الدولة المتوحشة في السودان

 


 

 

 

فرج قوقريال: كيف نتحرر؟ ومتى نتحرر؟

علي جفون: عندما نرمي بآخر الأغلال في جوف البحر؟
(رواية فشودة للكاتب الدكتور أحمد حسب الله الحاج، مدارك 2018، ص: 139)

اطلعت قبل فترة غير بعيدة على كتاب (مصادر الإبداع، 2017م) للكاتب إيدوارد ويلسن الحائز على جائزة بوليتزر، فألهمني التفكرَ، الرجوعَ والتدبرَ في جذور المشكلة السودانية والتي أصبحت الصراعات القبلية إحدى تجلياتها، حتماً ليس مسبباتها؛ فالصراع ناجم عن انقسامات فئوية وقومية وإثنية عجزت الدولة عن استحداث آلية للتعامل معها بواقعية وموضوعية. هنالك صراع ناجم عن احتكار فئة للسلطة، وصراع ناجم عن التمييز الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والتعليمي الذي تمارسه النخب (بوعي و من دون وعي) ضد شعوب الهامش، الغرب والشرق خاصة.


لم تفشل الدولة السودانية فقط في تنظيم علاقات القوة، لكنها أيضاً فقدت حياديتها وأصبحت طرفاً في الصراعات القبلية والأثنية القائمة في المجتمع السوداني. سيَّما أن هناك اتهامات تطال بعض النافذين في المجلس السيادي الحالي، بتسليح أو تحريض طرفي النزاع في شرق السودان وغربه، كلٌ حسب انتمائه العرقي والجهوي. لقد أدمنت هذه النخب حرب الوكالة ودأبت على استخدام الهامش الجغرافي كحديقة خلفية لحسم خلافتهم السياسية. لقد عانت الجيوش القومية من كافة الانحيازات التى عرفت عن قيادة القوات (غير) النظامية في زمن الأنظمة العسكرية، الأيديولوجية منها خاصة. لا يخفى على القارئ أن جل الاشكالات التي نعانيها اليوم ناجم عن عدم وجود جيش قومي مستندٍ على أسس احترافية ومهنية، وخاضعٍ لإرادة مدنية.


لا أود أن أركز في هذه المقالة على عجز الدولة في أداء أدوارها الاجتماعية والاقتصادية، أو حتى الثقافية، لكنني أود أن أنوه إلي إخفاق الدولة في تحديد خياراتها السياسية، التي من المفترض أن تستند على فلسفة أخلاقية بعينها. لا أعتقد أن قادة الحركات المسلحة كانوا أكثر كياسة فإن بعضهم – عِوضاً عن حث الدولة الالتزام بالضوابط القانونية والأخلاقية – يسعون لتوظيف ذات النزعات العصبوية سياسياً. وهذا أمر جد خطير، لا سيما أن المجتمع يفتقر لمصفوفة من المقومات التي تخوله لصياغة عقد إجتماعي جديد. إننا إزاء معادلة تستوعب حدي التقاطع بين طرفي "الموضوعية" و"الواقعية"، وحدها فقط مقاربة تثاقفية نقدية يقظة وقادرة على التفكير في تعبيراتها الجمعية والتواصلية، قادرة على إعادة صياغة هويتها بطريقة إيجابية أو إستلهامية، غير خاضعة لإرادة القوة المتغطرسة، وغير تابعة لأي نزعة إنسانية ساذجة (أفاية، 2017).


لقد خلص إيدوارد ويلسن إلى أن البشرية تطورت وارتقت، بفضل التعاون ولم تصل إلى ما وصلت إليه بفضل الانتقاء وتغليب إرادة الأقوى من بني البشر. حريُّ بنا، إن أردنا الخروج من ورطتنا الأخلاقية، أن نتقلد فلسفة النحل في التعاون وألاّ ننحو تجاه أسلوب الذئاب في التعامل. لقد وضعت كلمتي "موضوعية" و "واقعية" في إشارة للتقاطعات بين الخطين اللَّذين تستحدثهما التواصلية، وتنويهاً للآليات التي ربما استحدثت لتفسير العالم، وتفكيك لوغوس العبودية، وتعريف "إرادة القوي من حيث أنها إرادة التعبئة العامة"، كما يقول إرنست يونغر.


لقد انكشف للكل صورة الأجهزة أو الشخصيات التي كانت تدعي الألوهة، متخفيةً وراء الأيديولوجيات أو "عظم الشخصيات"، فما عاد المواطن يُمَنّي نفسه بالتطلع إلى المقدس، بسبب عوامل كثيرة أهمها انتهاء الحرب الباردة، وعدم رغبة القوة الغالبة للتخفي، انعتاق العقل البشري من الوصاية، الإخفاق المريع للدولة في تقديم الخدمات، تعرُّف المواطنين في أقطار المعمورة على نماذج للحكم ناجحة وأخرى فاشلة، انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، و... إلى آخره من العوامل التي جرَّدت الجهات المهيمنة من أدواتها للتخفي، ولكن، بالقدر الذي يعد فيه هذا الأمر انجازاً، فإنه يكون سبباً في حدوث إخفاق مريع، للجهات التي تستخدم الأساليب القديمة في تطويع العامة وحملها على قبول الوصاية بشكلها الرَّث البالي، وغير القادرعلى التأقلم مع الواقع الإنساني الجديد.


ما يجعلني ألجأ إلى المقاربات الفلسفية هذه، هو نرجسية المركز وما ينجم عنها من عنصرية ورومانسية مؤمثلة ضد الهامش، جعلتهم يقولون: لماذا يتصرف هؤلاء الأوباش المتوحشون بهذه الطريقة؟ لماذا يقتتلون ويُفني بعضهم بعضاً؟ وهُم – أي النخب المركزية – إذ يقولون ذلك، إنما يتناسون كل العوامل التي تسببت في إفقار الهامش، وجعله متسولاً يتقوَّت من العويش الفكري والمادي للنخب المركزية. إنهم يكادون يدركون العوامل الهيكلية والبنيوية المؤسسية، التي جعلت الشرق وأصحابه ذوي الموقع الإستراتيجي الحيوي، يلجأون إلى قادة دينيين وآخرين مؤدلجين يطلبون منهم المدد، ويستنفرونهم كي يمدوهم ببضاعة مزجاة، فلا يرغب أولئك المتنطِّعون أن يفوا لهم بدينار من تلك القناطير التي استخرجت من أراضي هؤلاء الغلابة.


ثانيا، عجزُنا عن اعتماد مبدأ الحوارية، ألجأنا للمقاربات الفلسفية، فكل تجذر إثني مبرر، حسب رأي إدغار موران، شريطة أن يصاحبه تجذر عميق جداً في الهوية الإنسانية، ومحاولة من الأطراف للتواصل بغية الوصول إلي هدف محدد. ما زال بعضٌ من النخب المركزية يعتقد أن صراع المركز الهامش هو صراع وهمي تدور رحاه على أرض الذهن، ولذا فهي تطالب أبناء الهامش التخلص من الأثر السحري للدونية التي "يعانون" منها، والتي ربما حرمتهم من مشاعر الدفء المتدفقة عند غيرهم، وجعلتهم يحرصون على ترداد "الثنائيات المخلة" التي تجاوزت مفهوم جلابة - غرابة إلى استحضار مفهوم مركز- هامش.


ثالثاً، ما يجعلنا نلجأ للمقاربات الفلسفية هو عدم قدرتنا، كسودانيين، على استشراف وضع اجتماعي وسياسي ينتج أقصى حد من الاتِّساق والإبداع، ويفرض حداً أدنى من الضغوطات. إن عجزنا عن تعميق مفهوم الحرية، قد حرم الذات السودانية فرصة استحقتها لتحقيق كفاءتها الفطرية، من خلال المقاومة لدكتاتورية البصمات الثقافية - الوراثية والأنوية- سيَّما أن مقاومة الميول الفطرية للاستبداد، أمر ضروري لتفادي كارثة وطنية، تكاد تحدث بسبب التضادية بين الدولة بمعناها الأدائي ، والدولة بمعناها الحضاري والإنساني.


إن تحقيق بشريتنا – في هذه الحالة، سودانيتنا – مرهون باستعادتنا للمبدع الأخلاقي فينا وعدم الركون للمبدع الآلي، والذي كاد أن يجرنا مرة أخرى تجاه دورته التدميرية فالتثاقف كثيراً ما يخضع لعلاقات القوى، ولأن الأبعاد الفلسفية والأخلاقية والجمالية تمثل بعداً ملحاً لإعادة التفكير فيما هو إنساني، فيلزمنا أن نعيد النظر في "إرادة القوى من حيث هي إرادة للتعبئة العامة".


إذا تفحصنا الواقع مقابل تعمقنا للحقيقة، أدركنا أن الحقيقة ليس شيئاً متعالياً على شروطه أو مكتفياً بذاته، وأن الممارسات الواقعية هي مجرد صيغٍ للفكر بمنطقها ودليلها وإستراتيجيتها. إذن فالتمييز بين الحقيقة والواقع هو مجرد "لعبة إرادات ومفاضلة بين قوىً تخلق الاشياء على صورتها، وتبني الاعتقاد بجوهرانية الوعي ونقاء المعرفة" (بلعقروز، 2013).

 

السؤال: هل نفهم الحداثة السودانية ذاتها بشكل واقعي أم شكل حقيقي، سيما أنه لا توجد ثمة حقائق، إنما تفسيرات وإذا شئت تخيلات؟ لعل الحداثيين أنفسهم استجابوا "لمفهومهم" للثقافة أكثر من استجابتهم لموضوعهم المزعوم ... تثقيف الآخرين.


الإجابة على هذا السؤال تستلزم الإقرار بأنه لا توجد ذات عارفة أو واعية بالتاريخ، هناك ذوات متعددة في مقابل اتساع مجال الموضوعية، التي أقر أصحابها بعد مغالطة طويلة أنه لا توجد مقولة جوهرية تأسيسية ممثلة للموضوعية، "إنما هي بُنَىً بلاغية تتخفى وراءها صلات القوة وإستراتيجية القهر والتهميش والبطش" (بلقوز، 2013).

 

السؤال: هل تحل ذاتية الشعور الثوري الذي يؤسس للفوضى محل الموضوعي للسمة "العقلانية" للنظام القائم الأن؟ هل نحن أمام خيارين: الفوضى أو القبول بالاستبداد؟ أم إنها مجرد مغالطة سياسية تستدعيها النخب المركزية للإبقاء على الأمر على ما هو عليه؟
تمتلك الموضوعات رمزية لا يمكن اختزالها في القيمة الاستعمالاتية (الانتخابات كوسيلة للوصول إلي الحكم مثلاً، الوثيقة الدستورية كاجراء حاكم للفترة الإنتقالية)، وإذا حدث ذلك فالإنسان بحاجة دوماً، كما يقول بلقروز، إلى تجاوز شرطه المادي، نحو معانقة التوتر الروحي والحنين إلى الخلود و الأبدية.


ستنتصر الثورة السودانية، والسورية، والمصرية، واليمنية، والفلسطينية، وكل الثورات العربية، لأنها بتضحية أبنائها وبناتها قد لبت نداء الروح، ومن يتمركزون حول ذواتهم ويستجيبون للثقافة البئيسة التي أنتجتهم، إنما يراهنون على فروض الضمير الخاسر، ويظهرون عاطفة وشفقة تخفي مشاعر المنفعة والأنانية.

 

سينتصر الهامش السوداني بذات المنطق، ويسخر يوماً من "الآخر" الذي طالما استتر وراء آليات مادية اقتصادية كما يقول ماركس، أو آليات دينية وأخلاقية ونفسية كما يقول نيتشة، أو نفسية لا واعية كما يزعم فرويد.

 

auwaab@gmail.com

 

 

آراء