الخرطوم، عصب المال والاقتصاد
د. حسن بشير
7 June, 2023
7 June, 2023
يوجد بالسودان تمركز كبير للبنية التحتية الاساسية التي تحرك ماكينة الاقتصاد والمال والاعمال في الخرطوم. فالبنية التحتية لشبكة الاتصالات والمقاصة الالكترونية، شبكات وبنوك المعلومات والمعارف توجد في الخرطوم، اضافة للبنية التحتية تلك توجد المؤسسات الصحية بما فيها مراكز الامراض المزمنة ومستعصية العلاج وبنوك الدم والامدادات الطبية والصيدلانية والمؤسسات التعليمية بما فيها اكبر الجامعات العامة والخاصة والمراكز البحثية، اضافة لثقل القوي العاملة والمهارات ومراكز التدريب وبناء القدرات الاساسية، كذلك رئاسات الضرائب والجمارك والخدمات الشرطية والقانونية بقواعد بياناتها الاساسية. رئاسة بنك السودان المركزي ورئاسات البنوك التجارية والمتخصصة وشركات التأمين وبالتالي الاحتياطات المالية والتقنية وقواعد البيانات تتمركز في الخرطوم. يضاف لكل ذلك مطار الخرطوم الذي يتحكم في حركة الطيران الرئيسية، الشركة السودانية لمطابع العملة، مصفاة الجيلي ومحطات الكهرباء وشبكات المياه التي تغذي المناطق الصناعية، التي تمثل الثقل الاعظم للانتاج الصناعي في السودان، اضافة لاهم الشركات والاعمال التجارية والخدمات التي تدر الحصيلية الضريبية العظمي للخزينة العامة جميعها في الخرطوم.
يتمركز بالخرطوم اهم العمران العام والخاص ومعمار السكن والمغمار الخاص بالنشاط الاقتصادي والتجاري، كما تتمركز فيها اهم الاسواق التجارية والورش والمعامل والمشاغل وشبكات نقل البضائع والامدادات. الخرطوم بمدنها الثلاث لا تُضاهي من حيث الكثافة السكانية، اذ يقدر سكانها بين ثمانية الي عشرة مليون شخص تنهض غالبيتهم في الصباح من كل يوم وتعود في المساء وبحركتها هذه تضخ الكم الاكبر من القيم المضافة للاقتصاد السوداني. تمثل الخرطوم الملاز الاجتماعي في العمل والصحة والتعليم والثقافة، اذ غالبية سكانها من الفقراء والنازحين من مناطق الصراع والازمات والفارين من ويلات الحروب في الداخل والخارج.
يتمركز في الخرطوم ارث ثقافي ومعرفي وفني بعطاء تاريخي تراكمي او متصل، اذ يوجد بها عدد من المراكز الثقافية والمتاحف والمطابع والمكتبات وقنوات البث التلفزيوني والاذاعي واهم اصدارات الصحف والمجلات المتنوعة. كل تلك الثروات المادية والمعرفية والبشرية المتمركزة في الخرطوم - والتي تعتبر متواضعة بالمقاييس العالمية لعواصم البلدان في القرن الواحد والعشرين – ذات أهمية بالغة الدلالة وذات ميزات مطلقة، ليس فقط للاقتصاد السوداني وانما بالنسبة للسودان كدولة قابلة للبقاء، ذلك لان السودان عاني من تاريخ طويل من سوء ادارة الموارد وفقر التنمية وتداعيات الحروب والنزاعات، بالتالي ما احدثته الحرب يعتبر كارثة بابعاد مأساوية كبري.
اذا خصمنا جميع القدرات التي تتمركز في الخرطوم بمدنها الثلاث (الخرطوم، امدرمان والخرطوم بحري) عن مجمل ما يتوفر للسودان من قيم واذا اضفنا اليها تكاليف الحرب المستعرة منذ 15 ابريل 2023م المباشرة وغير المباشرة فسنجد ان الخسائر فادحة وتقدر بمئات ملايين الدولارات يوميا. تلك التكاليف متمثلة في الدمار والتلف والصرف علي الحرب، الا ان تكلفة توقف الاعمال الخاصة بالانتاج وقطاعات الاعمال والتجارة والتمويل والايرادات العامة وخروج كثير من النقد الاجنبي مع من خرجوا خارج البلاد نعتبر تكلفة باهظة بجميع المقاييس الاقتصادية. اذا اضفنا لذلك تكاليف توقف او تعطل الجهاز المصرفي بشكل شبه تام وتوقف حركة التحويلات المصرفية والتمويل والنقل الجوي والبحري والتجارة العابرة للحدود عبر المعابر لادركنا جسامة تكلفة الحرب، اما تكلفة التنقيب عن الذهب وتصديره والذي كان يشكل رافدا اساسيا للدخل القومي فتحتاج لدراسة متأنية لمعرفة الخسائر في هذا القطاع الحيوي للاقتصاد السوداني.
هناك جانب اخر مدمر للحرب هو طرد المستثمرين الاجانب علي قلتهم من البلاد والكثير منهم لن يعودوا ابدا، كما ان بناء بيئة جاذبة للاستثمار الاجنبي لسودان ما بعد الحرب ستحتاج لكثير من المال والجهد والوقت.
اخيرا يجب ادراك ان التكاليف الاكثر جسامة للحرب هي التكاليف الاجتماعية المتمثلة في ازهاق الارواح والاصابات والاعاقات والامراض واسقاط وموت الاجنة والعاهات النفسية وتكاليف فقدان التعليم العام والعالي والتشرد والنزوح والهجرة بدون كفالة او رعاية اقليمية او دولية، اضافة لخطر المجاعة الذي يهدد اكثر من نصف سكان السودان.
عموما يجب ادراك ان السودان يعيش في محنة فظيعة لم تجد الاهتمام اللازم من الكيانات الشعبية والاهلية التي يجب ان تعطيها حجمها الحقيقي، اما الاستجابة الاقليمية والدولية للمأساة فيمكن وصفها بالمخزية باستثناء بعض الجهود التي تبذل من بعض دول الجوار في فتح الحدود لتدفقات السودانين وتقديم الحد الادني من الرعاية، يكفي في هذا السياق الاشارة الي تصريح مدير المفوضية العليا للاجئين التابعة للامم المتحدة (UHHCR)، الذي اشار خلال زيارته للقاهرة بان مستوي الاستجابة لسد الحاجة للاجئين السودانين قد بلغت 10%. مع ذلك لابد من التنويه الي اهمية ما تقوم به المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الامريكية في جهود اطفاء نار الحرب المستعرة في السودان والتي تقول للسودانين ان هناك من يهتم لهذا الامر. كما ان ما قامت به معظم دول الجوار من استقبال وايواء اللاجئين قد خفف كثيرا من اثار الكارثة خاصة جمهورية مصر العربية، اثيوبيا، جنوب السودان، تشاد ولحد ما اريتريا، فقد تحملت هذه الدول العبء الاكبر من تداعيات النزيف البشري الذي سببته الحرب.
من المهم الاشارة الي ضعف الجاليات السودانية في المهاجر وضعف مستوي التضامن بين السودانيين انفسهم في الازمات، فمن الملاحظ عدم وجود جاليات منظمة في الدول المجاورة للسودان يمكن ان تنظم وتستقبل الدعم للاجئين لتغطي علي ضعف الاستجابة الدولية للازمة السودانية، ليس ذلك فحسب وانما استثمر بعض السودانين في ويلات الحرب ومعاناة المواطن السوداني برفع الايجارات واسعار الترحيل والسلع والخدمات ونشطت تجارة السمسرة والايجار من الباطن سواء في الداخل او بعض دول الجوار، هذا طبعا لا يدعو لتجاهل شهامة العديد من السودانين الذي فتحوا بيوتهم وبذلوا الغالي والنفيس في اغاثة النازحين من ويلات الحرب داخل السودان. اما عن حملات النهب والسلب وتدمير وحرق الممتلكات المنظم والاجرامي، الذي قامت به فئات ضالة من السودانيين فهذا يحتاج وقفة خاصة في البحث ومراجعة القيم الاجتماعية والاخلاقية التي ظل يتغني بها الشعراء والشوادي علي مر التاريخ السوداني.
mnhassanb8@gmail.com
يتمركز بالخرطوم اهم العمران العام والخاص ومعمار السكن والمغمار الخاص بالنشاط الاقتصادي والتجاري، كما تتمركز فيها اهم الاسواق التجارية والورش والمعامل والمشاغل وشبكات نقل البضائع والامدادات. الخرطوم بمدنها الثلاث لا تُضاهي من حيث الكثافة السكانية، اذ يقدر سكانها بين ثمانية الي عشرة مليون شخص تنهض غالبيتهم في الصباح من كل يوم وتعود في المساء وبحركتها هذه تضخ الكم الاكبر من القيم المضافة للاقتصاد السوداني. تمثل الخرطوم الملاز الاجتماعي في العمل والصحة والتعليم والثقافة، اذ غالبية سكانها من الفقراء والنازحين من مناطق الصراع والازمات والفارين من ويلات الحروب في الداخل والخارج.
يتمركز في الخرطوم ارث ثقافي ومعرفي وفني بعطاء تاريخي تراكمي او متصل، اذ يوجد بها عدد من المراكز الثقافية والمتاحف والمطابع والمكتبات وقنوات البث التلفزيوني والاذاعي واهم اصدارات الصحف والمجلات المتنوعة. كل تلك الثروات المادية والمعرفية والبشرية المتمركزة في الخرطوم - والتي تعتبر متواضعة بالمقاييس العالمية لعواصم البلدان في القرن الواحد والعشرين – ذات أهمية بالغة الدلالة وذات ميزات مطلقة، ليس فقط للاقتصاد السوداني وانما بالنسبة للسودان كدولة قابلة للبقاء، ذلك لان السودان عاني من تاريخ طويل من سوء ادارة الموارد وفقر التنمية وتداعيات الحروب والنزاعات، بالتالي ما احدثته الحرب يعتبر كارثة بابعاد مأساوية كبري.
اذا خصمنا جميع القدرات التي تتمركز في الخرطوم بمدنها الثلاث (الخرطوم، امدرمان والخرطوم بحري) عن مجمل ما يتوفر للسودان من قيم واذا اضفنا اليها تكاليف الحرب المستعرة منذ 15 ابريل 2023م المباشرة وغير المباشرة فسنجد ان الخسائر فادحة وتقدر بمئات ملايين الدولارات يوميا. تلك التكاليف متمثلة في الدمار والتلف والصرف علي الحرب، الا ان تكلفة توقف الاعمال الخاصة بالانتاج وقطاعات الاعمال والتجارة والتمويل والايرادات العامة وخروج كثير من النقد الاجنبي مع من خرجوا خارج البلاد نعتبر تكلفة باهظة بجميع المقاييس الاقتصادية. اذا اضفنا لذلك تكاليف توقف او تعطل الجهاز المصرفي بشكل شبه تام وتوقف حركة التحويلات المصرفية والتمويل والنقل الجوي والبحري والتجارة العابرة للحدود عبر المعابر لادركنا جسامة تكلفة الحرب، اما تكلفة التنقيب عن الذهب وتصديره والذي كان يشكل رافدا اساسيا للدخل القومي فتحتاج لدراسة متأنية لمعرفة الخسائر في هذا القطاع الحيوي للاقتصاد السوداني.
هناك جانب اخر مدمر للحرب هو طرد المستثمرين الاجانب علي قلتهم من البلاد والكثير منهم لن يعودوا ابدا، كما ان بناء بيئة جاذبة للاستثمار الاجنبي لسودان ما بعد الحرب ستحتاج لكثير من المال والجهد والوقت.
اخيرا يجب ادراك ان التكاليف الاكثر جسامة للحرب هي التكاليف الاجتماعية المتمثلة في ازهاق الارواح والاصابات والاعاقات والامراض واسقاط وموت الاجنة والعاهات النفسية وتكاليف فقدان التعليم العام والعالي والتشرد والنزوح والهجرة بدون كفالة او رعاية اقليمية او دولية، اضافة لخطر المجاعة الذي يهدد اكثر من نصف سكان السودان.
عموما يجب ادراك ان السودان يعيش في محنة فظيعة لم تجد الاهتمام اللازم من الكيانات الشعبية والاهلية التي يجب ان تعطيها حجمها الحقيقي، اما الاستجابة الاقليمية والدولية للمأساة فيمكن وصفها بالمخزية باستثناء بعض الجهود التي تبذل من بعض دول الجوار في فتح الحدود لتدفقات السودانين وتقديم الحد الادني من الرعاية، يكفي في هذا السياق الاشارة الي تصريح مدير المفوضية العليا للاجئين التابعة للامم المتحدة (UHHCR)، الذي اشار خلال زيارته للقاهرة بان مستوي الاستجابة لسد الحاجة للاجئين السودانين قد بلغت 10%. مع ذلك لابد من التنويه الي اهمية ما تقوم به المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الامريكية في جهود اطفاء نار الحرب المستعرة في السودان والتي تقول للسودانين ان هناك من يهتم لهذا الامر. كما ان ما قامت به معظم دول الجوار من استقبال وايواء اللاجئين قد خفف كثيرا من اثار الكارثة خاصة جمهورية مصر العربية، اثيوبيا، جنوب السودان، تشاد ولحد ما اريتريا، فقد تحملت هذه الدول العبء الاكبر من تداعيات النزيف البشري الذي سببته الحرب.
من المهم الاشارة الي ضعف الجاليات السودانية في المهاجر وضعف مستوي التضامن بين السودانيين انفسهم في الازمات، فمن الملاحظ عدم وجود جاليات منظمة في الدول المجاورة للسودان يمكن ان تنظم وتستقبل الدعم للاجئين لتغطي علي ضعف الاستجابة الدولية للازمة السودانية، ليس ذلك فحسب وانما استثمر بعض السودانين في ويلات الحرب ومعاناة المواطن السوداني برفع الايجارات واسعار الترحيل والسلع والخدمات ونشطت تجارة السمسرة والايجار من الباطن سواء في الداخل او بعض دول الجوار، هذا طبعا لا يدعو لتجاهل شهامة العديد من السودانين الذي فتحوا بيوتهم وبذلوا الغالي والنفيس في اغاثة النازحين من ويلات الحرب داخل السودان. اما عن حملات النهب والسلب وتدمير وحرق الممتلكات المنظم والاجرامي، الذي قامت به فئات ضالة من السودانيين فهذا يحتاج وقفة خاصة في البحث ومراجعة القيم الاجتماعية والاخلاقية التي ظل يتغني بها الشعراء والشوادي علي مر التاريخ السوداني.
mnhassanb8@gmail.com