الحِصّه وطن.. هل نَعي كمفصولين الدّرس؟

 


 

 

اقتباس :
" وعثُرَ على جثمان الفتاه التي تبلغ من العمر .. صفراء قصيرة القامع ترتدي …خلف باب الشقه تسيل منها دماء كثيره … تفوح منها …. في بداية مرحلة التحلل…كما افادت أُمّها ان ابنتها كانت تتعاطى ال .. وانها أُدخلت المصحّه .. " إنتهى الإقتباس.
أعلاه إقتباس من خطابٍ داخلي يُعْنَى بشؤونٍ إداريه داخل جهاز الشرطه من رئيس قسم لمدير منطقته. فوجئتُ وأنا أقرأ ما وردَ فيه وهو ، أي التقرير ، مبذولٌ في الشبكه العنكبوتيه " وسائل التواصل ".
قَبل ذلك وفي قضية جريمة بري فوجئتُ وأنا اقرأ تقارير الصِفَه التشريحيّه لضحايا تلك المَجزره منشورة على أغلب وسائل التواصل على الإنترنت.
لم أُعَلّق على الجريمتين لأنني اؤمنُ بأنّ خصوصيات الناس ومشاعِرِهِم لا يجب أن تكون نهباً للتناول ومَبذولةٌ في العَلَن بهذه الصور غير الكريمه فالجريمه خُلِقَت مع خلق الإنسان ويمكن أن تقع على أيّ أُسْرَه وأنّ أمر الجريمه وتناوّلِها لا يجب أن يخرُجُ عن البيت الشُرطي وفي البيت الشُرطي فقط العاملين عليها.
راعني هذا التسريب الذي أتى من الشرطه ؛ الجهه التي يُفتَرض أن تكون هي الحافظه على حياة الناس وحياة الناس تعني كل ما يمس النفس البشريه وليس القتل وحدَهُ إذ أن كرامَتَهُم ومشاعِرَهُم تدخلُ في معنى الحياه إذا تمّ المساس بهما. إنّ ما يحدث أثناء التحري يُعَدُّ أسراراً يجب أن تكون في حرزٍ أمين لشرطّةٍ أقْسَمَ أهلُها على ذلك قَسَماً مُغلّظاً أمام الله. إنني أتساءل عن مشاعر هذه الأم حينما تشاهد أقوالها التي أدلَت بها أمام متحرّي إيماناً منها بأن ذلك سيساعد في الكشف عن الجناه والتي يجب أن تكون داخل أسوارٍ أخلاقيّةٍ متينةٍ مؤتَمَنه ، عندما تُشاهدُ أقوالَها وهي تغزو وسائل التواصل لأنّ شُرطي غير أمين صَوّرَها ونشَرَها ولأن رؤَساؤهُ لم يسوؤهُم ذلك ولم يَعنِهِم في شيئ بدَليل أن نَشر تقارير الصِّفَه التشريحيّه لجريمَة بُرّي نُشِرَ قبل أقل من شهر على هذا النشر المؤذي الآن ويعني كل ذلك عدم إتخاذ الإجراءات المناسبه لِضمان عدم تكرارِهِ.
إن الشيئ المُتَوَقّع من الشرطه هو الحفاظ على مشاعر أُسَر الضحايا وستر أسرارَهُم والبُعد عن إعلان ما يَمَسّ تلك الأسرار المُقَدّسه ولقد عايشنا أن بعض القضايا أمام المحاكم يَتِمّ فيها إخلاء المحكمه من الجمهور ويتم الإجراء في حضور المحامين فقط رغم نص القانون على علنية الجلسات وذلك مراعاةً لأسرار ومشاعر المتقاضين.
إنّ النّفس الإنسانيه تنفُر من الجريمه وبشاعَتِها ووصف الأذى الواقع على الضحايا والدماء والروائح فما بالُنا بوَصفٍ دقيقٍ مهم كانَ يجِب أن يَقبَع داخل إطار عمل الشرطه يتم تسريبه بمثل هذه الأريحيّه التي تمّ فيها إستعراضَهُ على وسائل التواصل دون مراعاه لذوي الضحيه؟ أما يكفي الفقد وَحْدَهُ حتى يستتبِعَهُ التسريب والنّشر والتبشيع؟
محاضر الشرطه تذخر بالكثير غير القابل للنشر ويجب على الشرطه في مثلِ هذه الجرائم فقط الخروج في مؤتمرٍ صحفي لطمأنة الجمهور بأن التحري يسير في اتجاهه السليم دون ذكر ما يؤثر على سير التحري ودونَ ذِكر ما يرفَع غطاء الستر يجب أن يُحاسَب من سَرّب مثل هذه التقارير حساباً تحرص إدارة الشرطه على إعلان الشعب به لأنّهُ المُخَدِّم ولأنّ امر الجريمه يَهُمُّهُ ويهُمُّ أمْنَهُ وحياتَهُ وفي ذلك مدعاةٌ لثقته في هذا الجهاز.
كلِمَه .. رُبّما تكونُ الأخيرَه :
خَرَجنا على الإنقاذ منذ العام ١٩٨٩ وعملنا على إزالَتِها وليس أقلّ من ذلك لإيمانِنا الراسخ أنّ في إزالَتِها صلاح الوطن والشرطه. بقِيَت الإنقاذ في الوَطَن وفي كُلّ مَفَاصِلِهِ وتفاصيلِهِ ونحنُ على بُعدِ قُرابَة الأربع سنوات من بداية الثوره.
نحنُ نعيشُ الآن فترةً إنقلابيّةً بعدَ ثوره دفع أبناؤنا فيها الأنفُس رخيصَةً. حَصيلَة القتلى على يَدِ الشُرطه فاقَت المائه والعشرين حتى الآن أما أعداد الجرحى والمُعَوّقين فقد بلغَ الآلاف وما زال القتل والجراح مستَمِرَّين. يَبينُ جَلِيّاً من تَعامُل الشُرطه في مسارِح التّظاهُر حِرص الشُرطه على حِمايَة السُلطه الإنقلابيه وبالتالي إستِمرارِها في الحُكم. بَلَغَ المَوت مَداه وبَلَغَ التعويق مَداه مُتَمَثِّلاً في فقدان شباب لأعضائهِم وأعيُنِهِم وأطرافِهِم بِكُلّ الأسلحه التي طالَها الكثير من الإنتِقاد. الصّمتُ عن ذلك جريمَه في حَقّ الوطن وخِيانَةً لِشَعبِنا الذي نَحنُ من صُلْبِهِ.
أمِلنا في رفع الضرر الواقع على المفصولين من الشُرطه بِيَدِ حكومة الثوره وقد عَرقَل مدنيو الإنتقال ذلك وبذلك اضاعوا الفرصه على الوطن في إستيعاب المفصولين وتنقية صفوف الشرطه من تسييس ثلاثين عاماً. إغتنَمَ الإنقلابيون الفرصه وشرعوا في رفع الضرر ونحنُ نُهَنئ من تمت ترقيتهم. قُلتُ قَبلاً أن هذه الترقيات لا تعني شيئًا وأكتاف كُلّ مَن أراد مليئه بالدبابير والمقصّات وحتى النياشين وعلامات الأركانحرب مُعَلّقه على صدورِ الجَهَلَه . لقد إنشغلنا ، كما أُريدَ لنا ، بهذه الترقيات وترَكنا أمر الوطن المَكلوم الذي يتفَشّى فيه القتل بيدِ الشُرطه جانِباً. في هذا الوقت لا يجب ان يكون همُّنا الأول رفع الضرر عَنّا بل إنهاء الإنقلاب وإحداث التغيير المطلوب ليس على طريقة المُساوَمات ولكن على طريقة الشارع الثوري ولاءاتِه الثلاثه. نحنُ وإن جُبِرَ ضَرَرُنا لَن نَهتُف بحياةِ الإنقلابيين .. لَسَوفَ نَبقى نَهتُف فقط لأرواحِ الشهداء وللحُرّيَّةِ والسلام والعَدالَه .. الحِصّه وَطَن ونحنُ ننتمي لهذا الشعب وليس لمَن يسرِقونَ قوتَهُ ويُقَتّلونَ أبناءهُ ويُهَجّروهُم ويُهينونَ مَن أخطأتهُم آلَةُ القتل وينالونَ من كرامَةِ الجميع. لم نرفع رايات نِضالَنا في ١٩٨٩ ونَصمُد لِنَيفٍ وثلاثينَ عاماً لنأتي ونجلس أمام مَن لا يملك صفه ولا شرعيه في قاعة الصداقه .. الذي قتلَ أهلَنا في دارفور وما زال وفي الاعتصام ليُنصِفنا فهل يعي ( مفصولونا ) الدّرس؟

melsayigh@gmail.com

 

آراء