إن المفاضلة بين دبلوماسية تقليدية ودبلوماسية متجدّدة ، هي مثل المفاضلة المستحيلة بين أمسٍ مضى ويومٍ محضور، أو بين واقعٍ مرئي وحُلمٍ مستخفي، ذلك أن حيوية التواصل بين الاثنين، تأخذك حتماً إلى أفق المستقبل، وإلى غدٍ محتشد برؤى تقبع في غموض الغيب. هنا لا مفاضلة بين ضدين، بل مواءمة بين متكاملين. ثمّة كيان واحد يخضع للتحوّل والتغيير والتبدّل، لا كيانان يتصارعان ويتنافران، بل هما في حال تلاقحٍ ديناميكي، يتولّد عنهما قمرٌ وضاح، يخرج من غسق الليل وظلمته، يرسل ضياءاً ساطعاً جديدا .
(2) ليس في الأمر غموض الشعر ولا سفسطة الفلسفة، إنما الحديث هنا ، لا يخرج عن طبيعة الأشياء، في تطورها وفي تحوّلاتها وتبدلاتها . من يسمع هذه الأيام عن تطور يقع في أحوال المهنة الدبلوماسية، يرى أن المتابع العادي قد لا يفطن لمقاصد تعبير "الدبلوماسية الرئاسية" ، فكأنه تعبير يجافي الدبلوماسية التقليدية التي يعرفها الناس، وعاش معظم الجيل الحالي توجهاتها خلال ما عرف بحقبة "الحرب الباردة". إن الدبلوماسية التي يعرفها الناس قبل أن يعرفها ممارسوها، هي فن التواصل بين المجتمعات البشرية، ولعلي أوجزها بلغة أيامنا هذه فأقول، هي فن التواصل بين الأمم والحكومات. تتجاوز الدبلوماسية في عمومها، أهل المهنة وذلك أمر طبيعي ، إذ الدبلوماسية أسلوب وسلوك ، فهي في السياسة مثلما هي فــي الاقتصاد ، وهي في الطب والهندسة، مثلما هي في الثقافة والرياضة، وسائر ما ابتدع الانسان من مهن وفنون وعلوم. .
(3) إن فطرة الانسان السويّ، تنزع عن التصارع والاحتراب، وتجنح نحو السلم والاستقرار. لذا يقول لنا التاريخ القريب: إن البشرية، قد استوعبت درس حربين وقعتا في القرن العشرين ، وهما الحرب العالمية الأولى والحرب الثانية. في الطريق لتجنب موجبات الحرب ، نشأت "عصبة الأمم"، وبرغم تواضع موجهاتها وأهدافها بعد انتهاء الحرب الأولى عام 1918م، فقد حققت استقرارا لعقدين من الزمان . أما بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945م، فقد استقامت إرادة الشعوب على التعاهد والتوافق على ما يعزز التعاون بين المجتمعات ويعزّز إمكانية تعايشها واستقرار أحوالها . إلى ذلك توافقت حكومات العالم، أواسط أعوام القرن العشرين، على قيم تعيد اللحمة بين كيانات المجتمع الدولي، من أجل عالم تُحسِن البشرية جمعاء العيش فيه. لعبت الدبلوماسية أدواراً عظيمة في إرساء قواعد لتعاونٍ دولي ولتنسيقٍ لازم ، يستهدف استدامة السلم والأمن الدوليين. من أحكم تلك الاتفاقيات والمواثيق الدولية، تلك التي اتصلت بترتيب أساليب التواصل بين الشعوب والحكومات . خرجت تلكم الاتفاقيات من رحم اجتماعات حكماء العالم وقتذاك، بينها ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان . . وكذلك اتفاقيتا فيينا الدبلوماسية والقنصلية، اللتين وضعتا الأسس للدبلوماسية الثنائية والدبلوماسية الجماعية.
(4) غير أن الأحوال جميعها، قابلة لتطور ولتحديث ولمتغيرات . ليس الماضي ولا الحاضر بمستدام ، بل هو خاضع لما قد يبتكر العقل البشري من اختراعات ومن اختراقات علمية ، ومن رؤي كالأحلام، تستشرف مستقبلاً حافلاً بتجريب جديد . إن ثورة الاتصالات والمعلوماتية، مهّدت لثورة في "تحرير المعلومة"، فهي لم تحول العالم إلى محض قرية كونية فحسب، بل جعلته بيتاً واحداً، متعدّد الغرف والردهات والحدائق. إن طبيعة التواصل بين البشر تحولت تحوّلاً كبيراً بعد الاختراق الإلكتروني الذي أحدثته الشبكة العنكبوتية ، في السياسة والاقتصاد، وفي العلوم والآداب ، بل وفي مختلف أوجه الحياة. إلى ذلك فإن تلك الثورة أعطت الدبلوماسية نفساً جديدا ، متصاعداً، يراه الدبلوماســــيُّ الذي مارس الدبلوماســــية بأساليبها العتيقة، وتفاصيلها الدقيقة ، مثل ضوابط البعثات الدبلوماسية، وترتيب أوراق اعتماد السفراء، وتبادل الرسائل، وابتعاث الرسل وجلسات التفاوض ، أمراً مستحدثاً قد يتطلب تقويماً جديداً للعمل الدبلوماسي المهنيّ المعهود. أتذكر ورقة أعددتها في وزارة الخارجية السودانية عام 2005 ، وألمحت فيها إلى ضرورة التصالح مع واقع جديد للمهنة الدبلوماسية التقليدية ، والتي توقعت أن يشار إليها بعد حين، بأنها "دبلوماسية سلفية" يتوجّب تجاوزها، كان بعض من ناقش الورقة في وزارة الخارجية السودانية وقتذاك لم يرَ في الدبلوماسية "سلفية" تذكر. في حقيقة الأمر أردتُ أن أقول إن الدبلوماسية التقليدية، حان أوان تجديدها وعصرنتها، بعد ولوجها إلى عالم يمور بأساليب التواصل الإلكتروني والوسائط التي شاعت الآن، بأسرع وتيرة يمكن تصوّرها.
(5) من كان يتصوّر أن رجلاً مثل "دونالد ترامب"، يرأس أكبر دولة في العالم، وقد تجاوز سنه السبعين عاما ، يبرع في إدارة دولته عبر "التويتر"، بإطلاق الرسائل الالكترونية والتصريحات المباشرة ، حول أكثر قضايا بلاده حساسية، متجاوزاً- ليس فقط مؤسسية العمل في وزارة الخارجية الأمريكية - بل مؤسسية العمل في "البيت الأبيض" نفسه. . ؟ إن الإعلام المتعصرن، قد أفاد الرجل فائدة كبرى، بأن أتاح له الحضور اليومي المباشر، تحت عدسات آلات التصوير والهواتف الذكية، فيكون تعبيره أكثر دقة وأحكم هدفا. ذلك ما قد يحدث إذا ما أحسن المتابعون قراءة لغة الجسد التي أجادها، وتمعّنوا في ملامحه وفي حركة يديه، وفي تسارع خطواته، وفي ملبسه وربطة عنقه. من منكم – مثلاً- رأى الرجل يوماً مرتدياً "تي شيرت"، أو شاهده مسترخياً في مباذله. . ؟
(6) على أن مثل هذا المسلك الذي أرتآه "ترامب"، في إدارة أحوال الولايات المتحدة، يطرح تعقيدات بل تحديات عديدة . لعلّ من أوضح تلك التحديات، هي أن الأسلوب الذي اتبعه قد تجاوز متطلبات المؤسسية، في دولة مثل الولايات المتحدة، يحكمها دستور راسخ، وممارسات رئاسية متجذرة، يرى كثيرون في الإعلام الأمريكي، أن "ترامب" قد فارقها بإصرارٍ مبين، وتعمّدٍ صادم. إن حيوية حضور الرئيس اليومي وتصريحاته الغرائبية، عبر وسائط التواصل الاجتماعي، جعلته عرضة لانتقادٍ متصاعد من قبل أجهزة الإعلام الأمريكي، وصلت إلى حد التلاسن مع تلك الأجهزة والشطط في مخاصمتها.
إن أسلوب الرئيس الأمريكي "ترامب" في "البيت الأبيض"، يطرح إشكالية غاية في الأهمية، تتصل بكيفية توافق تصريحاته المرسلة مع توجّهات مؤسسات الدولة، وخاصة مع وزارة الدبلوماسية التي تعالج علاقات الولايات المتحدة الخارجية، وهي الجهة الرسمية التي يفترض أن تقدم الاستشارة الرصينة لـ"مؤسسة الرئاسة" في "البيت الأبيض".
(7) لعلّ تقديم سفراء بارزين في الأشهر الستة الأخيرة إستقالاتٍ مسبّبة من وزارة الخارجية الأمريكية، يعكس وجهاً من وجوه أزمة ضعف التنسيق وشيوعِ تجاهلٍ، حمل استخفافاً برأي "مؤسسة الدبلوماسية" . استقالت السفيرة "روبيرتا جاكوبسون" في فبراير 2018 من سفارتها في المكسيك، بسبب تناقض عملها الدبلوماسي مع توجهات الرئيس "ترامب" بشأن تشييد جدار تموّله المكسيك في الحدود المشتركة مع الولايات المتحدة. رأت السفيرة خطل تلك الدعوة وما فيها من شطط، فتقدمت باستقالتها احتراماً لمصداقية امتهانها الدبلوماسية، لما يزيد من الثلاثين عاما. لعلّ منكم من شاهد السيدة "جاكوبسون" تحدث "أمانبور" قبل أيام على قناة "السي إن إن"، لابدّ قد لاحظ عند تلك المرأة، رصانة في الحديث الدبلوماسي، لا تقارن بتهافت أقوال رئيسها. . ! في جمهورية "استونيا" ، استقال السفير "جيمس ميلفيل" سفير الولايات المتحدة هناك ، احتجاجاً على تصريحات الرئيس "ترامب" الحادة، ضد دول حلف "الناتو" ، مستخفاً به ومتهماً إياه بالتقاعس في تحمل تبعات مواجهات متوقعة بين استونيا وجارتها إلى الشرق: "روسيا الاتحادية".
في كينيا استقالت السفيرة الأمريكية من نيروبي، وهي التي تشرف على ممثلية الولايات المتحدة في الصومال، احتجاجاً على تراجع السياسة الأمريكية في اعتماد حقوق الانسان كأولوية في تلك المنطقة. قبلها بأشهرٍ قليلة، استقال السفير الأمريكي في "بنما" لصعوبة القيام بمهمته، وعجزه عن التنسيق للعمل تحت دبلوماسية إدارة "ترامب".
(8) ثمّة إشكالية في أسلوب "الدبلوماسية الرئاسية"، التي يتبعها الرئيس الأمريكي، أفضت إلى حقيقة لا لبس فيها ، إذ أن اختصار إعلان المواقف السياسية بإطلاق التصريحات المختزلة، عبر "التويتر" و"الفيسبووك"، أو تبادل الأحاديث عبر الهواتف الذكية، يخصم مباشرة من الدبلوماسية المهنية ومن رصانة أدائها المؤسسي، ويضعف عموماً، دورها الاستشاري والتنفيذي. غير أن الصورة أكثر تعقيداً ممّا قد يبدو، إذ أن ذلك التنسيق وتلك الممارسات، قد تشكّل تجاوزاً لافتاً لما أقرته الاتفاقيات الدبلوماسية والقنصلية التي اعتمدها المجتمع الدولي في فيينا، منذ ستينات القرن الماضي ، والتي عنيت بضبط الممارسات والأساليب الدبلوماسية. إزاء التطور الواقع في وسائل التواصل الاجتماعي، ونحن نوشك أن نطوي العقد الثاني في الألفية الثالثة، فإن الأوجب أن تتم زيارة هاتين الاتفاقيتين، بغرض المواءمة بينها والتطور الذي وقع في أساليب الإتصال والتواصل بين الشعوب والحكومات ، وهو عصب العمل الدبلوماسي المعهود. على الاتفاقيات الدولية أن تعتمد المتغيرات التي استجدت ، وأن تعمل على استحداث معايرة للـ"دبلوماسية الرئاسية" المباشرة التي يتبعها بعض رؤساء الدول في التواصل مع شعوبهم ومع الأمم والبلدان الأخرى. إن "الدبلوماسية الرئاسية " إن اعتمدت دون معايير
وضوابط، فإنها مفضية إلى اضطراب لن يفيد العلاقات الدولية في شيء، بل ربما أحدث خسارات وتناقضات وخصومات . . 5 يوليو 2018