الختم على الحواس والقلوب وضياع العقل والإدراك

 


 

فيصل بسمة
15 July, 2023

 

بسم الله الرحمن الرحيم و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.

مقدمة:

{ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰۤ أَبۡصَـٰرِهِمۡ غِشَـٰوَةࣱۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ }
[سُورَةُ البَقَرَةِ: ٧]
{ قُلۡ أَرَءَیۡتُمۡ إِنۡ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمۡعَكُمۡ وَأَبۡصَـٰرَكُمۡ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنۡ إِلَـٰهٌ غَیۡرُ ٱللَّهِ یَأۡتِیكُم بِهِۗ ٱنظُرۡ كَیۡفَ نُصَرِّفُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ ثُمَّ هُمۡ یَصۡدِفُونَ }
[سُورَةُ الأَنۡعَامِ: ٤٦]
{ أَفَرَءَیۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمࣲ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَـٰوَةࣰ فَمَن یَهۡدِیهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }
[سُورَةُ الجَاثِيَةِ: ٢٣]
[سُورَةُ الحُجُرَاتِ: ١٤]
{ وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ لِمَ تُؤۡذُونَنِی وَقَد تَّعۡلَمُونَ أَنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُمۡۖ فَلَمَّا زَاغُوۤا۟ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ }
[سُورَةُ الصَّفِّ: ٥]
{ ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّهُمۡ ءَامَنُوا۟ ثُمَّ كَفَرُوا۟ فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا یَفۡقَهُونَ }
[سُورَةُ المُنَافِقُونَ: ٣]
و إذا ما ختم الله الخالق سبحانه و تعالى على القلوب و الحواس الإنسانية أو أزاغها إرتجت و غشتها غشاوة ، و يتبع ذلك إختلاط/إرتباك عظيم في الإدراك و المقاييس و المعايير ، و حينها تتوه بوصلة البصيرة و يضيع العقل و الفكر و التمييز و يضل الإنسان و يصير مثل الأنعام:
{ وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبࣱ لَّا یَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡیُنࣱ لَّا یُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانࣱ لَّا یَسۡمَعُونَ بِهَاۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَٱلۡأَنۡعَـٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡغَـٰفِلُونَ }
[سُورَةُ الأَعۡرَافِ: ١٧٩]
{ أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ یَسۡمَعُونَ أَوۡ یَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَـٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِیلًا }
[سُورَةُ الفُرۡقَانِ: ٤٤]
و هكذا يبين الله الخالق عز و جل عظمة نعمتي العقل و القلوب التي جعلت بني الإنسان يتميز عن باقي المخلوقات ، فهذه النعم من أهميتها و عظمتها يصعب قياسها ، و بدون العقل تضيع المعالم و يكون الضلال ، و بدون العقل و القلب يصعب على الإنسان فقه/إدراك الأشيآء و التمييز بين الأضاد مثل: الحق و الضلال ، و الإيمان و الكفر ، و القِسط و الظلم و العدل و الجور و المحبة و الكراهية و الخير و الشر ، و النافع و الضآر ، و الإيثار و الأنانية و الغبط و الحسد و الرحمة و القسوة ، و اللين و الغلظة ، و التسامح و التعصب ، و المساواة و التفرقة ، و المحبة و البغضآء ، و التطرف و الإتزان و غيرها...
و يأتي عقل الإنسان للأشيآء و الإدراك بها عن طريق التدبر و التفكر و التأمل في الموجودات المتاحة أمامه و المعارف المرتبطة بها مع مقارنة و خلق علاقات و ربط ذلك و مضاهاته بالخبرة و الخلفيات المتراكمة في خزانة الذاكرة ، و هكذا و عن طريق الإدراك و الإلمام بالعالم المحيط و الإحساس به ينشأ و يكون تعامل الإنسان العاقل مع بيئته و ما تحتويه من شتى المخلوقات و الموجودات...
يتأتى العلم و الإدراك و العقل بالأشيآء و العالم المحيط أول ما يتأتى عن طريق الحواس المعروفة مثل حاسة (السمع) التي تتيح سماع الأصوات مثل الكلام و الموسيقى و الضوضآء و الحركة و غيرها من الأصوات ، و عن طريق حاسة (البصر) التي تيسر رؤية الأشيآء و قرآءة الكلمات و إستيعاب الألوان و درجات الضوء و غيرها ، و عن طريق حاسة (اللمس) التي تميز الأسطح و الأشكال و القوام و درجات الحرارة و حالات المادة من سيولة و جماد و ما بينهما ، و عن طريق حاسة (الذوق) التي تفرق بين الحلو و المر و الكريه و كل أطياف الذوق الموجود في الأطعمة و المشروبات ، و عن طريق حاسة (الشم) التي تميز الروآئح و تصنفها إلى طيب و كريه و محايد ، و ربما عن طريق حواس أخرى عديدة لا يعلمها إلا الله و لم يعقلها الإنسان بعد ، كل هذه الحواس يصنفها العقل و يخلق منها روابط و علاقات و معاني و مفاهيم و مدلولات يتفاعل معها و يختزنها في الذاكرة لتصبح خبرة و مرجعية...
و قد جآء ذكر القلوب في مواضع كثيرة في القرءان يستشف منها أن للقلب علاقة وثيقة بالفقه/الإدراك و الإيمان و الهداية:
{ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضࣰاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡذِبُونَ }
[سُورَةُ البَقَرَةِ: ١٠]
{ وَقَالُوا۟ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَقَلِیلࣰا مَّا یُؤۡمِنُونَ }
[سُورَةُ البَقَرَةِ: ٨٨]
{ وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِیثَـٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُوا۟ مَاۤ ءَاتَیۡنَـٰكُم بِقُوَّةࣲ وَٱسۡمَعُوا۟ۖ قَالُوا۟ سَمِعۡنَا وَعَصَیۡنَا وَأُشۡرِبُوا۟ فِی قُلُوبِهِمُ ٱلۡعِجۡلَ بِكُفۡرِهِمۡۚ قُلۡ بِئۡسَمَا یَأۡمُرُكُم بِهِۦۤ إِیمَـٰنُكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ }
[سُورَةُ البَقَرَةِ: ٩٣]
{ لَّا یُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِیۤ أَیۡمَـٰنِكُمۡ وَلَـٰكِن یُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتۡ قُلُوبُكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِیمࣱ }
[سُورَةُ البَقَرَةِ: ٢٢٥]
{ رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَیۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ }
[سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ٨]
{ فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّیثَـٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِیَاۤءَ بِغَیۡرِ حَقࣲّ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَیۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا یُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِیلࣰا }
[سُورَةُ النِّسَاءِ: ١٥٥]
{ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا یَحۡزُنكَ ٱلَّذِینَ یُسَـٰرِعُونَ فِی ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا بِأَفۡوَ ٰ⁠هِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِینَ هَادُوا۟ۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِینَ لَمۡ یَأۡتُوكَۖ یُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ یَقُولُونَ إِنۡ أُوتِیتُمۡ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُوا۟ۚ وَمَن یُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَیۡـًٔاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ لَمۡ یُرِدِ ٱللَّهُ أَن یُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَا خِزۡیࣱۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمࣱ }
[سُورَةُ المَائـِدَةِ: ٤١]
{ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَـٰرِهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡغَـٰفِلُونَ }
[سُورَةُ النَّحۡلِ: ١٠٨]
{ ذَ ٰ⁠لِكَۖ وَمَن یُعَظِّمۡ شَعَـٰۤىِٕرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ }
[سُورَةُ الحَجِّ: ٣٢]
و الأمثلة كثيرة ، و كان الإعتقاد السآئد هو أن عَقلَ الأشيآء يكون في المخ الذي يقبع داخل عظام جمجمة الرأس ، و من هذا الإعتقاد جآء الإستخدام المترادف لكلمتي المخ و العقل لتفيد نفس المعنى ، و الإعتقاد الشآئع هو أن المخ/العقل هو الحيز و المكان حيث يكون التفكير و التدبير و الفهم عن طريق العقل و الإدراك و الربط و خلق العلاقات بين المعطيات و من ثَمَّ إستنتاج المعاني و المدلولات ، حتى جآء القرءان ليضيف الكثير إلى المعارف و المفاهيم ، فقد أوضح القرءان أن (عقل) الأشيآء و (الفقه) بها يتم في (القلوب التي في الصدور):
{ وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبࣱ لَّا یَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡیُنࣱ لَّا یُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانࣱ لَّا یَسۡمَعُونَ بِهَاۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَٱلۡأَنۡعَـٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡغَـٰفِلُونَ }
[سُورَةُ الأَعۡرَافِ: ١٧٩]
{ أَفَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبࣱ یَعۡقِلُونَ بِهَاۤ أَوۡ ءَاذَانࣱ یَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِی فِی ٱلصُّدُورِ }
[سُورَةُ الحَجِّ: ٤٦]
و لقد أكد الله سبحانه و تعالى ذلك لما فَصَّلَ و بَيَّنَ أن التصديق و الإيمان بالرسالات السماوية مكانه القلب:
{ قُلۡ مَن كَانَ عَدُوࣰّا لِّجِبۡرِیلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ وَهُدࣰى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِینَ }
[سُورَةُ البَقَرَةِ: ٩٧]
{ وَإِنَّهُۥ لَتَنزِیلُ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِینُ (١٩٣) عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِینَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِیࣲّ مُّبِینࣲ (١٩٥) }
[سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: ١٩٢-١٩٥]
الغرض من هذه المقدمة هو محاولة لربط العلاقة ما بين نعم العقل و القلب و ممارسة التدبر و التفكر و الإدراك و التمييز و ما إرتكبته عصابات و مليشيات الجنجويد (الدعم السريع) و القوات النظامية و مليشيات مسلحة أخرى مما لا يخطر على قلب بشر من قتل و مجازر و إنتهاكات وحشية و فظاعات متعددة في حق الشعوب السودانية:
١- أثنآء الثورة السودانية الأخيرة ضد نظام الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان) حيث حدثت عدة مجازر خلال شهر رمضان ١٤٤٠ هجرية في العاصمة السودانية الخرطوم و بلدات أخرى في بلاد السودان ، لكن أكثر المجازر عنف و دموية و أعداد قتلى كانت تلك التي تم إرتكابها ضد المعتصمين في مدينة الخرطوم في شارع النيل في يوم الثامن (٨) من شهر رمضان ١٤٤٠ هجرية الموافق الثالث عشر (١٣) من شهر مايو ٢٠١٩ ميلادية ثم تلتها مجزرة أكبر و أكثر فظاعة في ساحة الإعتصام أمام مبنى قيادة القوات المسلحة في فجر يوم التاسع و العشرين (٢٩) من شهر رمضان ١٤٤٠ هجرية الموافق الثالث (٣) من شهر يونيو ٢٠١٩ ميلادية
٢- قمع و قتل الثوار المتظاهرين ضد حكم العسكر من أعضآء اللجنة الأمنية العليا لنظام الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان) و المحتجين على تعاظم نفوذ فلول جماعة (الكيزان) خلال السنوات الأربع التي تلت خلع البشير في أبريل ٢٠١٩ ميلادية
٣- قتل و إيذآء المواطنين في الخرطوم و مدن و بقاع في أقاليم دارفور و كردفان و النيل الأزرق أثنآء الحرب الدآئرة منذ الخامس عشر (١٥) من إبريل ٢٠٢٣ ميلادية بين ذات المجموعات المسلحة بسبب الصراع حول السلطة
و قد ذكر كثيرٌ من الشهود و الناجين من مجازر الإعتصام أن من قام بالحرق و القتل و الإغراق في النيل و التعذيب و الإغتصاب كانت جماعات من الجنود غالبيتهم من مليشيات الجنجويد (الدعم السريع) ، و لقد تكررت في شهادات كثير من الشهود و الناجين أنه يوجد بين مليشيات الجنجويد (مرتزقة أعراب) قادمون من غرب أفريقيا و جنوب الصحرآء تم التعرف عليهم من سحناتهم و طريقة أحاديثهم باللسانين العربي و الفرنسي ، و ذكر الشهود أنه قد بدرت من بعضٍ من أولئك الجنود المرتزقة ”الأعراب“ ما أكد خلفياتهم و جنسياتهم و بلدانهم ، كما وثِّقَت أقوال و أفعال و ممارسات عنصرية صدرت منهم في حق الثوار السودانيين المنحدرين من أعراق أفريقية (الزُّرُق) كانت على درجة عالية من القسوة و الوحشية و القبح و التطرف...
و قد دلت الأحوال و الوقآئع أن غالبية/كل قيادات و أفراد حركات التمرد المسلحة في إقليم دارفور تنتمي إلى إثنيات أفريقية (فور/زغاوة/مساليت/آخرون) ، و أن غالبية جنود مليشيات الجنجويد (الدعم السريع) ينتمون إلى قبآئل ذات أصول أعرابية ، و معلوم أن هنالك عدوات تاريخية بين المجموعات الأفريقية و الأعرابية بسبب المرعى و المسارات و الحواكير (حيازات الأراضي) و قطع الطريق ، هذه الملاحظات تفسر أثر البعد القبلي و الإثني في تأجيج أحاسيس الحقد و الإستعلآء العرقي التي تبرر و تفسر لاحقاً قسوة القلوب و الأفعال و ردود الأفعال الهمجية خصوصاً في ساحات القتال و عند الإغارات على الفرقان و التجمعات السكانية...
و يشآء القدر أن تتكرر ذات المشاهد القتالية و المجازر و الإنتهاكات و الممارسات العنصرية البشعة في الحرب الدآئرة الآن في بلاد السودان و منذ الخامس عشر (١٥) من إبريل ٢٠٢٣ ميلادية ، و لكن هذه المرة على نطاق أوسع و بصورة أكثر وحشية و همجية ، كما أضيفت إليها السلب و النهب و السرقات الممنهجة للبيوت و المركبات و الممتلكات و الأسواق و المصانع الذي يعقبه التخريب و الحرق ، هذا إلى جانب إختطاف الفتيات و النسآء و الإغتصابات الجماعية المنقولة/الموثقة في الوسآئط الإجتماعية و على أسافير الشبكة العنكبوتية...
السؤال:
هل كان كل أولئك الجنود يعقلون و يفقهون/يدركون ما يفعلون؟
أم أن عقولهم و قلوبهم قد (خُتِمَ) عليها؟
فعموا و صموا و ضلوا فجآءت تصرفاتهم بهيمية ، عنيفة و همجية تتنافى مع أبسط القيم الإنسانية و الأخلاقية...
و الظاهر/الشاهد هو أن بعضاً/كثيراً من الجنود الذين نفذوا مجزرة القيادة العامة و المجازر الأخرى خلال مسيرة ثورة ديسمبر ٢٠١٨ ميلادية و الحرب الدآئرة الآن كانت تنقصهم أصلاً نعم العقل و القلب و ما يصحبهما من فضآئل: الفكر و التدبر و الإدراك و التمييز ، أو أنهم و على أحسن تقدير قد فقدوا تلك الأدوات مؤقتاً أثنآء تنفيذ العمليات ، و هكذا و مع نقص/فقدان هذه الفضآئل و المقدرات صاروا يتصرفون في همجية مثل الوحوش الكاسرة و الضواري التي تتحكم الغرآئز في حركاتها و تصرفاتها...
و هنا يقفز السؤال التالي:
هل كان الجنود في ”حالة البشرية“ التي يقال أنها مرحلة سبقت (نفخة الروح) و (تعليم الأسمآء) أو ما يسميه بعض من المفكرين مرحلة (الأَنسَنَة) التي حولت البشر إلى بني الإنسان؟
و يرى مفكرون أنه خلال تلك المرحلة (البشرية) التي سبقت (الأَنسَنَة) كانت المخلوقات البشرية التي سبقت تكليف سيدنا آدم عليه السلام و (تعلمه للأسمآء) تفسد و تسفك الدمآء كما شهدت بذلك الملآئكة!!!:
{ وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَاۤءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ فَقَالَ أَنۢبِـُٔونِی بِأَسۡمَاۤءِ هَـٰۤؤُلَاۤءِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ (٣١) }
[سُورَةُ البَقَرَةِ: ٣٠-٣١]
و يرى أولئك المفكرون أن مرحلة الأنسنة تلت عملية (نفخ الروح) و التي عن طريقها تم تمليك البشر العلم و المعرفة و الأوامر و النواهي الإلهية و الأدوات و الوسآئل التي تعينهم على العقل و الإدراك و عبادة الله و ممارسة مستحقات الخلافة في الأرض:
{ وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی خَـٰلِقُۢ بَشَرࣰا مِّن صَلۡصَـٰلࣲ مِّنۡ حَمَإࣲ مَّسۡنُونࣲ (٢٨) فَإِذَا سَوَّیۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِیهِ مِن رُّوحِی فَقَعُوا۟ لَهُۥ سَـٰجِدِینَ (٢٩) }
[سُورَةُ الحِجۡرِ: ٢٨-٢٩]
و بالعودة إلى الإنتهاكات و المجازر فيبدو و من طريقة إنصياع الجنود و تنفيذهم للأوامر بهمة و نشاط و حرص ملحوظ أنه قد تم حشدهم و شحنهم و تحفيزهم بالعآئدين المادي الدنيوي و المعنوي الديني ، الحافز المادي الدنيوي المتمثل في الرتب و الرواتب العالية المجزية بالإضافة إلى الغنآئم و الأنفال من نهب و سلب السيارات و المتاع و المقتنيات و كذلك ممارسة الجنس مع السبايا من الإمآء و ملك اليمين ، أما الحافز المعنوي الديني فيتمثل في الوعد بالأجر و الحسنات المضاعفة في (الحياة الآخرة) ، التي تضمن السكن في أعالي الجنان و الفراديس ذات الأنهار الجارية و الطقس المنعش في صحبة الشهدآء و الصديقين و في معية أعداد لا حصر لها من الحور العين ، و كذلك التلذذ بأكل لحم الطير و الفواكه و كل ما يشتهونه أو هم محرومين منه في حياتهم (الدنيا الفانية)!!! ، و ذلك جزآءً وفاقاً عن محاربة الثوار الكفار و الملاحدة من الشيوعيين الذين ينادون بالحرية و المدنية و إلغآء شرع الله و العلمانية و فصل الدين عن الدولة و ما يتبع ذلك من فسوق ليبرالي!!!...
حاشية:
الطرفان المعتديان/المتنازعان يدعون الإيمان و الإسلام و يهللون و يكبرون أثنآء القتل ، و يرمون الطرف الآخر بالكفر و الإلحاد و الفسوق و العصيان...
و قد يجزم بعضٌ من المراقبين/الناس أن قلوب أولئك الجنود قد (خُتِمَ) عليها بدليل تصرفاتهم الوحشية التي فاقت في همجيتها تصرفات الأنعام و المخلوقات الكاسرة و الضواري ، و هنا يقفز إلى الذهن سؤال ملح:
من الذي ختم على قلوب أولئك الجنود القتلة؟
ففي حالة الكفار المذكورين في الآيات في المقدمة فإن الفاعل الذي ختم على القلوب معلومٌ و هو الله الخالق سبحانه و تعالى ، لكن في حالة أولئك الجنود القتلة الباطشين كانت (وسيلة) الختم عن طريق أفراد و جماعات من البشر/بني الإنسان و بطريقة حجبت عقول و قلوب أولئك الجنود عن العلم و المعرفة و التربية و السلوك السوي المرتكز إلى مرجعيات الدين و القيم و مكارم الأخلاق ، ختم محكم أفقد الجنود المقدرة على: التعقل و التفكر و التدبر و الإدراك و التمييز و جعلهم يتصرفون كالوحوش...
و الشاهد هو أن الخاتم/الفاعل في حالة الجنود القتلة قد حرص و اجتهد إجتهاداً عظيماً على تربية الأفراد و تدريبهم و شحن عقولهم بفهم و مفهوم خآطئ للدين الإسلامي و فكر ظلامي يدعو إلى التقوقع و الإقصآء و التكفير ، و غرز في عقولهم أن القتل و ممارسة العنف و البطش و القتل ضد الخصوم عندما يتم في سياق الجهاد الإسلامي في سبيل الله فإنه عمل مشروع/شرعي يرضي الله و الرسول!!!...
و الغالب أن مليشيات الجنجويد (الدعم السريع) هم جنود قد تم تجميعهم و كما مسماهم بسرعة و على عجل بواسطة نظام الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان) لمحاربة و قتل المتمردين المعارضين للنظام من أهل إقليم دار فور من القبآئل ذات الأصول الأفريقية ، و الذين طالبوا بالعدالة و المساواة في الحقوق و الواجبات و التنمية و السلطة و الثروة في دولة بلاد السودان الحرة/المحررة!!! ، ثم من بعد ذلك إمتد تفويض تلك المليشيات ليشمل قمع و قتل السودانيين المعارضين لنظام الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان) في كل بقاع الدولة السودانية ، و كذلك الإرتزاق المدفوع الأجر في الدول المجاورة مثل تشاد و ليبيا و اليمن...
و لما كانت الفترة بين تجنيد أفراد مليشيات الجنجويد (الدعم السريع) و الزج بهم في ساحات القتال المختلفة قصيرة جآء التجهيز كما إسمهم على (عجلٍ سريع) لم تراعى فيه المواصفات المعهودة في المعاينات و الإختيار لقوات قتالية نظامية تلتزم بالمهنية و الإحترافية و إحترام المعتقدات و القيم الأخلاقية و الإنسانية ، و عوضاً عن ذلك كان التركيز على اللياقة البدنية العالية و المقدرات الإستثنآئية على الفتك و البطش و القتل دون رحمة أو رأفة ، فكان أن وقع الإختيار على الصبية من صغار السن الأقويآء الذين يمتلكون المقدرات على تحمل الصعاب في مسارح العمليات القاسية و كذلك قابلية التشكيل و الإنصياع و الإمتثال إلى أوامر قتل الخصوم دون مسآءلة أو مناقشة الدواعي و الأسباب خصوصاً إذا كان الفعل (كله لله) و تحت مظلة الجهاد في سبيل الله حتى و إن تعارض ذلك مع العرف و الأخلاق و القانون...
و الملاحظ أن غالبية أولئك الجنود جآءت من البادية السودانية و بوادي أخرى في دول الجوار الأفريقي ، و في البوادي تغلب البساطة و الفطرة ، و يبدوا أن هذين العاملين إلى جانب صغر السن و القوة البدنية و قلة الخبرة و إنعدام التجربة كانت من الدوافع الأساسية في توظيف أولئك الأفراد ، و يبدوا أن تلك العوامل كانت مقصودة/مستهدفة في حد ذاتها بإفتراض أنها تسهل عملية التحكم في العقول و القلوب الغضة بالصقل و التشكيل على الطريقة المرجوة و كيفما يريد المخططون...
و حتى تكتمل حلقة التحكم الكامل في أولئك الجنود فقد تم إعداد و تنصيب قيادات/كوادر مدربة على عمليات غسل الأدمغة و الشحن المعنوي و التلقين الممنهج على تنفيذ الأجندة و الأهداف المرجوة دون إستفسارات أو إعتراضات ، و كانت كل تلك العمليات إبتدآءً من الإختيار مروراً بالتدريب و إنتهآءً بتنفيذ المهام الميدانية القتالية تتم بعلم و تمويل و مباركة المخططين المتنفيذين في أعلى قيادات تنظيم الجماعة (الكيزان) و مستويات الحكم المركزي و على صدارة ذلك الهرم كان يتربع رئيس جمهورية السودانية الطاغية المخلوع البشير الذي تتبع له مباشرةً مليشيات الجنجويد (قوات الدعم السريع)...
الخلاصة:
الوحشية و القبح العنصري و الحقد و مقدار العنف و القتل الذي مارسه جنود مليشيات الجنجويد (الدعم السريع) و المليشيات و القوات النظامية الأخرى أثنآء تنفيذ: عملية فض الإعتصام و قمع الثوار و المتظاهرين طوال سنين الثورة و في الحرب الدآئرة الآن في الخرطوم و أقاليم دارفور و كردفان و النيل الأزرق و بقاع أخرى تدل على أن تلك الجنود و قياداتها تمتلك (قلوب) قاسية و (عقليات) ضلالية/إنتقامية/إقصآئية لا إحترام أو مكان فيها للآخر المعارض الذي لا قيمة له: الخآئن/العميل/الكافر/العلماني/إلخ... ، و هذا هو الذي يفسر العنف و الشراسة المفرطة التي مورست في فض إعتصام القيادة و التي ما زالت تمارس في الحرب الحالية...
الختام:
الختم الرباني من الله الخالق سبحانه و تعالى على القلوب و السمع و الأبصار و بقية الحواس مشيئة إلهية و حقيقة ثابتة...
أما الختم الإنساني على السلوك فهو غير ثابت و متغير بتغير الأزمان و الأحوال و الأقوام ، و كما الإنسان إلى زوال فإن ختمه إلى زوال...
أفراد مليشيات الجنجويد (الدعم السريع) و المليشيات المسلحة الأخرى و القوات النظامية السودانية و ربما الكثير من السودانيين من مختلف الملل و الأعراق و الإتجاهات في حوجة إلى إعادة تأهيل و (فَرمَتَة) تنزع عنهم غشاوات القلوب و العقول و الأبصار و الأفئدة ، و تغسل/تزيل عن قلوبهم و عقولهم أدران: الضلال و الحقد و الحسد و الكراهية و العنصرية و كل الصفات الغير إيجابية...
و الحمد لله رب العالمين و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.

فيصل بسمة

fbasama@gmail.com
//////////////////////

 

آراء