الدور السياسي في بروز خطاب ما بعد الحداثة
عبد المنعم عجب الفيا
22 June, 2024
22 June, 2024
ترجمة: عبد المنعم عجب الفَيا
مقدمة الترجمة:
هذه ترجمة لمبحث ورد بكتاب عنوانه: (اللغو الجديد: مفكرو ما بعد الحداثة واساءة استخدام النظريات العلمية)*. وضع الكتاب اثنان من أساتذة الجامعات، ينتميان إلى اليسار السياسي، هما: ألن سوكال، أستاذ الفيزياء بجامعة نيويورك، والثاني، جان بركمنت، أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة دي لوفين ببلجيكا.
صدر الكتاب في نسخته الإنجليزية سنة 1998م وأحدث ضجة كبرى، وأثار سجالات ساخنة وممتدة وسط الدوائر الأكاديمية والثقافية والإعلامية، واثنى عليه الكثير من العلماء واساتذة الجامعات والنقاد، ومن أشهر الذين اثوا على الكتاب، عالِم اللغويات والناشط السياسي نعوم تشومسكي.
ويعرِّف المؤلفان ما بعد الحداثة، بأنها ذلك الاتجاه الفكري الذي يناهض مبادئ التنوير الأوربي، ويجافي أسس المنطق العقلاني، ويمتاز بخطاباته التنظيرية التي تقطع الصلة بالاختبار التجريبي، واعتماده مبدأ النسبوية relativism الذهنية والثقافية التي لا ترى في العلم سوى سردية، أو أسطورة، أو بناء اجتماعي، ونحو ذلك". ص 1
ويشرح المؤلفان عبارة عنوان الكتاب: "إساءة استخدام العلم" أنها تتمثل في التمسك بالنظريات العلمية والمصطلحات دون معرفة كافية بها، سوى معرفة سطحية ومتعجلة. واستجلاب المفاهيم والمصطلحات من العلوم الطبيعية، لا سيما الرياضيات والفيزياء، مثل نظرية مكانيكا الكم (الكوانتم)، ونظرية المجموعات الرياضية، ومبرهنة قودال، ونظرية الفوضى في الرياضيات وغيرها وتطبيقها على العلوم الإنسانية والاجتماعية، دون تقديم أي مبرر مفاهيمي أو تجريبي، والميل إلى استعراض التبحر المعرفي الزائف من خلال الزج بالمصطلحات العملية والعبارات التقنية في ثنايا نصوص ليست لها أدنى علاقة بهذه المصطلحات والعبارات، وذلك بقصد ابهار القارئ غير المتخصص وارهابه فكريا.
ويتناول الكتاب بالنقد، مساهمات عدد من المفكرين في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ويخص كل واحد منهم بفصل من الكتاب. ومن هؤلاء: جاك لاكان، وجوليا كرستيفا، وجل ديلوز وفليكس قوتاري، وجان بورديارد، وجان فرانسوا ليوتار، وريجس دوبرييه، ولوسي ريغاري وغيرهم.
وفي سياق انتقاده لبعض قطاعات اليسار التي تبنت خطاب ما بعد الحداثة يقول ألن سوكال، أحد المؤلفين، وأستاذ الفيزياء بجامعة نيويورك: "أقر أنني يساري قديم معتز بيساريته، لا يفهم كيف يفترض في التفكيك، على سبيل المثال، مساعدة الطبقة العاملة". كما أنني عالم قح "يؤمن أنه يوجد هناك، بكل بساطة، عالَم خارجي، وتوجد حقائق موضوعية عن هذا العالم، ومن واجبي اكتشاف هذه الحقائق". ص269
وفي سياق آخر يستشهد سوكال، برأي ألن راين: "إن تبني الأقليات المناضلة، لفكر ميشيل فوكو، يعد بمعنى ما، عملاً انتحاريا، دعك من تبني فكر جاك دريدا. لقد كانت هذه الأقليات تؤمن دائما أن الحقيقة يمكن أن تقهر القوة والسلطة. ولكن يكفي لهزيمة هذه الفكرة، أن تقرأ لميشيل فوكو، أن الحقيقة هي بكل بساطة نتاج القوة والسلطة". ص270
ورد المبحث المترجم بخاتمة الكتاب تحت عنوان "دور السياسة" في نشوء خطاب ما بعد الحداثة (من صفحة 197 إلى صفحة 204 بالنسخة الإنجليزية).
النص المترجم
الدور السياسي في بروز خطاب ما بعد الحداثة
ليست كل منابع ما بعد الحداثة فكرية خالصة. فكل من النسبوية الفلسفية وأعمال الكتّاب التي قمنا بتحليلها النقدي هنا، لها ميول لبعض الاتجاهات السياسية التي يجوز أن توصف أو (تصف نفسها) بأنها يسارية أو تقدمية. كما أن ما أطلق عليه "حرب العلوم" يجوز أن يوصف بأنه صراع سياسي بين التقدميين والمحافظين.
صحيح يوجد هناك تراث ممتد مضاد للفكر العقلاني وسط بعض اتجاهات الجناح اليميني. ولكن الأمر الجديد والمثير للانتباه، في خطاب ما بعد الحداثة، هو أن الفكر المضاد للتفكير العقلاني، قد أغرى بعض قطاعات اليسار أيضاً.
وسوف نحاول أن نبين هنا، كيف حدث الربط اجتماعيا بين اليسار وما بعد الحداثة، وأن نوضح من وجهة نظرنا، كيف أن هذا الربط، منشأه جملة من الأخطاء والإلتباسات المفاهيمية. وسوف نحصر نقاشنا لهذه الظاهرة داخل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يلوح الربط بين اليسار وما بعد الحداثة جلياً.
عندما يناقش المرء تشكيلة من الأفكار، كتلك التي تتألف منها ما بعد الحداثة من وجهة نظر سياسية، من المهم، التمييز بعناية بين القيمة الذهنية الداخلية لهذه الأفكار، والدور السياسي الموضوعي التي يمكن أن تلعبه، والأسباب الذاتية التي تحمل مختلف الناس على الدفاع عن هذه الأفكار أو مهاجمتها.
ما يحدث في كثير من الأحيان أن فئة اجتماعية بعينها، قد تتشارك فكرتين أو مجموعتين من الأفكار، ولنسميها "ا" و "ب". دعنا نفترض أن مجموعة الأفكار "ا" صحيحة نسبياً، والمجموعة "ب" أقل منها صحة. وليس ثمة رابطة منطقية بين الفكرتين. نجد أن الذين ينتمون إلى الفئة الاجتماعية المعينة، يحاولون في كثير من الأحيان التدليل على صحة "ب" باقحام صحة أفكار المجموعة "ا" عليها، والعمل على ايجاد رابطة اجتماعية بين "ا" و"ب". وبالمقابل نجد معارضيهم يحاولون التشكيك في صحة "ا" بالاستدلال بافتقار "ب" إلى الصحة وإلى الرابطة الاجتماعية عينها.
ومن حيث المبدأ يمثل الربط بين اليسار وما بعد الحداثة، مفارقة خطيرة. فعلى مدى القرنين الأخيرين تقريباً، ظل اسم اليسار متماهياً مع العلم وضد الظلامية، مؤمناً بأن التفكير العقلاني والبحث والتحليل بلا خوف في حقيقة الواقع الموضوعي (الطبيعي والاجتماعي)، هي أدوات حاسمة في مقاومة وكشف الغموض المعرفي الذي يتدثر به الأقوياء، دعك من كون أن هذه الأهداف هي غايات إنسانية في حد ذاتها، وحق طبيعي لبني البشر.
ولكن مع ذلك، نجد أعداداً من الأكاديميين اليساريين والتقدميين من المتخصصين في العلوم الإنسانية والاجتماعية (وليس العلوم الطبيعية بقطع النظر عن ميولهم السياسية) قد حادوا بعيداً على مدى العقدين الماضيين، عن إرث التنوير العقلاني، وبإيعاز من الاتجاهات الفكرية المستوردة من فرنسا كالتفكيك، وبدافع من المبادئ ذات المنشأ المحلي الأمريكي كنظرية المعرفة التي تستند إليها الحركة النسوية، أخذوا يعتنقون هذه النسخة أو تلك من النسبوية المعرفية.
وهدفنا هنا هو فهم أسباب هذا التحول التاريخي. وسوف نحدد ثلاثة أنواع من المصادر الفكرية التي ارتبطت بانبثاق ما بعد الحداثة داخل اليسار السياسي.
1. الحركات الاجتماعية الجديدة:
شهد عقدا الستينات والسبعينات (من القرن العشرين) صعود حركات اجتماعية جديدة من بينها، حركة تحرير السود، والحركة النسوية، من بين حركات أخرى. وتهدف هذه الحركات جميعها إلى النضال ضد أشكال الاضطهاد التي أهملت على نطاق واسع في الماضي من قبل اليسار السياسي التقليدي. وقد خلصت بعض الاتجاهات داخل هذه الحركات، في الآونة الأخيرة، إلى أن ما بعد الحداثة، هي الفلسفة الأكثر ملاءمة، بصورة أو أخرى، لتحقيق تطلعاتها.
وهنا تبرز قضيتان ينبغي اخضاعهما للنقاش. القضية الأولى ذات بعد مفهومي، وهي ما إذا كانت هناك رابطة منطقية من أي نوع بين هذه الحركات الاجتماعية وما بعد الحداثة. والقضية الثانية ذات بعد اجتماعي، وتتعلق بالسؤال: إلى أي مدى، يؤمن أعضاء هذه الحركات بما بعد الحداثة، وما هي الأسباب الباعثة على ذلك؟
لا شك أن أحد العوامل التي قادت الحركات الاجتماعية الجديدة إلى ما بعد الحداثة، هو عدم قناعتها بالأصول الفكرية القديمة لليسار. لقد كان اليسار التقليدي سواء في الماركسية أو في الاتجاهات المغايرة غير الماركسية، ينظر إلى نفسه، على وجه العموم، بوصفه الوريث الشرعي لتركة التنوير والحاضنة للعلم والعقلانية. غير أن ربط الماركسية الصريح بين المادية الفلسفية والنظرية التاريخية، قد أعطى الأولوية حصرياً، في بعض التفسيرات، للاقتصاد والصراع الطبقي. وهذا الضيق الواضح لهذا المنظور، قاد بعض التيارات داخل الحركات الاجتماعية الجديدة إلى رفض، أو على أقل تقدير، إلى فقدانها الثقة في العلم وفي العقلانية.
ولكن هذا خطأ مفهومي، يعكس الخطأ المفهومي الذي وقع فيه اليسار الماركسي التقليدي ويتماثل معه. والواقع أن النظريات الاجتماعية والسياسية لا يمكن أبداً استنباطها منطقياً من المشاريع الفكرية المجردة. وبالمقابل لا يوجد وضع فلسفي فريد يمكن أن يتطابق مطابقة تامة مع برنامج اجتماعي سياسي بعينه.
ويجوز القول على نحو أكثر تحديداً، ليس ثمة رابطة منطقية بين المادية الفلسفية وبين المادية التاريخية الماركسية. وعلى وجه التحديد المادية الفلسفية كما سبق أن لاحظه برتراند راسل، تلائم الفكرة القائلة إن التاريخ يجري تحديده في الأساس، بالدين أو الجنس البشري أو المناخ (وهو ما يتعارض مع المادية التاريخية). وبالمقابل يمكن أن تكون العوامل الاقتصادية هي المحدد الأول للتاريخ البشري حتى ولو كانت "الأحداث" العقلية مستقلة على نحو كاف عن الأحداث الفيزيائية، لتجعل المادية الفلسفية خاطئة.
ويجمل راسل القول: "يجب أن ندرك الوقائع على هذا النحو في بعض الأوقات، وإلا سوف نجد أن النظريات السياسية، تُؤيَد وتُعارض، لأسباب لا تمت إليها بصلة، ونجد أن الحجج الفلسفية تستخدم للفصل في مسائل تعتمد أصلاً على الوقائع الملموسة للطبيعة الانسانية. ولذا من المهم تفادي هذا الخلط حتى لا يؤدي إلى تقويض الفلسفة والسياسة على السواء".
إن العلاقة السيسيولوجية بين ما بعد الحداثة والحركات الاجتماعية الجديدة، علاقة معقدة إلى حد بعيد وتتطلب تحليلا عميقا وكافيا، يقوم على أقل تقدير، بفرز الاتجاهات المختلفة التي تشكل في مجملها ما بعد الحداثة لأن الرابطة المنطقية بين هذه الاتجاهات ضعيفة جداً، والتعامل مع كل حركة من هذه الحركات الجديدة على انفراد، لأن تاريخ كل حركة مختلف عن الأخرى، وتصنيف التيارات داخل الحركة الواحدة، وإبراز الدور المناط بالنشطاء والمنظرين القيام به في كل حركة. وهذه القضية تحتاج إلى تحقيق تجريبي حذر (هل نجرؤ على قول ذلك؟) نتركه لعلماء الاجتماع وعلماء التاريخ المفكرين. ولكن دعنا مع ذلك نحرز ونجازف بالقول إن ولع الحركات الاجتماعية الجديدة بما بعد الحداثة، يسود في الغالب في الأوساط الأكاديمية وهو في الواقع أوهن بكثير من الصورة التي يعرضها به كل من اليسار ما بعد الحداثي واليمين التقليدي.
2. الاحباط السياسي:
المصدر الآخر لأفكار ما بعد الحداثة هو الوضع المحبط وحالة التوهان الفكري العام لليسار وهو وضع يبدو أنه فريد في تاريخ اليسار. فقد تهاوت الأنظمة الشيوعية في العالم، وأخذت الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية، التي لا تزال في الحكم، بتطبيق سياسات الليبرالية الجديدة بكل حذافيرها. وحركات التحرر الوطني في العالم الثالث، بعد أن قادت أوطانها إلى الاستقلال، تقاعست عن مواصلة جهود البناء والتنمية بالاعتماد على الذات. وباختصار يمكن القول إجمالاً إن الصيغة الفظة من رأسمالية السوق الحر، غدت واقعاً غير قابل للاستبدال في المستقبل المنظور، وأصبحت المثل العليا للعدالة والمساواة، "يوتوبيا" بعيدة المنال، أكثر من أي وقت مضى.
ودون الدخول في مناقشة الأسباب التي قادت إلى هذا الوضع دعك من اقتراح حلول، يسهل جداً إدراك حقيقة أن هذا الوضع، قد أفرز حالة من الاحباط، عبرت عن نفسها جزئياً في ما بعد الحداثة. وكان عالِم اللغات والناشط السياسي، نعوم تشومسكي، قد قدم وصفاً بلغياً لهذه الحالة:
"حين تحس احساسا فعلياً بأنه قد صار من الصعب عليك، التعامل مع مشاكل الواقع تعاملاً عملياً، فهناك أكثر من طريقة للتهرب من فعل أي شيء. إحدى هذه الطرق هي أن تشرع في مطاردة "بطة برية" بلا طائل. وهناك طريقة أخرى، وهي أن تنغمس في طقوس الحياة الأكاديمية المنعزلة عن الواقع، والتي توفر لك دفوعات نفسية ضد التعامل مع العالم الخارجي كما هو على الأرض. وفي حياتنا المعاصرة، توجد نماذج كثيرة على هذه الشاكلة بما في ذلك بين اليسار. وقد شاهدت بنفسي منها صور محبطة في مصر، أثناء زيارتي لها قبل بضعة أسابيع، بغرض تقديم ندوات عن الشؤون الدولية. هناك يوجد وسط ثقافي نشط ويتمتع بمستوى عال من التحضر، وبه أناس شجعان جداً، قضوا سنوات في سجون عبد الناصر، حيث اخضعوا للتعذيب حتى الموت، ومع ذلك خرجوا وهم متمسكون بالنضال. على مستوى العالم الثالث يوجد الآن شعور بالغ بالاحباط واليأس. فأولئك الناس تلقوا تعليماً جيداً، وتربطهم صلات قوية بأوربا، ولكنهم صاروا منغمسين بالكلية في صرعات lunacies باريس الثقافية، مكرسين كل جهدهم لها. فعلى سبيل المثال متى ما هممت بالحديث عن مشاكل الواقع الراهنة، يطلب مني الحضور، حتى في معاهد البحوث التي تعنى بالقضايا الاستراتيجية، أن أحولّ الموضوع للحديث عن جعجعة ما بعد الحداثة. فبدلا عن أن اتحدث عن تفاصيل سياسات الولايات المتحدة الأميريكية الراهنة في الشرق الأوسط، حيث يعيشون، وهو ما يرونه مملاً وغير مثير للاهتمام، يريدون أن يعرفوا مني ما هو النموذج "برادايم" الجديد، الذي يطرحه علم اللغويات الحديثة حول الخطاب المتعلق بالشؤون الدولية، والذي يمكن أن يحل محل النص ما بعد البنيوي. هذا هو ما يسحرهم حقاً، وليس ماذا قرر مجلس وزراء اسرائيل في شأن التخطيط الداخلي. هذه الحالة مثيرة للإحباط حقاً".
( تشومسكي،1994، ص 163-164).
وهكذا وبهذه الطريقة، تتعاون بقايا اليسار على دق آخر مسمار في نعش أفكار العدالة والتقدم، ونحن نقترح وبكل تواضع، أن تترك فتحة صغيرة في النعش لتمرير الهواء، أملاً في أن تستيقظ الجثة ذات يوم.
3. العلم كهدف سهل:
في هذا الجو من الاحباط العام، يضحى مغرياً أن تصوِّب الهجوم على شيئ له ارتباط كاف بالسلطة، بالقدر الذي لا يبدو معه مثيرا للشفقة، لكنه ضعيف بما يكفي ليسهل استهدافه بطريقة أو أخرى (ما دام تركيز التصويب نحو السلطة والمال بعيد المنال). ولما كانت هذه الشروط متوفرة في العلم، فهذا يفسر جزئيا أسباب الهجوم عليه.
ولكي نحلل أشكال هذا الهجوم، يجدر بنا أن نميز بين أربعة معاني، على أقل تقدير، لكلمة علم. فالعلم هو جهد فكري يهدف إلى فهم العالم فهماً عقلانياً، وهو حصيلة مقبولة من الأفكار النظرية والتجريبية، وهو شريحة مجتمعية ذات مؤسسات بحثية على اتصال بالمجتمع العريض. وأخيراً العلم هو العلوم التطبيقية والتكنولوجيا (والأخيرة كثيرا ما يُخلط بينها والعلم). وما يجري دائما أن كل نقد مشروع موجه للعلم في معنى من هذه المعاني، يؤخذ كحجة على العلم في معنى مختلف من المعاني المذكورة.
ولذا لا سبيل للإنكار أن العلم بوصفه مؤسسة اجتماعية، مرتبط بالسلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وان الدور الاجتماعي الذي يلعبه العلماء ينطوي في كثير من الأحيان على نتائج ضارة. وكذلك يصح القول إن للتكنولوجيا نتائج مزدوجة أيضاً، وأحيانا نتائج كاريثية، ونادراً ما تثمر عن الحلول الإعجازية التي ظل يعد بها أنصارها المتحمسون على الدوام. وأخيراً إن العلم بوصفه تجسيداً للمعرفة، عرضة للوقوع في الأخطاء، وأحياناً تكون هذه الأخطاء، نتاج لكل أنواع تحيزات العلماء الاجتماعية والسياسية والفلسفية، بله والدينية.
وعلى كل حال، نحن مع النقود المعقولة للعلم، في كل مستوياته المذكورة، وعلى وجه الخصوص تلك التي تنتقد العلم بوصفه تجسيداً للمعرفة، ولا سيما النقود الأكثر اقناعا والتي تتبع معايير نموذجية. فعلى المرء أن يدلل ومن خلال استخدام الحجج العلمية المتعارف عليها، لماذا هذا البحث محل المناقشة، جاء معيبا استناداً إلى القوانين العلمية الموثوقة والمعتمدة. ثم بعد ذلك وليس قبله، تأتي الخطوة الثانية ليشرح النقد كيف أن تحيزات الباحثين الاجتماعية (والتي قد تكون بغير وعي منهم) قد أدت إلى إخلالهم بالقوانين والضوابط العلمية. وقد يكون مغرياً للمرء أن يقفز مباشرة إلى الخطوة الثانية، ولكن النقد في هذه الحالة يفقد الكثير من قوته.
ولكن للأسف بعض الانتقادات الموجهة للعلم، تذهب أبعد من مهاجمة الجوانب السيئة (العسكرية على سبيل المثال) لتطال أفضل ما في العلم من خصائص وميزات وهي، محاولة فهم العالم فهماً عقلانياً واعتماده المنهج العلمي بوصفه علامة على احترام البرهان التجريبي والتحليل المنطقي.
ومن السذاجة الظن أن الموقف العقلاني ليس هو المستهدف في ذاته حقاً من قبل ما بعد الحداثة. ذلك أن الهجوم على هذا الموقف يعد هدفاً سهلاً، لأن أي محاولة من هذا النوع، سرعان ما تجد عدد من الحلفاء يرحبون بها، ومن أولئك الذين يعتقدون في خوارق الطبيعة سواء كانوا من التقليديين (الأصولية الدينية على سبيل المثال) أو من "العصر الجديد" New Age. وإذا أضفنا إلى ذلك، الخلط السطحي بين العلم والتكنولوجيا، فإننا نجد مقاومة شعبية للعلم، ولكنها ليست تقدمية على وجه الخصوص.
وأما أولئك الذين يمسكون بزمام السلطة السياسية والاقتصادية، فمن الطبيعي أن يسروا من الهجوم على العلم والتكنولوجيا على السواء، فهذا الهجوم يساعد على إخفاء علاقات القوة التي تستند إليها سلطاتهم. إن اليسار ما بعد الحديث، بمهاجمته للعقلانية، قد حرم نفسه، من أداة فعالة في نقد النظام الاجتماعي السائد. وهو ما سبق أن لاحظه تشومسكي قبل فترة ليست بالبعيدة بقوله:
"كان مثقفوا اليسار في الماضي، يمثلون قطاعاً فاعلاً في الحياة الثقافية للطبقة العاملة. بعضهم كان يسد حاجة هذه الطبقات إلى المؤسسات الثقافية، بتنظيم برامج لتعليم العمال وتثقيفهم، أو بتأليف أفضل الكتب مبيعاً في الرياضيات والعلوم والموضوعات الأخرى لمنفعة الجمهور. أما اليوم فنجد نظرائهم في اليسار، يعملون على حرمان جماهير العمال من أدوات التحرر هذه، زاعمين لنا أن "مشروع التنوير" قد مات، وعلينا التخلي عن "أوهام" العلم والعقلانية. وهي رسالة ستدخل البهجة إلى أعماق قلوب الأقوياء، فيقبلون وهم سعداء على احتكار هذه الأدوات وتوظيفها لخدمة مصالحهم". (تشومسكي،1993،ص 286).
وأخيراً دعنا ننقاش بايجاز الدوافع الذاتية لمعارضي ما بعد الحداثة. هناك دوافع كثيرة غير أن ردود الأفعال التي أثارتها مقالة "سوكال" (أحد مؤلفي الكتاب–المترجم) التهكمية parody يتوجب علينا تناول هذه الردود بشيء من الكياسة. فكثير من الناس يكتفون بالتعبير عن ضيقهم بغطرسة كتّاب ما بعد الحديثة، وجعجعة خطاباتهم الفارغة، ومنظر أولئك المثقفين وهم يرددون فيما بينهم عبارات لا يفهما أحد. وغني عن الذكر أننا نشاطر هؤلاء نظرتهم ولكن مع بعض الإضافات.
غير أن هناك ردود أخرى لا تبعث على السرور، وهي أبلغ دليل على الخلط بين الروابط المجتمعية والروابط المنطقية. فعلى سبيل المثال، عرضت صحيفة نيويورك تايمز "مسألة سوكال" بوصفها سجالا بين المحافظين الذين يؤمنون بالموضوعية، كهدف على أقل تقدير، وبين اليساريين الذين ينكرونها. ولكن من الواضح أن المسألة أعقد من ذلك. فليس كل من يقفون في اليسار السياسي، يرفضون الموضوعية كهدف (بغض النظر عن درجة تحقق هذه الموضوعية) فضلا على أنه لا توجد بأية حال، علاقة منطقية بسيطة، بين الآراء السياسية ووجهات النظر المعرفية. وقد ذهب بعض المعلقين إلى ربط هذه المسألة بالهجوم الذي يشن في العادة، على دعوات التعددية الثقافية والتصحيح السياسي. ولما كان الرد المفصل على هذا التعليق يحيلنا الى حقول معرفية عديدة ، فإننا نكتفي هنا بالتأكيد على أننا لسنا ضد الانفتاح، بأية حال، على الثقافات الأخرى، ولسنا ضد احترام حقوق الأقليات التي تكون عرضة دائما للحط من قدرها في هذا النوع من الهجوم.
هل هذا يهم؟
ربما يتساءل البعض لماذا نهدر وقتنا في الحديث عن سوء استخدامات ما بعد الحداثة؟ هل تمثل ما بعد الحداثة خطرا حقيقياً إلى هذه الدرجة؟
الإجابة قطعاً لا، بالنسبة للعلوم الطبيعية لا تمثل ما بعد الحداثة، أي خطر على الأقل في الوقت الراهن. المشاكل التي تواجهها اليوم، العلوم الطبيعة، في المقام الأول، هي مشكلة تمويل البحوث العلمية، وعلى وجه الخصوص الخطر الذي يتهدد الموضوعية العلمية حينما يتزايد إحلال القطاع الخاص محل القطاع العام لتمويل هذه البحوث. وهذه مشكلة لا شأن لما بعد الحداثة بها. إنما العلوم الاجتماعية هي التي تعاني من التأثيرات السلبية لخطاب ما بعد الحداثة إذ يحل اللغو "الموضوي" واللعب بالكلمات، محل النقد والتحليل الصارم للواقع الاجتماعي.
لما بعد الحداثة ثلاثة آثار رئيسية سالبة، وهي اهدار وقت العلوم الاجتماعية، والتشويش الثقافي المولع بالغموض والتعمية، وإضعاف اليسار السياسي. فقد أوصل خطاب ما بعد الحداثة، على النحو الذي تكشف عنه النصوص المقتبسة في هذا الكتاب بعض التخصصات في العلوم الاجتماعية إلى طريق شبه مسدود وجدت فيه نفسها في حالة توهان. فكيف لبحث علمي سواء كان في الطبيعة أو المجتمع، أن يتقدم إذا كان مبنياً على الخلط المفاهيمي والمجافاة الجذرية للبراهين التجريبية.
وهنا قد يجادل البعض بأن المؤلفين الذين استشهدنا بكتاباتهم ليس لديهم تأثير كبير على البحث العلمي، لان افتقارهم إلى التأهيل التخصصي معلوم جيداً لدى الدوائر الأكاديمية. ولكن هذا يصح فقط على البعض منهم. والمسألة كما نرى تتوقف على المؤلف والدولة التي ينتمى إليها وحقل الدراسة والحقبة الزمنية التي انجز فيها البحث. فعلى سبيل المثال نجد مؤلفات: بارنيز- بلو، ولاتور، تتمتع بنفوذ لا ينكر في سيسيولوجيا العلم، على الرغم من أنهم ليسوا قادة في هذا المجال.
والأسواء من وجهة نظرنا هو التاثير المناوئ الذي أدي إلى هجر طريقة التفكير الواضح والكتابة الواضحة في التعليم والثقافة. إذ يتعلم الطلاب اجترار نصوص مزوقة لا يكادون يفهمونها إلا فهما سطحياً، وحتى لو حالف الحظ بعضهم وتخصص أكاديميا، فانه لن يعدو أن يصبح خبيراً في اصطناع التقعر اللفظي.
إن الغموض المتعمد في خطاب ما بعد الحداثة، وعدم الأمانة الفكرية المتولد من هذا الغموض، قد أدى إلى تسمم جانبً من أوجه الحياة الثقافية، وإلى رسوخ النزعة السطحية المضادة للمثقفين والتي هي أصلاً متفشية على نطاق واسع بين عامة الجمهور.
الشاهد أن الموقف المستخف بالصرامة العلمية الذي نجده في كتابات لاكان، وكريستفا، وبورديارد، وديلوز، قد حقق في فرنسا خلال فترة السبعينات، نجاحاً لا يمكن انكاره، ولا يزال يمارس تأثيره الملحوظ. وقد انتشرت هذه الطريقة في التفكير خارج فرنسا على نحو لافت في العالم الناطق بالإنجليزية في الثمانينات والتسعينات. وبالمقابل ازدهرت النسبوية الذهنية في العالم الناطق بالإنجليزية أكثر خلال معظم فترة السبعينات (لا سيما مع بداية ظهور مدرسة البرنامج الصلب لفلسفة العلوم الاجتماعية) ثم انتقلت إلى فرنسا فيما بعد.
إن هذين الموقفين متمايزان مفهومياً، إذ يمكن تنبني الاثنين معا، أو تبني إحداهما دون الأخرى. ومع ذلك يجري الربط بينهما بطريقة غير مباشرة، فإذا كان كل شيء أو أغلب الأشياء، تقرأ بوصفها متضمنة للعلم، فلماذا يجب أن يتخذ المرء العلم بجدية بوصفه تفسيراً موضوعياً للعالم؟ وإما إذا تبنى المرء الفلسفة النسبوية، فإن كل تعليق جزافي على النظريات العلمية، سيكون مشروعاً ومقبولاً. وبذلك يتم ترسيخ كل من النظرة النسبوية ومبدأ معرفة الذات الوحيدة solipsism في وقت واحد وعلى نحو متبادل.
غير أن أغلب النتائج الخطيرة للأخذ بالنسبوية تأتي من تطبيقاتها على العلوم الاجتماعية. يقول المؤرخ البريطاني أريك هوسبون شاجباً بلا مواربة:
"تزعم الاتجاهات الجديدة لمفكرو ما بعد الحداثة الصاعدة في جامعات الغرب، لا سيما، في أقسام الآداب والأنثروبولوجيا، أن الوقائع التي تدعي وجودا موضوعيا ليست أكثر من بناءات وإنشاءات ذهنية. وهذا يعني بإيجاز أنه لا يوجد فرق واضح بين الواقعة والخيال. ولكن يوجد فرق. فالقدرة على التمييز بين الواقعة والخيال، تعد لدينا نحن المؤرخين، وحتى لدى أولئك الأشد عداءً للمنهج الوصفي بيننا، ضرورة أساسية مطلقة". (هوسبون،1993، ص 63).
ويمضي هوسبون إلى التدليل على أن البحث التاريخي الصارم يستطيع أن يدحض التصورات التخيلية التي يعتنقعها، على سبيل المثال، القوميون الرجعيون في الهند واسرائيل والبلقان وأنحاء أخرى من العالم، وأن يبرهن كيف أن موقف ما بعد الحداثة يجردنا من السلاح الذي يمكنّا من مواجهة هذه التهديدات العنصرية المتطرفة.
ففي الوقت الذي يتفشى فيه السحر والخرافة والظلامية، وتنتشر فيه النزعات القومية والدينية المتعصبة والمتطرفة في كثير من أنحاء العالم بما في ذلك الغرب "المتقدم"، يغدو التعامل باستخفاف مع الرؤية العقلانية للعالم والتي ظلت تمثل على مدى التاريخ خط الدفاع الأول ضد أولئك البلهاء، عملاً غير مسؤول، وهذا أقل ما يمكن أن يوصف به. ولا شك ان كتّاب ما بعد الحداثة لا يفضلون الظلامية ولكنها نتيجة حتمية لموقفهم من (الرؤية العقلانية).
وأما بالنسبة لنا ولكل من ينتمي إلى اليسار السياسي، هناك آثار سالبة محددة لما بعد الحداثة. أولها إن التركيز المفرط على اللغة، والنخبوية المقترنة باستخدام لغة خاصة استعراضية شديدة التقعر، ساهمت في استغراق المثقفين في مجادلات عقيمة، وفي عزلهم عن الحركات الاجتماعية التي تنشط خارج أبراجهم العاجية. فحين يأتي طلاب تقدميون إلى الجامعات الأمريكية ويتعلمون أن أفضل فكرة راديكالية (حتى في السياسة) هي أن تتبنى موقفا شكياً صارماً، وأن تنغمس كلياً في التحليلات النصية، فإن طاقتهم، التي من المفترض ان تسثمر في البحث والتنظيم، سوف تهدر عبثاً.
وثاني هذه الآثار السالبة هي أن الإصرار على تبني الأفكار المغلوطة والمشوشة والخطابات الغامضة في بعض أوساط اليسار، سوف يلحق الضرر بسمعة اليسار كله، ولن يفوِّت اليمين الفرصة ويستغلها تعليمياً لمصلحته. غير أن المشكلة الأكبر هي أن ايصال أي رؤية اجتماعية لأولئك الذين لم يقتعنوا بها بعد، غدت مستحلية من الناحية العملية، مع الأخذ في الاعتبار التناقص المتزايد في أعداد اليسار الأمريكي، وذلك بسبب تفشي الاعتقادات والمسلّمات الفردية الذاتية. فإذا كانت كل الخطابات مجرد قصص وسرديات، وليس من بينها ما هي أكثر صحة وموضوعية من غيرها، فعلى المرء أن يسلِّم بأن اسوأ التحيزات العرقية والجنسية وكذلك أكثر النظريات الاجتماعية والاقتصادية رجعيةً، تتمتع بشرعية مساوية للنظريات الأخرى على أقل تقدير، في توصيف أو تحليل العالم الواقعي (هذا إذا كان المرء يقر بوجود عالم واقعي). وبذلك يظهر جلياً ضعف النظرة النسبوية كأساس لبناء نقد للنظام الاجتماعي السائد.
وإذا أراد المثقفون ومثقفوا اليسار على وجه الخصوص، تقديم مساهمات ايجابية تساعد على تطور المجتمع، فعليهم أن يبدأوا أولاً باستجلاء الأفكار السائدة، وكشف غموض الخطابات المهيمنة، لا أن يزيدوها غموضا بغموض خطاباتهم. فالمنهج الفكري لا يصبح منهجاً نقدياً بإلصاق هذه الصفة بنفسه، وإنما بفضل ما يحتويه من مضامين.
لا شك أن الكثير من المفكرين يجنحون إلى تضخيم نظرياتهم حتى يكون لها تأثير ثقافي واسع، فإننا نسعى بكل تأكيد إلى تفادي الوقوع في هذا المأزق. وذلك لأننا نرى أن أكثر النظريات صعوبة في الفهم، إذا ما دُرست ونُوقشت داخل الجامعات، سيكون لها تأثيرات ثقافية مع مرور الزمن خارج نطاق الدوائر الأكاديمية.
ثم ماذا بعد
"هناك شبح يهوِّم فوق الحياة الفكرية في الولايات المتحدة الأمريكية. إنه شبح اليسار المحافظ".
هكذا يقول إعلان لمؤتمر عقد مؤخراً بجامعة كاليفورنيا سانت كروز. في هذا المؤتمر جرى توجيه النقد إلينا وآخرين، بزعم معارضتنا للعمل التنظيري المناهض للاتجاهات "المضادة للفكر التأسيسي" anti-foundationlist (أي: المناهض لما بعد الحداثة). والأدهى والأمر هو أننا قد هوجمنا بسبب "محاولة بناء اجماع مؤسس على الأفكار الواقعية" على حد تعبيرهم. وجرى تصويرنا بأننا ماركسيون محافظون، نسعى إلى تهميش الحركة النسوية، وحركة حقوق المثليين، ومناهضة سياسات المساواة العرقية، إلى حد الزعم أننا نقف مع قيم (اليميني) راش لمبو Rush Limbaugh. فهل يا ترى من شأن هذه الاتهامات التخويفية أن ترمز، على الرغم من شناعتها، إلى الاتجاه الخاطئ الذي تسير فيه ما بعد الحداثة؟.
لقد ظللنا في طول هذا الكتاب وعرضه، ندافع عن فكرة أن الوقائع مهمة وأن هناك شيء اسمه البرهان. ولكن هناك أمور ذات أهمية قصوى وأبرزها تلك التي تتعلق بالمستقبل، ليس في استطاعة البشر الإجابة عليها إجابة قاطعة على أساس الإثبات والبرهان، وتجعلهم يلجأون إلى التوقعات والتخمين. وعلى هدى من ذلك نريد أن نختتم هذا الكتاب، بتوقعات موجزة عن المستقبل الذي ينتظر ما بعد الحداثة.
لقد ظللنا نكرر مرارا في هذا الكتاب أن ما بعد الحداثة، شبكة من الأفكار المتداخلة تربط فيما بينها رابطة منطقية واهية، ولذلك يصعب وضع توصيف لها أكثر دقة من كونها روح مبهمة لهذا العصر، ومع ذلك ليس من الصعب تقصي جذور هذه الروح، فهي تعود إلى بواكير عقد الستينات (من القرن العشرين) وتظهر في التحديات التي وجهّها "كون" Kuhn للفسلفات التجريبية في العلوم. وفي النقد الذي وجهه ميشيل فوكو لفلسفات التاريخ الإنسانوية وفي أوهام المشاريع الكبرى في التغير السياسي.
وكغيرها من الاتجاهات الفكرية الجديدة، قد واجهت ما بعد الحداثة، في أوج نشاطها مقاومة من الحرس القديم، ولكن لمّا كانت الأفكار المستحدثة تتمتع دوما بخاصية قبول الشباب لها، لم تجدي تلك المقاومة نفعاً.
غير أنه بعد مرور نحو أربعين سنة، تقدم الثوار في العمر، وجرى استيعاب التهميش مؤسساتياً، وتراجعت الأفكار التي احتوت على شيء من الحقيقة (إذا فهمناها جيداً) واستحالت إلى خليط من المفاهيم الشاذة والفرقعات اللغوية السمجة.
ومهما يكون مقدار ما قد حققته، ما بعد الحداثة، في التخفيف من حدة الأصوليات الفكرية orthodoxies يلوح لنا الآن أنها تمضي إلى مواجهة مصيرها المحتوم. لكن اختيار الاسم لم يكن موفقاً حتى يوحي بما سيخلف "بعد.." هذه، بيد أنه يخامرنا شعور عميق بأن الزمن قد تغير. ومن علامات ذلك أن التحدى الآن، لا يأتي من الحرس الخلفي وحده، ولكنه يأتي أيضا من أولئك الذين لا، هم وضعيون خُلص، ولا ماركسيين تقليديين، ولكنهم مدركون إداركاً تاماً للمشاكل التي تواجه العلم والعقلانية والسياسات التقليدية لليسار، ويؤمنون بأن نقد الماضي يجب أن يكون بهدف إنارة الطريق نحو المستقبل، لا من أجل البكاء على الاطلال.
إذاً السؤال هو، ماذا سيأتي بعد، ما بعد الحداثة؟
لمّا كان الدرس الأول الذي نتعلمه من الماضي، أن التنبوء بالمستقبل لا يكون إلا خبط عشواء، فلا يسعنا إلا الإفصاح عن تطلعاتنا ومخاوفنا. الاحتمال الأول الذي يمكنا التنبوء به هو حدوث ردة فكرية تقود إلى التزمت والإنغلاق الصوفي أو الارتداد إلى الأصولية الدينية. وقد يلوح هذا الاحتمال بعيداً، على أقل تقدير، عن الدوائر الأكاديمية، غير أن اغتيال العقل كان راديكالياً إلى الحد الذي يمهد الطريق إلى المزيد من اللاعقلانية المتطرفة. وإذا حدث هذا، فإن الحياة الفكرية سوف تسير من السئ إلى الأسوأ. والاحتمال الثاني أن يصبح المفكرون أكثر عزوفاً (على الأقل في غضون عقد أو عقدين) عن الإقدام على تقديم نقد شامل ومثابر للنظام الاجتماعي السائد. وفي هذه الحالة يجدون أنفسهم أمام خيارين: إما أن يصيروا خداماً مناصرين للنظام السائد، مثلما فعل بعض مفكري اليسار في فرنسا عقب أحداث مايو 1968، أو أن ينسحبوا كليةً من النشاط السياسي.
هذه تخوفاتنا، ولكن تطلعاتنا تذهب في اتجاه مغاير، وهو انبثاق ثقافة فكرية ذات توجه عقلاني بلا تزمت، وذات صبغة علمية لا علموية، ومنفتحة في تفكيرها في غير ما ابتذال، وسياسياً تقدمية لا فئوية. قد يبدو ذلك، بطبيعة الحال، مجرد آمال وربما مجرد أحلام.
هوامش:
*العنوان الكامل للكتاب بالإنجليزية:
Fashionable Nonsense: Postmodern Intellectuals Abuse of Science, Picador, New York, 1998
**عبد المنعم عجب الفَيا، الدبلوم في الترجمة.
abusara21@gmail.com
مقدمة الترجمة:
هذه ترجمة لمبحث ورد بكتاب عنوانه: (اللغو الجديد: مفكرو ما بعد الحداثة واساءة استخدام النظريات العلمية)*. وضع الكتاب اثنان من أساتذة الجامعات، ينتميان إلى اليسار السياسي، هما: ألن سوكال، أستاذ الفيزياء بجامعة نيويورك، والثاني، جان بركمنت، أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة دي لوفين ببلجيكا.
صدر الكتاب في نسخته الإنجليزية سنة 1998م وأحدث ضجة كبرى، وأثار سجالات ساخنة وممتدة وسط الدوائر الأكاديمية والثقافية والإعلامية، واثنى عليه الكثير من العلماء واساتذة الجامعات والنقاد، ومن أشهر الذين اثوا على الكتاب، عالِم اللغويات والناشط السياسي نعوم تشومسكي.
ويعرِّف المؤلفان ما بعد الحداثة، بأنها ذلك الاتجاه الفكري الذي يناهض مبادئ التنوير الأوربي، ويجافي أسس المنطق العقلاني، ويمتاز بخطاباته التنظيرية التي تقطع الصلة بالاختبار التجريبي، واعتماده مبدأ النسبوية relativism الذهنية والثقافية التي لا ترى في العلم سوى سردية، أو أسطورة، أو بناء اجتماعي، ونحو ذلك". ص 1
ويشرح المؤلفان عبارة عنوان الكتاب: "إساءة استخدام العلم" أنها تتمثل في التمسك بالنظريات العلمية والمصطلحات دون معرفة كافية بها، سوى معرفة سطحية ومتعجلة. واستجلاب المفاهيم والمصطلحات من العلوم الطبيعية، لا سيما الرياضيات والفيزياء، مثل نظرية مكانيكا الكم (الكوانتم)، ونظرية المجموعات الرياضية، ومبرهنة قودال، ونظرية الفوضى في الرياضيات وغيرها وتطبيقها على العلوم الإنسانية والاجتماعية، دون تقديم أي مبرر مفاهيمي أو تجريبي، والميل إلى استعراض التبحر المعرفي الزائف من خلال الزج بالمصطلحات العملية والعبارات التقنية في ثنايا نصوص ليست لها أدنى علاقة بهذه المصطلحات والعبارات، وذلك بقصد ابهار القارئ غير المتخصص وارهابه فكريا.
ويتناول الكتاب بالنقد، مساهمات عدد من المفكرين في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ويخص كل واحد منهم بفصل من الكتاب. ومن هؤلاء: جاك لاكان، وجوليا كرستيفا، وجل ديلوز وفليكس قوتاري، وجان بورديارد، وجان فرانسوا ليوتار، وريجس دوبرييه، ولوسي ريغاري وغيرهم.
وفي سياق انتقاده لبعض قطاعات اليسار التي تبنت خطاب ما بعد الحداثة يقول ألن سوكال، أحد المؤلفين، وأستاذ الفيزياء بجامعة نيويورك: "أقر أنني يساري قديم معتز بيساريته، لا يفهم كيف يفترض في التفكيك، على سبيل المثال، مساعدة الطبقة العاملة". كما أنني عالم قح "يؤمن أنه يوجد هناك، بكل بساطة، عالَم خارجي، وتوجد حقائق موضوعية عن هذا العالم، ومن واجبي اكتشاف هذه الحقائق". ص269
وفي سياق آخر يستشهد سوكال، برأي ألن راين: "إن تبني الأقليات المناضلة، لفكر ميشيل فوكو، يعد بمعنى ما، عملاً انتحاريا، دعك من تبني فكر جاك دريدا. لقد كانت هذه الأقليات تؤمن دائما أن الحقيقة يمكن أن تقهر القوة والسلطة. ولكن يكفي لهزيمة هذه الفكرة، أن تقرأ لميشيل فوكو، أن الحقيقة هي بكل بساطة نتاج القوة والسلطة". ص270
ورد المبحث المترجم بخاتمة الكتاب تحت عنوان "دور السياسة" في نشوء خطاب ما بعد الحداثة (من صفحة 197 إلى صفحة 204 بالنسخة الإنجليزية).
النص المترجم
الدور السياسي في بروز خطاب ما بعد الحداثة
ليست كل منابع ما بعد الحداثة فكرية خالصة. فكل من النسبوية الفلسفية وأعمال الكتّاب التي قمنا بتحليلها النقدي هنا، لها ميول لبعض الاتجاهات السياسية التي يجوز أن توصف أو (تصف نفسها) بأنها يسارية أو تقدمية. كما أن ما أطلق عليه "حرب العلوم" يجوز أن يوصف بأنه صراع سياسي بين التقدميين والمحافظين.
صحيح يوجد هناك تراث ممتد مضاد للفكر العقلاني وسط بعض اتجاهات الجناح اليميني. ولكن الأمر الجديد والمثير للانتباه، في خطاب ما بعد الحداثة، هو أن الفكر المضاد للتفكير العقلاني، قد أغرى بعض قطاعات اليسار أيضاً.
وسوف نحاول أن نبين هنا، كيف حدث الربط اجتماعيا بين اليسار وما بعد الحداثة، وأن نوضح من وجهة نظرنا، كيف أن هذا الربط، منشأه جملة من الأخطاء والإلتباسات المفاهيمية. وسوف نحصر نقاشنا لهذه الظاهرة داخل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يلوح الربط بين اليسار وما بعد الحداثة جلياً.
عندما يناقش المرء تشكيلة من الأفكار، كتلك التي تتألف منها ما بعد الحداثة من وجهة نظر سياسية، من المهم، التمييز بعناية بين القيمة الذهنية الداخلية لهذه الأفكار، والدور السياسي الموضوعي التي يمكن أن تلعبه، والأسباب الذاتية التي تحمل مختلف الناس على الدفاع عن هذه الأفكار أو مهاجمتها.
ما يحدث في كثير من الأحيان أن فئة اجتماعية بعينها، قد تتشارك فكرتين أو مجموعتين من الأفكار، ولنسميها "ا" و "ب". دعنا نفترض أن مجموعة الأفكار "ا" صحيحة نسبياً، والمجموعة "ب" أقل منها صحة. وليس ثمة رابطة منطقية بين الفكرتين. نجد أن الذين ينتمون إلى الفئة الاجتماعية المعينة، يحاولون في كثير من الأحيان التدليل على صحة "ب" باقحام صحة أفكار المجموعة "ا" عليها، والعمل على ايجاد رابطة اجتماعية بين "ا" و"ب". وبالمقابل نجد معارضيهم يحاولون التشكيك في صحة "ا" بالاستدلال بافتقار "ب" إلى الصحة وإلى الرابطة الاجتماعية عينها.
ومن حيث المبدأ يمثل الربط بين اليسار وما بعد الحداثة، مفارقة خطيرة. فعلى مدى القرنين الأخيرين تقريباً، ظل اسم اليسار متماهياً مع العلم وضد الظلامية، مؤمناً بأن التفكير العقلاني والبحث والتحليل بلا خوف في حقيقة الواقع الموضوعي (الطبيعي والاجتماعي)، هي أدوات حاسمة في مقاومة وكشف الغموض المعرفي الذي يتدثر به الأقوياء، دعك من كون أن هذه الأهداف هي غايات إنسانية في حد ذاتها، وحق طبيعي لبني البشر.
ولكن مع ذلك، نجد أعداداً من الأكاديميين اليساريين والتقدميين من المتخصصين في العلوم الإنسانية والاجتماعية (وليس العلوم الطبيعية بقطع النظر عن ميولهم السياسية) قد حادوا بعيداً على مدى العقدين الماضيين، عن إرث التنوير العقلاني، وبإيعاز من الاتجاهات الفكرية المستوردة من فرنسا كالتفكيك، وبدافع من المبادئ ذات المنشأ المحلي الأمريكي كنظرية المعرفة التي تستند إليها الحركة النسوية، أخذوا يعتنقون هذه النسخة أو تلك من النسبوية المعرفية.
وهدفنا هنا هو فهم أسباب هذا التحول التاريخي. وسوف نحدد ثلاثة أنواع من المصادر الفكرية التي ارتبطت بانبثاق ما بعد الحداثة داخل اليسار السياسي.
1. الحركات الاجتماعية الجديدة:
شهد عقدا الستينات والسبعينات (من القرن العشرين) صعود حركات اجتماعية جديدة من بينها، حركة تحرير السود، والحركة النسوية، من بين حركات أخرى. وتهدف هذه الحركات جميعها إلى النضال ضد أشكال الاضطهاد التي أهملت على نطاق واسع في الماضي من قبل اليسار السياسي التقليدي. وقد خلصت بعض الاتجاهات داخل هذه الحركات، في الآونة الأخيرة، إلى أن ما بعد الحداثة، هي الفلسفة الأكثر ملاءمة، بصورة أو أخرى، لتحقيق تطلعاتها.
وهنا تبرز قضيتان ينبغي اخضاعهما للنقاش. القضية الأولى ذات بعد مفهومي، وهي ما إذا كانت هناك رابطة منطقية من أي نوع بين هذه الحركات الاجتماعية وما بعد الحداثة. والقضية الثانية ذات بعد اجتماعي، وتتعلق بالسؤال: إلى أي مدى، يؤمن أعضاء هذه الحركات بما بعد الحداثة، وما هي الأسباب الباعثة على ذلك؟
لا شك أن أحد العوامل التي قادت الحركات الاجتماعية الجديدة إلى ما بعد الحداثة، هو عدم قناعتها بالأصول الفكرية القديمة لليسار. لقد كان اليسار التقليدي سواء في الماركسية أو في الاتجاهات المغايرة غير الماركسية، ينظر إلى نفسه، على وجه العموم، بوصفه الوريث الشرعي لتركة التنوير والحاضنة للعلم والعقلانية. غير أن ربط الماركسية الصريح بين المادية الفلسفية والنظرية التاريخية، قد أعطى الأولوية حصرياً، في بعض التفسيرات، للاقتصاد والصراع الطبقي. وهذا الضيق الواضح لهذا المنظور، قاد بعض التيارات داخل الحركات الاجتماعية الجديدة إلى رفض، أو على أقل تقدير، إلى فقدانها الثقة في العلم وفي العقلانية.
ولكن هذا خطأ مفهومي، يعكس الخطأ المفهومي الذي وقع فيه اليسار الماركسي التقليدي ويتماثل معه. والواقع أن النظريات الاجتماعية والسياسية لا يمكن أبداً استنباطها منطقياً من المشاريع الفكرية المجردة. وبالمقابل لا يوجد وضع فلسفي فريد يمكن أن يتطابق مطابقة تامة مع برنامج اجتماعي سياسي بعينه.
ويجوز القول على نحو أكثر تحديداً، ليس ثمة رابطة منطقية بين المادية الفلسفية وبين المادية التاريخية الماركسية. وعلى وجه التحديد المادية الفلسفية كما سبق أن لاحظه برتراند راسل، تلائم الفكرة القائلة إن التاريخ يجري تحديده في الأساس، بالدين أو الجنس البشري أو المناخ (وهو ما يتعارض مع المادية التاريخية). وبالمقابل يمكن أن تكون العوامل الاقتصادية هي المحدد الأول للتاريخ البشري حتى ولو كانت "الأحداث" العقلية مستقلة على نحو كاف عن الأحداث الفيزيائية، لتجعل المادية الفلسفية خاطئة.
ويجمل راسل القول: "يجب أن ندرك الوقائع على هذا النحو في بعض الأوقات، وإلا سوف نجد أن النظريات السياسية، تُؤيَد وتُعارض، لأسباب لا تمت إليها بصلة، ونجد أن الحجج الفلسفية تستخدم للفصل في مسائل تعتمد أصلاً على الوقائع الملموسة للطبيعة الانسانية. ولذا من المهم تفادي هذا الخلط حتى لا يؤدي إلى تقويض الفلسفة والسياسة على السواء".
إن العلاقة السيسيولوجية بين ما بعد الحداثة والحركات الاجتماعية الجديدة، علاقة معقدة إلى حد بعيد وتتطلب تحليلا عميقا وكافيا، يقوم على أقل تقدير، بفرز الاتجاهات المختلفة التي تشكل في مجملها ما بعد الحداثة لأن الرابطة المنطقية بين هذه الاتجاهات ضعيفة جداً، والتعامل مع كل حركة من هذه الحركات الجديدة على انفراد، لأن تاريخ كل حركة مختلف عن الأخرى، وتصنيف التيارات داخل الحركة الواحدة، وإبراز الدور المناط بالنشطاء والمنظرين القيام به في كل حركة. وهذه القضية تحتاج إلى تحقيق تجريبي حذر (هل نجرؤ على قول ذلك؟) نتركه لعلماء الاجتماع وعلماء التاريخ المفكرين. ولكن دعنا مع ذلك نحرز ونجازف بالقول إن ولع الحركات الاجتماعية الجديدة بما بعد الحداثة، يسود في الغالب في الأوساط الأكاديمية وهو في الواقع أوهن بكثير من الصورة التي يعرضها به كل من اليسار ما بعد الحداثي واليمين التقليدي.
2. الاحباط السياسي:
المصدر الآخر لأفكار ما بعد الحداثة هو الوضع المحبط وحالة التوهان الفكري العام لليسار وهو وضع يبدو أنه فريد في تاريخ اليسار. فقد تهاوت الأنظمة الشيوعية في العالم، وأخذت الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية، التي لا تزال في الحكم، بتطبيق سياسات الليبرالية الجديدة بكل حذافيرها. وحركات التحرر الوطني في العالم الثالث، بعد أن قادت أوطانها إلى الاستقلال، تقاعست عن مواصلة جهود البناء والتنمية بالاعتماد على الذات. وباختصار يمكن القول إجمالاً إن الصيغة الفظة من رأسمالية السوق الحر، غدت واقعاً غير قابل للاستبدال في المستقبل المنظور، وأصبحت المثل العليا للعدالة والمساواة، "يوتوبيا" بعيدة المنال، أكثر من أي وقت مضى.
ودون الدخول في مناقشة الأسباب التي قادت إلى هذا الوضع دعك من اقتراح حلول، يسهل جداً إدراك حقيقة أن هذا الوضع، قد أفرز حالة من الاحباط، عبرت عن نفسها جزئياً في ما بعد الحداثة. وكان عالِم اللغات والناشط السياسي، نعوم تشومسكي، قد قدم وصفاً بلغياً لهذه الحالة:
"حين تحس احساسا فعلياً بأنه قد صار من الصعب عليك، التعامل مع مشاكل الواقع تعاملاً عملياً، فهناك أكثر من طريقة للتهرب من فعل أي شيء. إحدى هذه الطرق هي أن تشرع في مطاردة "بطة برية" بلا طائل. وهناك طريقة أخرى، وهي أن تنغمس في طقوس الحياة الأكاديمية المنعزلة عن الواقع، والتي توفر لك دفوعات نفسية ضد التعامل مع العالم الخارجي كما هو على الأرض. وفي حياتنا المعاصرة، توجد نماذج كثيرة على هذه الشاكلة بما في ذلك بين اليسار. وقد شاهدت بنفسي منها صور محبطة في مصر، أثناء زيارتي لها قبل بضعة أسابيع، بغرض تقديم ندوات عن الشؤون الدولية. هناك يوجد وسط ثقافي نشط ويتمتع بمستوى عال من التحضر، وبه أناس شجعان جداً، قضوا سنوات في سجون عبد الناصر، حيث اخضعوا للتعذيب حتى الموت، ومع ذلك خرجوا وهم متمسكون بالنضال. على مستوى العالم الثالث يوجد الآن شعور بالغ بالاحباط واليأس. فأولئك الناس تلقوا تعليماً جيداً، وتربطهم صلات قوية بأوربا، ولكنهم صاروا منغمسين بالكلية في صرعات lunacies باريس الثقافية، مكرسين كل جهدهم لها. فعلى سبيل المثال متى ما هممت بالحديث عن مشاكل الواقع الراهنة، يطلب مني الحضور، حتى في معاهد البحوث التي تعنى بالقضايا الاستراتيجية، أن أحولّ الموضوع للحديث عن جعجعة ما بعد الحداثة. فبدلا عن أن اتحدث عن تفاصيل سياسات الولايات المتحدة الأميريكية الراهنة في الشرق الأوسط، حيث يعيشون، وهو ما يرونه مملاً وغير مثير للاهتمام، يريدون أن يعرفوا مني ما هو النموذج "برادايم" الجديد، الذي يطرحه علم اللغويات الحديثة حول الخطاب المتعلق بالشؤون الدولية، والذي يمكن أن يحل محل النص ما بعد البنيوي. هذا هو ما يسحرهم حقاً، وليس ماذا قرر مجلس وزراء اسرائيل في شأن التخطيط الداخلي. هذه الحالة مثيرة للإحباط حقاً".
( تشومسكي،1994، ص 163-164).
وهكذا وبهذه الطريقة، تتعاون بقايا اليسار على دق آخر مسمار في نعش أفكار العدالة والتقدم، ونحن نقترح وبكل تواضع، أن تترك فتحة صغيرة في النعش لتمرير الهواء، أملاً في أن تستيقظ الجثة ذات يوم.
3. العلم كهدف سهل:
في هذا الجو من الاحباط العام، يضحى مغرياً أن تصوِّب الهجوم على شيئ له ارتباط كاف بالسلطة، بالقدر الذي لا يبدو معه مثيرا للشفقة، لكنه ضعيف بما يكفي ليسهل استهدافه بطريقة أو أخرى (ما دام تركيز التصويب نحو السلطة والمال بعيد المنال). ولما كانت هذه الشروط متوفرة في العلم، فهذا يفسر جزئيا أسباب الهجوم عليه.
ولكي نحلل أشكال هذا الهجوم، يجدر بنا أن نميز بين أربعة معاني، على أقل تقدير، لكلمة علم. فالعلم هو جهد فكري يهدف إلى فهم العالم فهماً عقلانياً، وهو حصيلة مقبولة من الأفكار النظرية والتجريبية، وهو شريحة مجتمعية ذات مؤسسات بحثية على اتصال بالمجتمع العريض. وأخيراً العلم هو العلوم التطبيقية والتكنولوجيا (والأخيرة كثيرا ما يُخلط بينها والعلم). وما يجري دائما أن كل نقد مشروع موجه للعلم في معنى من هذه المعاني، يؤخذ كحجة على العلم في معنى مختلف من المعاني المذكورة.
ولذا لا سبيل للإنكار أن العلم بوصفه مؤسسة اجتماعية، مرتبط بالسلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وان الدور الاجتماعي الذي يلعبه العلماء ينطوي في كثير من الأحيان على نتائج ضارة. وكذلك يصح القول إن للتكنولوجيا نتائج مزدوجة أيضاً، وأحيانا نتائج كاريثية، ونادراً ما تثمر عن الحلول الإعجازية التي ظل يعد بها أنصارها المتحمسون على الدوام. وأخيراً إن العلم بوصفه تجسيداً للمعرفة، عرضة للوقوع في الأخطاء، وأحياناً تكون هذه الأخطاء، نتاج لكل أنواع تحيزات العلماء الاجتماعية والسياسية والفلسفية، بله والدينية.
وعلى كل حال، نحن مع النقود المعقولة للعلم، في كل مستوياته المذكورة، وعلى وجه الخصوص تلك التي تنتقد العلم بوصفه تجسيداً للمعرفة، ولا سيما النقود الأكثر اقناعا والتي تتبع معايير نموذجية. فعلى المرء أن يدلل ومن خلال استخدام الحجج العلمية المتعارف عليها، لماذا هذا البحث محل المناقشة، جاء معيبا استناداً إلى القوانين العلمية الموثوقة والمعتمدة. ثم بعد ذلك وليس قبله، تأتي الخطوة الثانية ليشرح النقد كيف أن تحيزات الباحثين الاجتماعية (والتي قد تكون بغير وعي منهم) قد أدت إلى إخلالهم بالقوانين والضوابط العلمية. وقد يكون مغرياً للمرء أن يقفز مباشرة إلى الخطوة الثانية، ولكن النقد في هذه الحالة يفقد الكثير من قوته.
ولكن للأسف بعض الانتقادات الموجهة للعلم، تذهب أبعد من مهاجمة الجوانب السيئة (العسكرية على سبيل المثال) لتطال أفضل ما في العلم من خصائص وميزات وهي، محاولة فهم العالم فهماً عقلانياً واعتماده المنهج العلمي بوصفه علامة على احترام البرهان التجريبي والتحليل المنطقي.
ومن السذاجة الظن أن الموقف العقلاني ليس هو المستهدف في ذاته حقاً من قبل ما بعد الحداثة. ذلك أن الهجوم على هذا الموقف يعد هدفاً سهلاً، لأن أي محاولة من هذا النوع، سرعان ما تجد عدد من الحلفاء يرحبون بها، ومن أولئك الذين يعتقدون في خوارق الطبيعة سواء كانوا من التقليديين (الأصولية الدينية على سبيل المثال) أو من "العصر الجديد" New Age. وإذا أضفنا إلى ذلك، الخلط السطحي بين العلم والتكنولوجيا، فإننا نجد مقاومة شعبية للعلم، ولكنها ليست تقدمية على وجه الخصوص.
وأما أولئك الذين يمسكون بزمام السلطة السياسية والاقتصادية، فمن الطبيعي أن يسروا من الهجوم على العلم والتكنولوجيا على السواء، فهذا الهجوم يساعد على إخفاء علاقات القوة التي تستند إليها سلطاتهم. إن اليسار ما بعد الحديث، بمهاجمته للعقلانية، قد حرم نفسه، من أداة فعالة في نقد النظام الاجتماعي السائد. وهو ما سبق أن لاحظه تشومسكي قبل فترة ليست بالبعيدة بقوله:
"كان مثقفوا اليسار في الماضي، يمثلون قطاعاً فاعلاً في الحياة الثقافية للطبقة العاملة. بعضهم كان يسد حاجة هذه الطبقات إلى المؤسسات الثقافية، بتنظيم برامج لتعليم العمال وتثقيفهم، أو بتأليف أفضل الكتب مبيعاً في الرياضيات والعلوم والموضوعات الأخرى لمنفعة الجمهور. أما اليوم فنجد نظرائهم في اليسار، يعملون على حرمان جماهير العمال من أدوات التحرر هذه، زاعمين لنا أن "مشروع التنوير" قد مات، وعلينا التخلي عن "أوهام" العلم والعقلانية. وهي رسالة ستدخل البهجة إلى أعماق قلوب الأقوياء، فيقبلون وهم سعداء على احتكار هذه الأدوات وتوظيفها لخدمة مصالحهم". (تشومسكي،1993،ص 286).
وأخيراً دعنا ننقاش بايجاز الدوافع الذاتية لمعارضي ما بعد الحداثة. هناك دوافع كثيرة غير أن ردود الأفعال التي أثارتها مقالة "سوكال" (أحد مؤلفي الكتاب–المترجم) التهكمية parody يتوجب علينا تناول هذه الردود بشيء من الكياسة. فكثير من الناس يكتفون بالتعبير عن ضيقهم بغطرسة كتّاب ما بعد الحديثة، وجعجعة خطاباتهم الفارغة، ومنظر أولئك المثقفين وهم يرددون فيما بينهم عبارات لا يفهما أحد. وغني عن الذكر أننا نشاطر هؤلاء نظرتهم ولكن مع بعض الإضافات.
غير أن هناك ردود أخرى لا تبعث على السرور، وهي أبلغ دليل على الخلط بين الروابط المجتمعية والروابط المنطقية. فعلى سبيل المثال، عرضت صحيفة نيويورك تايمز "مسألة سوكال" بوصفها سجالا بين المحافظين الذين يؤمنون بالموضوعية، كهدف على أقل تقدير، وبين اليساريين الذين ينكرونها. ولكن من الواضح أن المسألة أعقد من ذلك. فليس كل من يقفون في اليسار السياسي، يرفضون الموضوعية كهدف (بغض النظر عن درجة تحقق هذه الموضوعية) فضلا على أنه لا توجد بأية حال، علاقة منطقية بسيطة، بين الآراء السياسية ووجهات النظر المعرفية. وقد ذهب بعض المعلقين إلى ربط هذه المسألة بالهجوم الذي يشن في العادة، على دعوات التعددية الثقافية والتصحيح السياسي. ولما كان الرد المفصل على هذا التعليق يحيلنا الى حقول معرفية عديدة ، فإننا نكتفي هنا بالتأكيد على أننا لسنا ضد الانفتاح، بأية حال، على الثقافات الأخرى، ولسنا ضد احترام حقوق الأقليات التي تكون عرضة دائما للحط من قدرها في هذا النوع من الهجوم.
هل هذا يهم؟
ربما يتساءل البعض لماذا نهدر وقتنا في الحديث عن سوء استخدامات ما بعد الحداثة؟ هل تمثل ما بعد الحداثة خطرا حقيقياً إلى هذه الدرجة؟
الإجابة قطعاً لا، بالنسبة للعلوم الطبيعية لا تمثل ما بعد الحداثة، أي خطر على الأقل في الوقت الراهن. المشاكل التي تواجهها اليوم، العلوم الطبيعة، في المقام الأول، هي مشكلة تمويل البحوث العلمية، وعلى وجه الخصوص الخطر الذي يتهدد الموضوعية العلمية حينما يتزايد إحلال القطاع الخاص محل القطاع العام لتمويل هذه البحوث. وهذه مشكلة لا شأن لما بعد الحداثة بها. إنما العلوم الاجتماعية هي التي تعاني من التأثيرات السلبية لخطاب ما بعد الحداثة إذ يحل اللغو "الموضوي" واللعب بالكلمات، محل النقد والتحليل الصارم للواقع الاجتماعي.
لما بعد الحداثة ثلاثة آثار رئيسية سالبة، وهي اهدار وقت العلوم الاجتماعية، والتشويش الثقافي المولع بالغموض والتعمية، وإضعاف اليسار السياسي. فقد أوصل خطاب ما بعد الحداثة، على النحو الذي تكشف عنه النصوص المقتبسة في هذا الكتاب بعض التخصصات في العلوم الاجتماعية إلى طريق شبه مسدود وجدت فيه نفسها في حالة توهان. فكيف لبحث علمي سواء كان في الطبيعة أو المجتمع، أن يتقدم إذا كان مبنياً على الخلط المفاهيمي والمجافاة الجذرية للبراهين التجريبية.
وهنا قد يجادل البعض بأن المؤلفين الذين استشهدنا بكتاباتهم ليس لديهم تأثير كبير على البحث العلمي، لان افتقارهم إلى التأهيل التخصصي معلوم جيداً لدى الدوائر الأكاديمية. ولكن هذا يصح فقط على البعض منهم. والمسألة كما نرى تتوقف على المؤلف والدولة التي ينتمى إليها وحقل الدراسة والحقبة الزمنية التي انجز فيها البحث. فعلى سبيل المثال نجد مؤلفات: بارنيز- بلو، ولاتور، تتمتع بنفوذ لا ينكر في سيسيولوجيا العلم، على الرغم من أنهم ليسوا قادة في هذا المجال.
والأسواء من وجهة نظرنا هو التاثير المناوئ الذي أدي إلى هجر طريقة التفكير الواضح والكتابة الواضحة في التعليم والثقافة. إذ يتعلم الطلاب اجترار نصوص مزوقة لا يكادون يفهمونها إلا فهما سطحياً، وحتى لو حالف الحظ بعضهم وتخصص أكاديميا، فانه لن يعدو أن يصبح خبيراً في اصطناع التقعر اللفظي.
إن الغموض المتعمد في خطاب ما بعد الحداثة، وعدم الأمانة الفكرية المتولد من هذا الغموض، قد أدى إلى تسمم جانبً من أوجه الحياة الثقافية، وإلى رسوخ النزعة السطحية المضادة للمثقفين والتي هي أصلاً متفشية على نطاق واسع بين عامة الجمهور.
الشاهد أن الموقف المستخف بالصرامة العلمية الذي نجده في كتابات لاكان، وكريستفا، وبورديارد، وديلوز، قد حقق في فرنسا خلال فترة السبعينات، نجاحاً لا يمكن انكاره، ولا يزال يمارس تأثيره الملحوظ. وقد انتشرت هذه الطريقة في التفكير خارج فرنسا على نحو لافت في العالم الناطق بالإنجليزية في الثمانينات والتسعينات. وبالمقابل ازدهرت النسبوية الذهنية في العالم الناطق بالإنجليزية أكثر خلال معظم فترة السبعينات (لا سيما مع بداية ظهور مدرسة البرنامج الصلب لفلسفة العلوم الاجتماعية) ثم انتقلت إلى فرنسا فيما بعد.
إن هذين الموقفين متمايزان مفهومياً، إذ يمكن تنبني الاثنين معا، أو تبني إحداهما دون الأخرى. ومع ذلك يجري الربط بينهما بطريقة غير مباشرة، فإذا كان كل شيء أو أغلب الأشياء، تقرأ بوصفها متضمنة للعلم، فلماذا يجب أن يتخذ المرء العلم بجدية بوصفه تفسيراً موضوعياً للعالم؟ وإما إذا تبنى المرء الفلسفة النسبوية، فإن كل تعليق جزافي على النظريات العلمية، سيكون مشروعاً ومقبولاً. وبذلك يتم ترسيخ كل من النظرة النسبوية ومبدأ معرفة الذات الوحيدة solipsism في وقت واحد وعلى نحو متبادل.
غير أن أغلب النتائج الخطيرة للأخذ بالنسبوية تأتي من تطبيقاتها على العلوم الاجتماعية. يقول المؤرخ البريطاني أريك هوسبون شاجباً بلا مواربة:
"تزعم الاتجاهات الجديدة لمفكرو ما بعد الحداثة الصاعدة في جامعات الغرب، لا سيما، في أقسام الآداب والأنثروبولوجيا، أن الوقائع التي تدعي وجودا موضوعيا ليست أكثر من بناءات وإنشاءات ذهنية. وهذا يعني بإيجاز أنه لا يوجد فرق واضح بين الواقعة والخيال. ولكن يوجد فرق. فالقدرة على التمييز بين الواقعة والخيال، تعد لدينا نحن المؤرخين، وحتى لدى أولئك الأشد عداءً للمنهج الوصفي بيننا، ضرورة أساسية مطلقة". (هوسبون،1993، ص 63).
ويمضي هوسبون إلى التدليل على أن البحث التاريخي الصارم يستطيع أن يدحض التصورات التخيلية التي يعتنقعها، على سبيل المثال، القوميون الرجعيون في الهند واسرائيل والبلقان وأنحاء أخرى من العالم، وأن يبرهن كيف أن موقف ما بعد الحداثة يجردنا من السلاح الذي يمكنّا من مواجهة هذه التهديدات العنصرية المتطرفة.
ففي الوقت الذي يتفشى فيه السحر والخرافة والظلامية، وتنتشر فيه النزعات القومية والدينية المتعصبة والمتطرفة في كثير من أنحاء العالم بما في ذلك الغرب "المتقدم"، يغدو التعامل باستخفاف مع الرؤية العقلانية للعالم والتي ظلت تمثل على مدى التاريخ خط الدفاع الأول ضد أولئك البلهاء، عملاً غير مسؤول، وهذا أقل ما يمكن أن يوصف به. ولا شك ان كتّاب ما بعد الحداثة لا يفضلون الظلامية ولكنها نتيجة حتمية لموقفهم من (الرؤية العقلانية).
وأما بالنسبة لنا ولكل من ينتمي إلى اليسار السياسي، هناك آثار سالبة محددة لما بعد الحداثة. أولها إن التركيز المفرط على اللغة، والنخبوية المقترنة باستخدام لغة خاصة استعراضية شديدة التقعر، ساهمت في استغراق المثقفين في مجادلات عقيمة، وفي عزلهم عن الحركات الاجتماعية التي تنشط خارج أبراجهم العاجية. فحين يأتي طلاب تقدميون إلى الجامعات الأمريكية ويتعلمون أن أفضل فكرة راديكالية (حتى في السياسة) هي أن تتبنى موقفا شكياً صارماً، وأن تنغمس كلياً في التحليلات النصية، فإن طاقتهم، التي من المفترض ان تسثمر في البحث والتنظيم، سوف تهدر عبثاً.
وثاني هذه الآثار السالبة هي أن الإصرار على تبني الأفكار المغلوطة والمشوشة والخطابات الغامضة في بعض أوساط اليسار، سوف يلحق الضرر بسمعة اليسار كله، ولن يفوِّت اليمين الفرصة ويستغلها تعليمياً لمصلحته. غير أن المشكلة الأكبر هي أن ايصال أي رؤية اجتماعية لأولئك الذين لم يقتعنوا بها بعد، غدت مستحلية من الناحية العملية، مع الأخذ في الاعتبار التناقص المتزايد في أعداد اليسار الأمريكي، وذلك بسبب تفشي الاعتقادات والمسلّمات الفردية الذاتية. فإذا كانت كل الخطابات مجرد قصص وسرديات، وليس من بينها ما هي أكثر صحة وموضوعية من غيرها، فعلى المرء أن يسلِّم بأن اسوأ التحيزات العرقية والجنسية وكذلك أكثر النظريات الاجتماعية والاقتصادية رجعيةً، تتمتع بشرعية مساوية للنظريات الأخرى على أقل تقدير، في توصيف أو تحليل العالم الواقعي (هذا إذا كان المرء يقر بوجود عالم واقعي). وبذلك يظهر جلياً ضعف النظرة النسبوية كأساس لبناء نقد للنظام الاجتماعي السائد.
وإذا أراد المثقفون ومثقفوا اليسار على وجه الخصوص، تقديم مساهمات ايجابية تساعد على تطور المجتمع، فعليهم أن يبدأوا أولاً باستجلاء الأفكار السائدة، وكشف غموض الخطابات المهيمنة، لا أن يزيدوها غموضا بغموض خطاباتهم. فالمنهج الفكري لا يصبح منهجاً نقدياً بإلصاق هذه الصفة بنفسه، وإنما بفضل ما يحتويه من مضامين.
لا شك أن الكثير من المفكرين يجنحون إلى تضخيم نظرياتهم حتى يكون لها تأثير ثقافي واسع، فإننا نسعى بكل تأكيد إلى تفادي الوقوع في هذا المأزق. وذلك لأننا نرى أن أكثر النظريات صعوبة في الفهم، إذا ما دُرست ونُوقشت داخل الجامعات، سيكون لها تأثيرات ثقافية مع مرور الزمن خارج نطاق الدوائر الأكاديمية.
ثم ماذا بعد
"هناك شبح يهوِّم فوق الحياة الفكرية في الولايات المتحدة الأمريكية. إنه شبح اليسار المحافظ".
هكذا يقول إعلان لمؤتمر عقد مؤخراً بجامعة كاليفورنيا سانت كروز. في هذا المؤتمر جرى توجيه النقد إلينا وآخرين، بزعم معارضتنا للعمل التنظيري المناهض للاتجاهات "المضادة للفكر التأسيسي" anti-foundationlist (أي: المناهض لما بعد الحداثة). والأدهى والأمر هو أننا قد هوجمنا بسبب "محاولة بناء اجماع مؤسس على الأفكار الواقعية" على حد تعبيرهم. وجرى تصويرنا بأننا ماركسيون محافظون، نسعى إلى تهميش الحركة النسوية، وحركة حقوق المثليين، ومناهضة سياسات المساواة العرقية، إلى حد الزعم أننا نقف مع قيم (اليميني) راش لمبو Rush Limbaugh. فهل يا ترى من شأن هذه الاتهامات التخويفية أن ترمز، على الرغم من شناعتها، إلى الاتجاه الخاطئ الذي تسير فيه ما بعد الحداثة؟.
لقد ظللنا في طول هذا الكتاب وعرضه، ندافع عن فكرة أن الوقائع مهمة وأن هناك شيء اسمه البرهان. ولكن هناك أمور ذات أهمية قصوى وأبرزها تلك التي تتعلق بالمستقبل، ليس في استطاعة البشر الإجابة عليها إجابة قاطعة على أساس الإثبات والبرهان، وتجعلهم يلجأون إلى التوقعات والتخمين. وعلى هدى من ذلك نريد أن نختتم هذا الكتاب، بتوقعات موجزة عن المستقبل الذي ينتظر ما بعد الحداثة.
لقد ظللنا نكرر مرارا في هذا الكتاب أن ما بعد الحداثة، شبكة من الأفكار المتداخلة تربط فيما بينها رابطة منطقية واهية، ولذلك يصعب وضع توصيف لها أكثر دقة من كونها روح مبهمة لهذا العصر، ومع ذلك ليس من الصعب تقصي جذور هذه الروح، فهي تعود إلى بواكير عقد الستينات (من القرن العشرين) وتظهر في التحديات التي وجهّها "كون" Kuhn للفسلفات التجريبية في العلوم. وفي النقد الذي وجهه ميشيل فوكو لفلسفات التاريخ الإنسانوية وفي أوهام المشاريع الكبرى في التغير السياسي.
وكغيرها من الاتجاهات الفكرية الجديدة، قد واجهت ما بعد الحداثة، في أوج نشاطها مقاومة من الحرس القديم، ولكن لمّا كانت الأفكار المستحدثة تتمتع دوما بخاصية قبول الشباب لها، لم تجدي تلك المقاومة نفعاً.
غير أنه بعد مرور نحو أربعين سنة، تقدم الثوار في العمر، وجرى استيعاب التهميش مؤسساتياً، وتراجعت الأفكار التي احتوت على شيء من الحقيقة (إذا فهمناها جيداً) واستحالت إلى خليط من المفاهيم الشاذة والفرقعات اللغوية السمجة.
ومهما يكون مقدار ما قد حققته، ما بعد الحداثة، في التخفيف من حدة الأصوليات الفكرية orthodoxies يلوح لنا الآن أنها تمضي إلى مواجهة مصيرها المحتوم. لكن اختيار الاسم لم يكن موفقاً حتى يوحي بما سيخلف "بعد.." هذه، بيد أنه يخامرنا شعور عميق بأن الزمن قد تغير. ومن علامات ذلك أن التحدى الآن، لا يأتي من الحرس الخلفي وحده، ولكنه يأتي أيضا من أولئك الذين لا، هم وضعيون خُلص، ولا ماركسيين تقليديين، ولكنهم مدركون إداركاً تاماً للمشاكل التي تواجه العلم والعقلانية والسياسات التقليدية لليسار، ويؤمنون بأن نقد الماضي يجب أن يكون بهدف إنارة الطريق نحو المستقبل، لا من أجل البكاء على الاطلال.
إذاً السؤال هو، ماذا سيأتي بعد، ما بعد الحداثة؟
لمّا كان الدرس الأول الذي نتعلمه من الماضي، أن التنبوء بالمستقبل لا يكون إلا خبط عشواء، فلا يسعنا إلا الإفصاح عن تطلعاتنا ومخاوفنا. الاحتمال الأول الذي يمكنا التنبوء به هو حدوث ردة فكرية تقود إلى التزمت والإنغلاق الصوفي أو الارتداد إلى الأصولية الدينية. وقد يلوح هذا الاحتمال بعيداً، على أقل تقدير، عن الدوائر الأكاديمية، غير أن اغتيال العقل كان راديكالياً إلى الحد الذي يمهد الطريق إلى المزيد من اللاعقلانية المتطرفة. وإذا حدث هذا، فإن الحياة الفكرية سوف تسير من السئ إلى الأسوأ. والاحتمال الثاني أن يصبح المفكرون أكثر عزوفاً (على الأقل في غضون عقد أو عقدين) عن الإقدام على تقديم نقد شامل ومثابر للنظام الاجتماعي السائد. وفي هذه الحالة يجدون أنفسهم أمام خيارين: إما أن يصيروا خداماً مناصرين للنظام السائد، مثلما فعل بعض مفكري اليسار في فرنسا عقب أحداث مايو 1968، أو أن ينسحبوا كليةً من النشاط السياسي.
هذه تخوفاتنا، ولكن تطلعاتنا تذهب في اتجاه مغاير، وهو انبثاق ثقافة فكرية ذات توجه عقلاني بلا تزمت، وذات صبغة علمية لا علموية، ومنفتحة في تفكيرها في غير ما ابتذال، وسياسياً تقدمية لا فئوية. قد يبدو ذلك، بطبيعة الحال، مجرد آمال وربما مجرد أحلام.
هوامش:
*العنوان الكامل للكتاب بالإنجليزية:
Fashionable Nonsense: Postmodern Intellectuals Abuse of Science, Picador, New York, 1998
**عبد المنعم عجب الفَيا، الدبلوم في الترجمة.
abusara21@gmail.com