الدندر في طابور الجوع
17 October, 2009
كل من تربي و ترعرع علي ضفاف نهر الدندر يعرف خصوبة تلك الأرض و طيبتها و خيراتها الوفيرة. ما ان تهطل الأمطار - وهي كانت تفعل كل عام و بغزارة- تمتلئ السهول و الوديان بالنباتات و الأعشاب من كل نوع و لون و تزدهي الغابات و يمتلئ الهواء بعطر الريحان الفواح. تمتليء الحيوانات و الكائنات و تشبع و تموت من الشبع او الوحل في المياه من كثرتها. الناس يزرعون المحاصيل من كل نوع و الخضروات و الفواكه و ينتجونها حتي تضيق بها الأرض و الأسواق. في الخريف تتغير الارض و حياة الناس تنتشر نباتات " التبر " و تتفتح زهورها البيضاء حتي يصبح منظرها مثل الليالي الشتوية في روسيا و كندا. الناس يمكنهم الاستفادة مباشرة من الطبيعة في طعامهم فخضروات مثل " الخدره " أي الملوخية و الرجلة و الورق و التمليكا تقوم مباشرة في البقاع خضراء نضرة نظيفة ، اما الويكة و البامية فيتم حصادها في نهاية الخريف بكميات "تجارية" يمكن ان تصدر الي اي مكان اذا توفرت لها البنيات و البيئة الصالحة. لا يتوقف الامر علي ما ذكرنا و انما هناك ثروات حيوانية و غابية بلا حدود حسب المناخ و الموقع و البيئة. ما ان تخرج من القري المنكوبة بالجوع اليوم حتي تقابلك الأرانب و ابو شوك و غيرها الكثير من الحيوانات البرية و تخلعك طيور " الفر " بوثباتها المفاجئة. اما في الغابات فتمتلئ الميع بالمياه لشهور بعد انتهاء فصل الخريف و تغطي مياهها أوراق الستيب الوريقة. عندما تذهب بعيدا عليك ان تتسلح من الحيوانات الضارية مثل الأسود و النمور و الذئاب و أن تعرف كيف تحمي نفسك من لسعات النحل الذي تنتشر خلاياه في كل مكان و تقف الان حظيرة الدندر "المحمية" شاهدا علي الثروات المندثرة.
منذ ثمانينات القرن الماضي أصبح المشهد يتغير بفعل الانسان و ليس الطبيعة . الناظر للاراضي هناك يخيل له ان حربا ضروسا قد نشبت هناك ، حرب بين الإنسان و الطبيعة مدفوعة بسياسات الدولة التي تمارس النهب و التجويع و الضغط غير المبرر علي الانسان في حياته حتي ان كلمة سياسة لا تنطبق بشكل من الأشكال علي ما ظلت تقوم به الحكومات المتعاقبة في النشاط الاقتصادي و علاقته بحياة الناس. تمت إزالة الغطاء النباتي و الأشجار و تم التعامل بجور مع الارض في الزراعة و الرعي و في صنع الأخشاب و الفحم بل و قطعها من اجل شق الطرق او لإقامة مشاريع لم تقم ابدا. مع التغيرات المناخية و شح الأمطار في السنوات الأخيرة أصبح الوضع ملائما للتصحر و الجدب. بعد ان صارت الزراعة لا تساوي ثمن التقاوي و البذور و بعد ان أصبحت تربية الماشية عالية التكاليف توقف العديد من الناس عن الزراعة و نزحوا من مواطنهم فتراجعت الزراعة لدرجة أصبحت فيه لا توفر الأعلاف لما تبقي من حيوانات أليفة و ها هي تنفق الان مع كل موجة جفاف الا من استطاع أصحابها تقاسم القوت و المأوي و الماء معها. رغم كل الثراء و الطبيعة المواتية تقف الان منطقة الدندر باجمعها و ليس مجموعة قري فقط ، تقف في صف الجوعي و المتسولين من فقر لا مجير منه.
لم تكن صيحة الدكتور منصور يوسف العجب الا صيحة نائب نشط قلبه علي اهله ، عرف عنه مناصرة الفقراء و التعساء في ظاهرة نادرة الحدوث و سط جوقة السياسيين و المثقفين المتلفحين برداء السلطة الواقي ، رسمية كانت او اهلية. دق د. منصور ناقوس الخطر و الذي نرجو ان يخترق الصمم الرسمي و ان يتم الالتفات اليه و العمل علي درء كارثة الجوع و المجاعة الوشيكة. ان ذلك ايها السادة لا يحدث في قري الدندر فقط و انما يمتد شرقا نحو الحصيرة و العطشان و الحواتة و ود الشاعر و قرين و قلع النحل و بية و بلوس و قلبي و المتني و الحوري و قري القضارف و يمتد الي كسلا و البطانة و يتطاول جنوبا نحو النيل الازرق و غربا نحو سنار . ان الجوع هذا العام سيطال الكثيرين في مختلف انحاء السودان فاذا كان هناك من يهمه هذا الامر في المجلس الوطني او الحكومة فليهب الي العمل فليس هناك ساعة اجدر بالعمل من هذه الساعة ، كما ان الجوع لا ينتظر اجازة الموازنات و القوانين و تطبيق الاتفاقيات و المصفوفات و ها هي مصفوفة الفقر تغطي علي اي مصفوفة اخري في بلاد الاتفاقيات و المؤتمرات و المصفوفات هذه.
Dr.Hassan.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]