الدعوة إلى الوصاية الدولية و”شفقة” كبار العلماء والصحفيين !!

 


 

 

لا حجر على أحد ليدعو إلى ما يشاء. لكن من غير المقبول أن يدعو شخصٌ إلى شيء غير موجود أو غير ممكن أصلاً. على سبيل المثال، يمكن لشخص أن يدعو الناس إلى تربية النمور في منازلهم. هذه دعوة خطيرة، بلا شك، لكن موضوع الدعوة ممكنٌ نظرياً. أما أن يدعو شخصٌ إلى تربية العنقاء في المنازل، فهذه الدعوة ليست خطيرة ، بل فطيرة، لأن موضوعها غير ممكن، ولن يكون نتاج هذه الدعوة إلا دفع الناس إلى اعتراك ما أقلّ حاجتهم إليه!
والدعوة إلى الوصاية على السودان هي شيء من هذا القبيل: بحث عن العنقاء، ومعركة في غير معترك!
ببساطة: لا توجد وصاية دولية ممكنة الآن في الأمم المتحدة والقانون الدولي!
ولعلّ من يدعون إلى فرض وصاية دولية على السودان يفهمون كلمة "وصاية" على هواهم وأوهامهم، وليس على حسب تعريف هذا المصطلح في القانون الدولي.
عندما تأسست عصبة الأمم أنشأت نظام الانتداب. وهو في جوهره استعمار تحت اسم ملطَّف. ثم لمّا خلفتها هيئة الأمم المتحدة ابتكرت نظام الوصاية، ونصّ عليه ميثاقُها، في فصليه الـ12 والـ13، ليكون بديلاً عن الانتداب في إدارة المناطق والأقاليم. وتتولى إدارةَ الإقليمِ الموضوع تحت الوصاية إحدى الدول "الاستعمارية السابقة"، ويطلق عليها اسم "السلطة القائمة بالإدارة" (Administering Authority). ويجوز أن تكون هذه السلطة أكثر من دولة واحدة أو هيئة الأمم المتحدة نفسها. والغرض المعلن من نظام الوصاية هو النهوض بالأقاليم المعنية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وصولاً بها إلى الحكم الذاتي وتقرير المصير أو الاستقلال.

وهكذا يتضّح لنا أنّ "الوصاية الدولية" مصطلح سياسي قانوني دولي، يعني خضوع إقليم معين لإدارة إحدى الدول، طبقا لشروط خاصة يتضمنها "اتفاق الوصاية" الذي يعقد بين الإقليم والسلطة القائمة بالإدارة ويُنفَّذ تحت إشراف "مجلس الوصاية" التابع للأمم المتحدة.
وجاء نظام الوصاية الدولية لتسوية أوضاع المستعمرات وفقا لشرعية قانونية أممية تنتهي إلى تقرير المصير، الذي غالباً ما يفضي إلى الاستقلال. وهكذا فإن نظام الوصاية الدولي يطبق، بالضرورة، على أقاليم غير مستقلة، أي "ناقصة السيادة"، وتندرج حصرياً في ثلاث فئات، هي:
(1) الأقاليم التي كانت تحت الانتداب.
(2) الأقاليم المقتطعة من دول "مهزومة" في الحرب العالمية الثانية.
(3) الأقاليم التي تضعها تحت الوصاية دولٌ مسؤولة عن إدارتها.
والمصطلح الإنجليزي المقابل لنظام الوصاية هو "trusteeship system" الذي جاء بديلاً لمصطلح "mandate"، أي الانتداب (الانتداب البريطاني لفلسطين، مثلاً، British Mandate for Palestine). ويوجد في القانون مصطلحان آخران بالإنجليزية يترجم كلاهما إلى "وصاية"، هما tutorship وguardianship، ويشيران إلى وصاية شخص على أملاك شخص آخر لأسباب تستوجب ذلك.
وقد نالت جميع الأقاليم المشمولة بالوصاية استقلالها أو الحكم الذاتي. وآخر هذه الأقاليم نيلاً لاستقلالها وانضماماً إلى الأمم المتحدة بالاو في عام 1994. أما تيمور ليتشي فقد خرجت من الوصاية البرتغالية عام 1975، لتقع تحت الاحتلال الإندونيسي، إلى أنْ نالت استقلالها في 2002.
إذن فقد أدى نظام الوصاية مهمته التاريخية، ولم تعد هناك أي أقاليم مدرجة على جدول أعماله، كما لم تعد هناك أقاليم تندرج ضمن الفئات الثلاث المذكورة أعلاه ليتعامل معها. وتنص المادة (78) من الميثاق على أن نظام الوصاية لا يطبق على الأقاليم التي أصبحت أعضاء بالأمم المتحدة، إذ إنّ العلاقات بين أعضاء الهيئة الأممية يقوم على احترام مبدأ المساواة في السيادة.

بناءً على كل ما سبق، إذا ذهب شخص (شفقان على بلده من أبنائه) إلى الأمم المتحدة وطلب منها وضع بلده تحت الوصاية، فإن هذا الشخص تنطبق عليه أمور ثلاثة:
أولا: أنه يجهل معنى الوصاية المستخدم في القانون الدولي والأمم المتحدة
ثانياً: أنه يجهل أن الوصاية لا تطبق على دولة ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة
ثالثا: أنه يطلب تغيير وتعديل ميثاق الأمم المتحدة (ودون ذلك خرط القتاد)

من المؤسف أننا نتعامل مع اللغة والمصطلحات بتسيِّب مخلِّ ومضر. وأول الانضباط العلمي ضبط اللغة والمصطلحات. ولعلَّ هؤلاء الذين يدعون إلى الوصاية الأممية يريدون شيئاً في خيالاتهم وأوهامهم، وليس شيئاً منصوصاً عليه في ميثاق الأمم المتحدة. وليس في الأمم المتحدة حركة أو سكون إلا وفق شريعة الميثاق. ولعلّ هؤلاء يعتبرون الفصل السابع وصاية. فإن كان الأمر كذلك، فإنهم يستخدمون المعاني المجازية في سياق قانوني يستوجب التحديد والانضباط. الفصل السابع هو الفصل السابع، ولا يسمى وصاية، إذ إنّ الدول التي يُطبَّق عليها هي دول ذات سيادة. إذن فإن كانت هناك من يريدون المطالبة بتطبيق الفصل السابع فليسمّونه باسمه، ولا يمكن أن يطلقوا عليه وصاية بمزاجهم، فللوصاية معناها الذي لا يتزحزح.
ولذلك نقول لمن يطرقون باب الأمم المتحدة، إشحذوا مصطلحاتكم، وزنوا كلماتكم بالقسطساس المستقيم. واقرؤوا الميثاق واطلبوا شيئاً موجوداً في واحد من فصوله ومواده. ونرجوكم، لا تتمنّوا، ولا تسموا الأشياء بغير أسمائها!
حفلت الأسافير، في فترات متعاقبة، بمقالات دبّجها، بمنتهى "الشَفَقة"، بروفسور مخضرم من جامعة الخرطوم، يدعو فيها إلى وضع السودان تحت الوصاية الدولية.
وفي هذا المقال، أستخدم كلمة "شفقة" بمعناها غير التقريظي في العامية السودانية.
يطلب البروفسور وضع السودان تحت وصاية الغرباء "شفقةً" عليه من بنيه!
وكما هو متوقع بالضبط: انقسم الناس كعادتهم!
يا إلهي! وكأن في السودان بحاجة إلى أمر إضافي ليزيدهم انقساماً ورَهَقا!
وانبري صحفي كبير ليعارض دعوة البروفسور الكبير.
لم يقل له إن العنقاء غير موجودة، بل طالب بقتل العنقاء في مهدها!

وفي ختام هذا المقال، أنقلكم إلى مدينة برام، حيث تقول الحكاية إنَّ بدوياً جاء إلى المدينة بمعية ابنه، فدخلا إلى المطعم، وسأل الابن الجرسون:
- عندُكُو (عندكم) "دُنْقُل دافي"؟ (والدنقل الدافي هو العصيدة الحارة)
رد الجرسون:
- كو (لا)! عندنا فول، بلدي، لحمة بالصلصة، كبدة حلة، كبدة طوة، كباب طوة، كباب حلة، بيض عيون، بيض جفون...
فقاطع الأب الجرسون وقال لابنه: كَنْ مافي دنقل دافي، خلي يجيب لينا شاهي حافي!

ولذلك نقول للمطالبين بالوصاية والرافضين لها: اشربوا شاهي حافي!

elrayahabdelgadir@gmail.com

 

آراء