الدستور- الفردوس المفقود..!!

 


 

 

بذل انقلابيو الثلاثين من يونيو جهداً كبيراً للحصول على شرعية دستورية تقيهم رفض الشارع، أولئك الانقلابيون الناحرون لثالث تجربة ديمقراطية كان بالإمكان أن تكون مخرجاً من الدائرة الخبيثة - انقلاب ثم حكم مدني فانقلاب آخر، فمنذ اليوم الأول لذلك الانقلاب المشؤوم قبل ثلاثة وثلاثين عاماً، طفق العرّاب أستاذ القانون الدستوري يقدم ما تفتقت عنه عبقريته الأكاديمية، فصنع أول برلمان ممن يوالونه ويبصمون على مشروعه بالأصابع العشرة، فبدأ بذلك البرلمان التأسيسي الذي واكب حقبة (الجهاد المقدس)، ثم رأى أن لابد من إشراك بعض القوى المناوءة، واخترع ما أطلق عليه اسم (التوالي السياسي)، فنجح في استقطاب بعض القوى القديمة التي غضت الطرف عن جريمة الانقضاض على الشرعية، لكن جاءت الخاتمة كأسوأ مما تصوره العرّاب، ولو غيض الله للقوى الحزبية القديمة الاعتبار من الإخفاق الكبير الذي حل بالانقاذيين - نسبة إلى الثورة المزعومة – الانقاذ الوطني (انقلاب يونيو العسكري)، القوى المتعايشة مع الطغيان والتي ليست بأي حال من الأحوال بأفضل من الجبهة الاسلامية صاحبة أطول فترة حكم غير شرعي، استمد وجوده من ضعف وهشاشة بنية الدولة، لو غيض الله لها الاعتبار لاعتبرت بتجربة العيش في الظلام التي جرّبها الانقاذيون لأكثر من ربع قرن، لكنه الفشل النخبوي الشامل والساحق والماحق – الخطيئة التي لم يسلم منها أحد من رماة الأحجار.
عندما يستوطن سرطان الطغيان جسد الأمة لأزمنة طويلة، فإنّ ذلك يعتبر مدعاة لإنتاج طبقة معتبرة من القانونيين والقضاة والمحامين المناصرين للجبابرة والمتماهين مع الطغاة، وتخرج إلينا نماذج من ملّاك مكاتب المحاماة ووكلاء النيابات ورؤساء المحاكم الذين لا تكبحهم كوابح القانون والدستور والأخلاق، وتطل علينا شخصيات تدّعي الخبرة وامتلاك التجربة العملية في هذا المجال، لكنها لاتنفك توالي الأنظمة الدكتاتورية فتنحاز لرموز فسادها وتدافع عنهم دفاعاً مستميتاً لا حياء فيه، مثل هؤلاء الخبراء المدجنين الخاضعين لإرهاب الجبروت، لا ولن يصنعوا دستوراً حراً ومستقلاً تتناغم روحه مع نبض الشارع ويواكب تطلعات السكان، ولقد شهدنا أمثلة كثيرة وعديدة لمثل هؤلاء (الجهابذة) الحاملين للإجازات العلمية العليا، كيف أنهم سهروا يطرزون الدساتير والقوانين المستجيبة لهوى وهوس ورغبة الطاغية، حتى تهكم عليهم ظرفاء المدينة فوصفوهم بالخيّاطين (الترزية) الذين يطرّزون دستور الدولة كتطريزهم للثوب الفخيم الذي يتناسب مع طول وحجم ووزن الطاغية، فيرتديه ليتباهى به هذا الحاكم الظالم في صولاته وجولاته أمام الفقراء والبائسين، فلا عجب ولا عجاب لو سمعت أو رأيت رجلاً قانونياً (ضليعاً) قد بلغ من العمر عتيّا، وهو ما يزال ينافح من أجل تمكين الظالم عبر مرافعات مدفوعة الأجر، فالدستور هو روح الأمة، إذا صلح نظرياً وتطبيقياً فاز الناس بدولة عرضها الرفاهية وطولها الازدهار، وإذا فسد أحد الركنين (النظرية أو التطبيق) فقد فسدت الأمة بأكملها وما عليك إلّا أن تقيم لها مأتماً وعويلا.
الثورة فعل شامل يطال جميع مناحي الحياة، فإن لم تجتاج أعمدة وركائز الدساتير القديمة المكرّسة للطغيان، لن تحقق مثل هذه الثورة أي هدف من أهدافها، لتقصيرها في حسم عامل جوهري ومحوري من محاور نجاح الثورات، فإنّ ثورة ديسمبر المجيدة قد أهملت هذا الاستحقاق المركزي والأساسي أيّما إهمال، والذي يمثل الأولوية الأولى، حتى من قبل أولوية البت في تفكيك التمكين الحزبي الذي أسس له الإنقاذيون، لقد دخل وزير العدل نصر الدين عبد الباري إلى الوزارة في العهد الأول للفترة الانتقالية، ثم خرج بعد انقلاب الخامس والعشرين من اكتوبر العام الماضي، وطيلة فترة وجوده بالمكتب لم نسمع له جعجعة، كما أننا لم نر طحيناً خارجاً من باب وزارته، فالثورات لا تعرف التردد والتأني ولا التأرجح والتذبذب، بالأخص فيما يتعلق بتغيير الدساتير والقوانين التي أسست للظلم الذي كان سبباً لاندلاع الثورة نفسها، فبعدما أن تم إسقاط رأس النظام الإنقاذي، ما فتئت الحيرة تتملكني حينما أقرأ أو أسمع نصاً قانونياً يستند في مرجعيته لقوانين مستمدة من دستور الإنقاذ، ما كان يجب أن تفعله الثورة بعد إزالة رأس الإنقاذ هو البت في إلغاء الدستور القديم وإصدار الدستور الانتقالي الجديد، وبسرعة فائقة، وكبح تنطعات وتخرسات الفلول بتفعيل قانون القوات المسلحة، والشروع المباشر والسريع والناجز في محاكمة العسكريين الذي حنثوا بقسم حماية الدستور وانقلبوا على الشرعية في آخر يوم من أيام شهر يونيو 1989م.

اسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com
15 سبتمبر 2022

 

آراء