الدولة وظلّ الأيديولوجيا الأعوج 

 


 

 

خلصنا في حديثنا السابق إلى أن السبب الأعمق وراء كل هذه (البلاوي) يتلخص في صراع النخب – سياسية مدنية وعسكرية – بشتى أشكالها ومختلف توجهاتها على الدولة (هذا سبق وكتبت عنه أكثر من مرة)

كل واحد عنده تصور أيديولوجي للدولة في ذهنه ويعتقد (لدرجة الايمان الأعمى) بأن الدولة التي في ذهنه وحسب ما تصور له أيديولوجيته، هي الدولة المنشودة، أي: الدولة القوية المستقرة المستدامة.

وهذا ليس حال السودان وحده ولكنه حال كل ما يسمى بالدول العربية (رغم أنني لا أفهم كيف يمكن أن يكون السودان والصومال وحتى مصر ذاتها دولاً عربية).

حسناً.

هم جميعاً، في مختلف التيّارات السياسيّة الرئيسيّة في ما يسمى بالمنطقة العربيّة (الإسلاميّة، واللّيبراليّة، والعلمانيّة، والقوميّة، واليساريّة) يتصارعون على الدولة وكل منهم يريد أن يحبسها في قمقمه العقائدي والفكري، غافلين أو متناسيين، بأن هذه الدولة التي يسعى كل منهم للهيمنة عليها هي دولة (خديج). ضعيفة لم تكتمل دولنتها بعد.

هي عبارة عن تجمعات متساكنة في رقعة جغرافية معينة ، تحمل هويات صغرى مختلفة، وأحياناً متصادمة، ولكنهم لم يتعاهدوا بعد على تعاقد اجتماعي متفق عليه بتراضٍ، يجعل من  هذه الدولة تمثِّل الهوية الكبرى/ الجامعة، لهوياتهم الصغرى (عرقية، ثقافية، دينية، جهوية ..الخ).

ألا ترى بأنهم يقتلون هذه الدولة الضعيفة بذلك؟.

بلى، إنهم يفعلون، وبإصرار وعناد طفولي.

هذا ما خلصنا إليه فيما سبق (1).

وإذن هذا هو السبب الأعمق الذي جعل هذه النخب تتخبط في متاهة لا تعرف لها طريق للخروج منها.

وإذن فإن الفخ الذي وقعت في حبائله النخب السياسية وأوردتنا المهالك بسببه كان هو: "هوية الدولة".

فكل واحد وله تصوره لهوية الدولة، حسبما تقرر له أيديولوجيته.

وهكذا تصبح الدولة عظمة تتنازعها الكلاب. الأمر الذي يزيدها ضعفاً ويفاقم من آلا م أمراضها.

(2)

وهذه المتلازمة كما ترى بدأت أعراضها الأولى قبل نشأة الدولة العربية الحديثة، وقبل بدايات حركة التحرر الوطني. وإنما بدأت مع ما يسمى في أدبيات التاريخ العربي الحديث بعصر النهضة، قبل نصف قرنِ تقريباً من الإعلان الصادر من الأمم المتحدة عام 1945 بحق تقرير مصير الشعوب التي ترزح تحت هيمنة الاستعمار، بعد الحرب العالمية الثانية.

" فعندما أصدر أحمد لطفى السيد (1872- 1963) صحيفة الجريدة عام 1907 والتي تم التأكيد فى افتتاحية عددها الأول إعلان هويتها "المصرية" ثم أعلن بعد صدورها عن قيام (حزب الأمة) في 21 ديسمبر1907، وأعلن الحزب برنامجه، اعترض الشيخ على يوسف صاحب صحيفة (المؤيد) على شعار الحزب بمطلب "الاستقلال التام"، لأنّ هذا كان يعني خروج مصر على الدولة العثمانية (صاحبة السيادة الرسمية على مصر).

فكتب لطفي السيد بوضوح أكثر "إننا نحن المصريين نحب بلادنا ولا نقبل مطلقاً أنْ ننتسب إلى وطن غير مصر، مهما كانت أصولنا حجازية أو سورية". وكتب أيضًا، "فقد كان من السلف من يقول بأنّ أرض الإسلام وطن لكل المسلمين".

 وبهذا كان لطفى السيد يرد على التوجه الأصولي الذى بدأه جمال الدين الإيراني (الشهير بالأفغاني!) الذى طلب من المسلمين أنْ "يعتصموا بحبال الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي بالعربي والفارسي بالهندي والمصري بالمغربي. وقامت لهم مقام الرابطة الجنسية".  وكتب "لا جنسية للمسلمين إلاّ فى دينهم". وكرّر نفس الفكرة فكتب قائلاً: "علمنا وعلم العقلاء أجمعين أنّ المسلمين لا يعرفون لهم جنسية إلاّ فى دينهم واعتقادهم" (2).

أما في السودان فقد كان الأمر أكثر مباشرة ولم يخضع للنقاش مثلما حدث لهوية الدولة في مصر، حيث انبرى الزعيم إسماعيل الأزهري، وقبل أن ينال السودان حق تقرير المصير، إلى الإعلان بأن السودان جمهورية عربية مسلمة (كدا مرة واحدة) وكما قال معلقاً الجنوبي المثقف جات كوث ساخراً: إنهم يطلقون الاسم على المولود قبل ولادته. لينفجر بعدها أول تمرد مسلح ضد الدولة، حتى قبل أن تنال استقلالها، في جنوب السودان: غير المسلم، وغير العربي!!.

(3)

هذا هو ما نسميه بقتل الدولة.

فالدولة في ذهنهم هي أداة لفرض مثالهم الأيديولوجي لا غير.

والمشكلة هنا، كما ترى، كثيراً ما تختلط الدولة بالأيديولوجية في العقل السياسي طالما هي على هذا الشكل والمستوى من التماهي مع الأيديولوجية.

وبهذه الطريقة لا تعدو الدولة على ان تكون ظلاً باهتاً للفكرة السابقة عليها.

الفكرة أولاً..

الفكرة، أيا كانت: ليبرالية، إسلامية، قومية، أممية شيوعية، علمانية، هي الأصل، وما الدولة سوى ظلها الذي يجب أن يُطابق نفسه معها.

ما الدولة سوى تطبيق لمثال سابق عليها، هو الفكرة/ الأيديولوجية.

مرة أخرى – ولا نمل ذلك – هل كان تأسيس الدولة وقيامها وتشييدها هو هدفهم الأول والحقيقي بالفعل؟. بمعنى هل كانت الدولة بذاتها هي همَّهم الأول؟.

أم أن وراء كل هذا الهرج والجدال والصراع على الدولة وتشييدها هدف آخر؟. هدف سابق يعلو عليها؟.

كل الشواهد التاريخية تؤكد بأن بناء الدولة في ذاتها وبذاتها ولذاتها لم يكن الهم الأول والأكبر.

كما لم يكن الصراع بين مختلف الأيديولوجيات يهدف إلى بناء الدولة ككيان أكبر شامل (3).

وإلا لو كان هذا هو همَّهم الأول، لوحَّدهم إذن هذا الهدف ولتعاونوا على تحقيقه. ولكن كان هدف كل منهم هو السيطرة والاستحواذ على الدولة منفرداً.

كانت تلك محاولات عبثية من "الجزئي" لاحتواء "الكلي".

محاولات لم تفعل سوى أنها أضعفت أركان الدولة، التي كان من المفترض أن يقوم عليه بنيانها بعد الاستقلال.

(4)

أرأيت الآن كيف أن الحل للخروج من هذه المتاهة العمياء كان تحت أرجل هذه النخب، ومع ذلك لم تره لأنها كانت تتطلع لما وراءه؟.

كان الحل في أن يعملوا جميعاً لتثبيت أركان الدولة وتشييدها، ولكن كانت أعينهم تتطلع إلى النماذج التي زرعتها شياطين الأيديولوجية في أذهانهم.

والحل؟.

أن يتوقف الجميع عن طرح السؤال المضلل عن "هوية الدولة"، ويفرغوا همتهم لسؤال الدولة.

وأن يعملوا، على "لملمة" أطراف كيانات شعوبهم السودانية المبعثرة، وتوظيف قواها المهدرة عبثاً في الحروب، لبناء الدولة السودانية أولاً، كضرورة وجودية قصوى، لا تحتمل التأجيل والتسويف. لسبب بدهي بسيط وهو: أن هذا التصارع والتجاذب والاقتتال على الدولة لن يقود سوى إلى نتيجة واحدة: تفككها وضياعها وتلاشيها، وحينها لن يجدوا ما يتصارعون عليه، لأن ريحهم ستذهب معها

بتفكك وضياع الدولة لن يكون هناك رابح، فالكل خاسر.

هذه حقائق بسيطة وبديهية لا تحتاج إلى فذلكة أو ذكاء ودروس خاصة.

(5)

نعم هي حقائق بسيطة.

ولكن هل هي مهمة سهلة وبسيطة الإنجاز بنفس القدر؟.

إنها مهمة تاريخية عظيمة تهيأت الظروف لتحقيقها. ولكنها معقدة بذات القدر.

* هي سهلة، إذا توفرت ثلاثة شروط:

- وعي جديد

- نوايا خالصة

- إرادة سياسية صادقة.

* ولكنها بذات الوقت معقدة. إذ تقف معطيات الواقع السياسي والاجتماعي الراهن وتعقيداته في وجه تحقيقها.

ليس ذلك وحسب، بل إنها قد تتخذ مسارات – في حال استمرارها – تقود حتماً إلى النتيجة الكارثية المتوقعة: تفكيك وضياع الدولة.

خاصة وبنية الدولة السودانية تعاني من هشاشة تاريخية بين مكوناتها.

وهاتان نقطتان في غاية الأهمية، تحتاجان إلى شيء من التفصيل، وهما:

- طبيعة تكوين وبنية الدولة السودانية.

- وتحديات الراهن السياسي والاجتماعي واحتمالاته المستقبلية.

وهذا ما سنعالجه لاحقاً بإذن الله.

مصادر وهوامش

(1) يتقاتلون .. والجوارح تحلق انتظاراً، عزالدين صغيرون، صحيفة سودانايل الإلكترونية، 25 سبتمبر, 2021.

(2) في المنطق الإسلاموي: السودان “ولاية إسلامية ؟ .. أي سخافة "، عزالدين صغيرون، موقع صحيفة سودانايل الإلكترونية، 4 أبريل, 2021.

 (3) راجع بالتفصيل "حين يبتلع الفأر فيلاً: الدولة كغدة مفرطة النشاط في الدماغ العربي"، عزالدين صغيرون، موقع صحيفة سودانايل الإلكترونية، نشر بتاريخ: 26 شباط/ فبراير 2021.


izzeddin9@gmail.com

 

آراء