الخروج من نفق الانتقال الديمقراطي … إلى الدولة 

 


 

 

ما خلصنا إليه في حديثنا السابق، أننا يجب نتعامل مع المفاهيم السياسية والنظم التي تنشأ وتعبِّر عنها بحذر وعقلانية نقدية، وأن الواقع السياسي والجيوسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي هو المرجعية والمصفاة لاستخلاص ما يفيده ويدفع تقدمه وتطوره واستقراره.

وقد توصلنا في هذا الإطار، إلى أن إجماع النخب التي تتصدر المشهد السياسي السلطوي، وتعجلها إجراء انتخابات مبكرة، على اعتبار أن الانتقال الديمقراطي (يسمونه أحياناً "التحول الديمقراطي") ويعنون به عبور المرحلة الانتقالية كيفما اتفق، على أنه كفيل وحده بتحقيق حلم الدولة الحديثة التي نتطلع إليها جميعاً.

وقد أوضحنا – فيما أظن بما يكفي – خطل هذا الرأي، وما يعوق ويكتنف تحقيقه من  تعقيدات على مستوى توطين وتبيئة المفهوم في بنية مجتمع مختلف عن بيئة المنشأ. هذا من ناحية. كما، وتعقيدات، على مستوى التطبيق والممارسة في كيان لم تكتمل دولنته على نحو ناجز على النمط الحديث من ناحية أخرى. وأن المسألة ليست بهذه السهولة بحيث يحلها مجرد إقرار الديمقراطية ودستور، ونظام حكم فدرالي، ومنح حكم ذاتي للأقاليم داخل الدولة.

وها هو النموذج الأفريقي المجاور في أثيوبيا، الذي قام بعد الإطاحة بديكتاتورية الرئيس منقستو هيلا مريام الحمراء بتطبيق ما نسميه هنا بالتحول الديمقراطي، يقف شاهداً على أن ذلك لم يكن كافياً وحده لتحقيق استقرار واستدامة الدولة. فها هي أثيوبيا تشهد اليوم اضطرابات وصراعات قومية وعرقية تهدد بتفكيك الدولة، رغم سد النهضة كواحد من أعظم الإنجازات التنموية في القارة، ورغم الطفرة التنموية العملاقة التي شهدتها وحظيت بالإعجاب والإشادة من المنظمات الدولية.

ورغم هذا حذر اليكس دي وال الباحث البريطاني في سياسات النخبة الأفريقية والأكاديمي، في ورقة بحثية حديثة من انهيار محتمل للدولة في أثيوبيا، قائلا: “أنه لا يمكن استبعاد انهيار الدولة في إثيوبيا. وأن ذلك قد يكون واحداً من عدة سيناريوهات محتملة. وقد يحدث قريبا”.


(2)

حسناً.

قد يربط البعض تطبيق الديمقراطية بقيام دولة تتأسس على النظام العلماني، وهذا أيضاً ليس قاعدة ثابتة. فقد تتأسس الدولة على مبادئ العلمانية، ولكن مع ذلك لا تطبق مبادئ وروح الديمقراطية التي في النهاية تعني الحقوق المتساوية لمشاركة جميع المواطنين في إدارة شئون الدولة.

وإذا كنا جميعاً على اطلاع بما يكتب من نقد للديمقراطية الغربية، التي لا يمكن أن تحقق مفهوم "حكم الشعب" في ظل سيطرة الرأسمالية الكليانية، على مجمل حياة الأفراد والمجتمعات وتشكيلها على نحو يخدم تحقيق أهداف آلتها الإنتاجية، ولكي يفعل ذلك عليه أن يحكم سيطرته وهيمنته في تكييف مجمل تفاصيل حياة الإنسان فرداً ومجتمعات،  بدءاً من رؤية الإنسان لنفسه وللعالم الحياة، ويتدخل في تحديد نمط حياته، وميوله تحديد خياراته، والتي بالطبع لن تكون خياراته وإنما هي مفروضة عليه بعد أن تم تنميط الناس وصبهم في قوالب متماثلة، وينطبق هذا حتى في تحديد المرشحين الذين سينتخبهم المواطن الناخب. (1).

إذا كان معلوماً لديك عن حال الديمقراطية في ظل الأنظمة الغربية العلمانية. فإن التجربة التركية في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة تكشف لك بأن الصيغة العلمانية للدولة لا تكفي لتحقيق الديمقراطية، حتى على مستوى العلمانيات الأوروأمريكية. فتركيا التي ومنذ عام 1924 مع كمال أتاتورك، وبعد سقوط الخلافة العثمانية صارت جمهورية تحكم بنظام علماني. لم تعد – مع وصول الإسلامويون إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع – دولة علمانية أو ديمقراطية. صحيح لا يمكنك أن تقول بأنها ديكتاتورية إسلاموية خالصة، ولكنها لم تعد دولة علمانية ديمقراطية خالصة. هي الآن في منطقة بين البين، ولكنها مع أردوغان وحلمه باستعادة دولة الخلافة تسير في هذا الاتجاه حثيثاً، وليس أدل على ذلك من أن النظام بنى – منذ تسلم أردوغان رئاسة الدولة – عدد 131 سجناً جديداً !.


(3)

تستطيع، استشهاداً بالتجارب الديمقراطية في كل المجتمعات والدول التي جربت هذا النظام أن تقول بأن الديمقراطية في حقيقتها لا تعدو كونها صيغة مقترحة في الحكم وتداول السلطة سلمياً، وتنظيم العلاقة سواء بين الفرد والدولة، أو بين المجتمع والدولة.

وبالتالي فأنها تخضع في درجات قربها أو بعدها عن المفهوم المثالي المتصور – وهو  "حكم الشعب بالشعب للشعب – " لعدة عوامل ومؤثرات، منها الاقتصادي، كما ومنها الاجتماعي، والثقافي، وتجربة الشعب المعين، ومستوى وعيه الحقوقي ..الخ. إلا أن العامل المشترك بين مختلف هذه العوامل والمؤثرات هو نوع الدولة ونظام الحكم.

فأنت هنا تسأل: كيف كانت نشأة الدولة، وعلى أي نحو هو حكمها.

بمعنى: ما هي القوى الاجتماعية التي افترضت وجودها منذ البدء، وماذا كان تصورها لها ولوظيفتها؟.

باختصار: دولة من هي ؟.

على ضوء هذا يتحدد ويُعرف موقعها من الديمقراطية، أو يعرف موقع الديمقراطية فيها.

ويعرف ما إذا كانت الديمقراطية مثالاً أعلى، أو ما إذا كانت تزييفاً لإرادة الناس.

أي بين الديمقراطية الحقيقية، والديمقراطية المدعاة، التي تؤبد سيطرة الطبقة أو النخبة المغتصبة لسلطة الحكم.


(4)

هنا. مرة أخرى، قد يتهمك البعض بالتناقض، حين تجعل قيام الدولة الحديثة بوابة تعبر منها، أو تدخل عبرها الديمقراطية، بما يعني عملية دقرطة الحياة السياسية والاجتماعية والثقافة. وذلك حين قلت سابقاً أن بعض الديمقراطيات شرقاً وغرباً كانت تكرس هيمنة وسيطرة  سلطة دولة العصبية أو الطبقة أو الأيديولوجيا بينما ترتدي الديمقراطية ثوباً "برانيَّاً" تتزين به.

ولكن فلتسأل: أي دولة تلك التي يمكن أن تتأسس عليها ديمقراطية حقيقية، أقرب للمثال، كنا نعني ؟.

وإليك الإجابة.

في بلد "لحم راس" مثل السودان. مترامي الأطراف ومتعدد الإثنيات والقوميات والثقافات والموارد الطبيعية، ينبغي التوافق فيه على عقد اجتماعي بين جميع هذه الشعوب والأطراف ذات المصلحة، قبل صياغة أي دستور للدولة. وأن يحفظ هذا التعاقد حقوق جميع الأطراف المتساوية، وأن تُرمى ورقة "الأكثرية والأقليات" التي تشرعن وتقنن التفرقة بين مواطني الدولة على أساس العرق والدين وغيرها في المزبلة، وقبل صياغة الدستور. فالدستور يصاغ لإحقاق وضمان وشرعنة المساواة في الحقوق والواجبات المنصوص عليها في التعاقد.

بهذه الطريقة وحدها يمتلك المواطن دولته. وتصبح هي دولة المواطن. السيادة فيها للمواطن، لا للدولة.

على عكس ما عليه الحال اليوم حيث السيادة للدولة. ويكون المواطن فيها مملوكاً للدولة.


(5)

هذا هو الانتقال الأول الذي علينا عبوره:

من مواطن الدولة، إلى دولة المواطن.

وهذا لن يحدث ما لم تكن الدولة ذاتها هي "الهوية" الكبرى لمواطنيها.

إذ لا خطرٌ أفتَكَ من صراع الهويات في تفكيك الدول. وقد قالها حكيم هذه الأمة ومفكرها جمال محمد أحمد يوماً: "لا صراع أدمى من صراع الثقافات وأمَرّ،".

ولنا في ذلك تجارب دامية ومريرة، أدت إحداها إلى استئصال ثلث عزيز من جسد الوطن !.

وطالما كان تغليب عاطفة الانتماء والولاء، للهويات/ الثقافات الصغرى (الإثنية القبلية الطائفية ..الخ) يحتل موقع الأولوية في وعي المواطن، الذي يستمد المرء منه قيمته. وما يسببه هذا التعصب من صراعات، فإن الحل البديهي هو أن تحتل الدولة موقع الهوية العليا.

 ويحول دون تحقيق ذلك وهمٌ لا أساس له، بأن هناك علاقة نفي وصراع وتضاد متبادل بين الهويتين.

وهذا محض وهمٌ وادعاء كاذب لأن الدولة المدنية ليست بالاستبداد والتسلط الذي يجعلها تنفي وتمحو هوية مواطنيها الصغرى.

بل على العكس، هي تعترف بوجود هويات مواطنيها الصغرى وبحقها في البقاء، وتتيح حرية التعبير والممارسة لكل الهويات بالتساوي. وهذا ما تفشل في تحقيقه أي دولة تقوم على العصبية – أيا كانت هذه العصبية – إثنية، دينية، قبلية كانت، أو أيديولوجية فكرية.

فالدولة المدنية لا هوية منفصلة لها تعلو على هويَّات مواطنيها.

وإنما مواطنوها الأحرار المتساوون في الحقوق والواجبات هم من يشكلون هوية الدولة.

تنحصر وظيفتها في أن تكون "خادمة" لهم، خاضعة لإرادتهم. قائمة على تحقيق قيم الحرية والعدل والمساواة بينهم.

لأنها بهم تتطور وتقوى وتبقى.


(6)

فإذا كان هناك من همٍّ وهاجس ومشكل ينبغي أن يستأثر باهتمام وجهد السودانيين اليوم في هذه المرحلة الانتقالية، فهو الانتقال من اللادولة، أو شبه الدولة التي هو عليها الكيان السوداني، إلى الدولة المستقرة المستدامة.

لأن الانتقال الذي يتهافت الجميع لتحقيقه، ويصفونه بالديمقراطي، عن طريق الانتخابات، وفي ظل هذا الكيان الهش، فلا يعدو كونه إعادة إنتاج لأزمة الدولة وتكرار لا معنى له لتجارب الفشل التي لازمتها منذ ما بعد الاستقلال، وإلى عقب ثورتي أكتوبر 1964، ومارس/ أبريل 1985. وأن يكون التركيز بدلاً من ذلك على تثبيت أركان الدولة في المقام الأول. وذلك بتوحد قوى كافة المكونات التي تتصدر المشهد السياسي والاجتماعي الآن، من لجان مقاومة أحياء، وعسكر، ومليشيات وحركات مسلحة، وأحزاب، وقوى المجتمع المدني، لتتوافق جميعها، على أسس جديدة لإعادة تأسيس الدولة على نمط حديث، وفق تعاقد اجتماعي جامع.

أما هذا التشرذم الذي يفتح الباب للتدخل الخارجي، حين يبحث كل فريق عن حليف خارجي يدعمه ويستعين به في صراعه على السلطة، فسيفكك الدولة ويجعلها ساحة حروب لن تنتهي إلا بزولها. ودون الناس ما يشاهدونه يحدث اليوم في سوريا ولبنان وليبيا والعراق و .. وفي السودان أيضاً.

مصادر وهوامش

(1) يمكنك أن تجد تفاصيل هذا عند فلاسفة مدرسة فرانكفورت النقدية، وما اشتهر منها في الترجمات العربية من مؤلفات هربرت ماركيوز وهوركهايمر وايرك فروم.


izzeddin9@gmail.com

 

آراء