سيما وأن عطشي الروحي للحن بلادي قد بلغ ذروته. على كل حملت نفسي مهرولا إلى النادي البديع. سألت أمام الباب أخا سودانيا عن ثمن التذكرة، فأجابني: "جيب ١٥ درهم وادخل!" أعطيته المبلغ وانصرفت وما كان منه إلا أن أدخل الملاليم إلى جيبه! تجهمت من فعله لكنني لم أنبس! في هذا اليوم من صيف عام ١٩٩٠ وقف شاب أسمر في لباسه البديع أمام الحضور وصَاحَبَه خيرة عازفيّ الجالية. ريثما جلست على الصفوف الأمامية لمحت رفيق درب لم أره السنين الطوال. بدأت الحفلة فأحسست من أول وهلة آي النغم والتطريب يتسرب إلى دخيلتي رويدا رويدا حتى تدفقت منها نشوة واريحيّة غمرتها واحتوتها بسلاسة ولطف. كيف لا وهذا المبدع يغنى على مسامعنا أغنية "عشقتو من نظره"؟ وقف أمامنا وكان كالبدر، بدا لنا واستعصم ببعده عنا. وفي خضم هذا السيل العرم من الأشواق حلّقت بي ملائكة السلطنة والطرب في سماءات هذا البدر السامق وراحت روحي تعانق الموازير وأنغامها الحالمة. إلتفت إلى صديقي قائلا له: فنان روعة، لا أعرفه ولم أسمع به من قبل، فبادرني بخفة: "هه، ده فنان بكاسي ساي!" صمت ولم أنبس. شرع محمود يغني "أسمر لونه لادن جسمو" وهنا كانت نقطة الانطلاق الأخيرة أو قل النطفة التي طفح من جرائها القدح، فانطلقت بصاروخ الطرب الذي أحكم سواقته هذا المبدع إلى مدارات الأفلاك وحطنا بالثريّا. انطبعت هذه الليلة سيما تلك الأغنية الأخيرة في نفسي وخلّفت أثرا عميقا لا يمكن أن أصفه لكم سادتي. بل قل انطبعت كل الأغاني التي أجادها في ذاك اليوم على مخيلتي وكنت أحلم بالمزيد. ذهبت إليه في الفاصل وصافحته وطلبت منه أن يغني الأغنية ثانية لكنه اعتذر في أدب جمّ ولم أندم على ذلك فقد أتحفنا يومئذ بدرر أخرى. على كل حال رجعت إلى السودان بعد قضاء بعض الأيام بأبوظبي، وكان أول همومي ومهامي أن أجد شريطا لهذا الشاب محمود أو قل أن أشرط بقائي بالإجازة لأجد ضالتي المنشودة. بحثت عنه وقتذاك بسوق أمدرمان ولكن سدا، فلم أوفق في العثور حتى على نغمة واحدة. بيد أن القنوط لم يكن رفيقي فذهبت إلى الخرطوم آملا متأملا، وكم كانت فرحتي عظيمة عندما تهادت إليّ من أحدى الأكشاك الراقدة على الحديقة أمام بنك الخرطوم في ناصية شارع القصر أغنية "أسمر لونه لادن جسمو". ولا أغالي أخوتي إن قلت لكم أنني إلى الآن أحتفظ بهذا الشريط بلونه البنفسجي البديع. وفي خلال إجازتي هذه كنا بصدد التحضير لعرس أخويّ الكبيرين. فحدثت أحدهما، أخي د. صديق بدوي، قائلا: دعنا نذهب ونحجر فنانا لحفل الحنّة. تقبل اقتراحي وخرجنا أدراجنا خلل الحرّ الكافر إلى بحري. ذهبنا لابن خالي عوض نظام الدين الذي كان يسكن في شارع السيد على الميرغني وحدثناه بالمهمة. فانفك فاه وتعجب سائلا: "ألا تعرفانه؟ محمود يقرب لكما وهو في الحسبة ابن خالتكما؛ فأمّه من آل الباز سنهورية کأمكما." ساقنا عوض وذهبنا إلى مقربة من بيته قاصدين بيت آل الباز ببحري ووجدنا أهلينا وبنت خالنا المرحومة شادية أخت عوض نظام الدين، كانت تسكن بنفس الحوش الذي يسكن به محمود. إلتقيا أم محمود وحدثناها بمرامنا فأخبرتنا أنه غير موجود ولا يستطيع الحضور إلى الحفلة لأسباب عدّة!!
القصة الثانية وهي من الصور المؤلمة في تاريخ السودان إذ لا يمكن أن تنمحي من ذاكرة الناس، ولا ذاكرة المكان ولا الزمان. نعم هي صورة المبدع محمود واقفا في إحدى بلديات الشرطة بمدينة نيالا. لا زالت تلك الوقفة أمام الجلاد حيّة في نفسي، فكم أرقت نومي ونغصت على نهاري، فلم أتوان وقتئذ أن أرسلها لأكبر عدد ممكن من الأصدقاء، الخ. كان قابضا بإحدى عواميد سقف نقطة الشرطة وكل من هبّ ودبّ كان واقفا ليرى المبدع محمود والجلاد يهوي بالسوط وبكل قواه على جلدة ظهره الرقيقة. ما أبشع المنظر وما أقسي الجلاد وما أقسانا وما أجبننا؟ لكن ما أروع التجلد رغم القامة السامقة والشعبية الكاسحة لهذا الفنان المرهف. يجب علينا في هذا السياق أن نبوح بذنبنا تجاهه اكراما لمثواه: ما أبشع إهانة المبدع الذي أعطى كل ما لديه للشعب، ولليتامي، والمعوقين وللقلوب المجروحة وحتى للجلاد وملته، ونحن نقف ولا نحرك ساكن. كان جزاءه العقاب وشرّ عقاب. تبعوه شرّ متابعة وعادوه شر عداء وهاهمذا يمشون في جنازته وكأن شئ لم يكن! يا عجبي، فالجلاد، وأعوانه بل والحضور لا يطيب لهم إلى سماعه ولا يعشقون من أهل الطرب إلا هو. فضلا عن أننا نعلم أنهم أجبروه أن يدأب في غناء المدائح النبوية بعد أن أشبعوا غرائزهم بألحانه الخالدة. لكنه يمهل ولا يهمل!
الآن رحل محمود وخلف تراثا نعتز به وبوتقة من الأعمال الخالدة الرصينة التي طبع عليها بصماته بحبر النيون السرمدي. والأهم من كل ذلك أنه قدّم لنا مئات من أغاني الفنانين التي انطوى عليها غبار الزمن فخلقها بحسه العذب وبعث فيها من روحه الحياة من جديد، فصارت، دون أن أغالي، تنافس الأصل جودة ونغما وتطريبا. سمعت اليوم في الصباح أغنية الخالدي (تعلمنا من ريدها ... نحب الدنيا ونريدها) على فم محمود ومن ثمة بحنجرة الخالدي، وكلاهما خالد، لكن الفرق شاسع، وحدث ولا حرج. عند سماع "نرحل في عيون الناس نشيل لكل زول ريدة ... وغريبة الدنيا جمعتنا وبقولوا عليها رواحة" تهادت إليّ الموازير ورجعت بي الذكرى الحالمة إلى ذاك الحفل بنادي أبوظبي ثانية فأدركت الفقد الكبير كما أيقنت هول المصيبة وعظمة الجرح الغائر فيّ وفينا. بكيتك يا محمود وبكيناك من صميم أعماقنا، لأننا فقدنا فيك ابن الخالة، وابن السودان البار، كما فقدنا فيك دعامة المحتاجين. فأنت كنت كما أحببت أن تكون: صوت من لا صوت له ولسان من لا لسان له. كم من مرّة تربع فيها اخوانك هؤلاء على خشبة المسرح وغنيت لهم ومعهم وضممتهم إليك وجلست القرفصاء إليهم والمسرح القومي بامدرمان خير شاهد. كم تبرعت بدخل حفلاتك كاملا لهم؟ وكم وكم؟ فأجرك عند الله وخيرك وصوتك باق فينا فأنت الراحل الباقي.
لقد فقدنا بالأمس أخا ورفيقا أحببناه أيما حبّ، فقدناه وقد غسله المرض من بعض إثم فصار طاهرا يرنو لمقابلة ربه بقلب مؤمن؛ كما فقدنا إخوتي مدرسة غنائية بلغت بحق وحقيقة مقام الثريَّا في علاها؛ وإن ودّعنا اليوم فإنما نودع نغما فردوسيا عذبا صار كوكبا يحتذي به الآخرون في كل الساحات. وآخر قولي، في هذه اللحظة من الزمان افتقدنا ربيع الحبّ وحبّ الناس فضاع الأمس منّا وانطوت في القلب بفقده حسرة. ألا رحمه الله وأدخله فسيح جناته.

 

آراء