(الديسمبريون) جدلية السلمية والعنف.. الأداة والمحتوى

 


 

ياسر عرمان
8 January, 2022

 

(1)
في الأيام الماضيات، واجهت الثورة والديسمبريين عنفاً غير مسبوق وبلغ حد استعمال الدوشكا وهي في الأصل سلاح مضاد للطيران تم تعديله ليستخدم في حروب المشاة، والديسمبريون ليسوا بمشاة، بل رأيتهم الباذخة هي السلمية ويواجهون هذه الأسلحة الفتاكة بصدور عارية وهذا تطور غير مسبوق يطرحُ في داخل قوى الثورة أسئلة تدور حول جدل السلمية والعنف، وحول العنف والعنف المضاد، والدفاع عن النفس وعن الثورة وهي أسئلة يتصاعد دخانها بأعلى من دخان القنابل المسيلة للدموع، وهذه المقالة موجهة إلى الديسمبريين في بحر تبادل الخبرات والحوار من أجل انتصار الثورة الذي يرى بالعين المجردة والمقالة منحازة للسلمية وضرورة تعميقها كرد وحيد وأداة رئيسية لهزيمة عنف الانقلاب.

(2)

اللاع نف واللا سلاح هو السلاح الذي يخدم الثورة! ومع تزايد عنف الدولة، فإن سلمية الثورة تصبح مدار تساؤل من قوى تشارك وتقدم تضحيات في الثورة، وتساؤل آخر مصنوع ومزايدة من قوى تريد جر الثورة إلى العنف للقضاء عليها من حيث لا تحتسب وتتحسب.
لأن الثورة خرافة التاريخ البديعة والملهمة للتطور الإنساني، فإن روبيسبير أحد قادة الثورة الفرنسية الكبار كان لا ينام إلا متوسداً كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو والذي يشكل بداية التأسيس لمبادئ الحقوق السياسية الإنسانية وسيادة الإنسان، ولقد كان روبيسبير الذي اصبح لاحقاً زعيم جماعة النادي اليعقوبي ورئيس لجنة السلامة العامة في الثورة الفرنسية التي أعدمت حوالي (17) الفا مِن مَن أعتقد انهم معادون للثورة وكان مهتماً بانتصار الثورة مما خلق له أعداءً كثرا لفوا في نهاية المطاف الحبل حول رقبته، فالثورات تهدد المصالح الاجتماعية القديمة وتبني نظما اجتماعية جديدة ولو بعد حين ولقد غير الديسمبريون السودان إلى الأبد.

(3)

السلمية سلاحها هو الجماهير ونارها وبريقها مصنوع من ملايين الحناجر والافئدة والقلوب المؤمنة المدفوعة بالعاطفة والعقل المشرئبة إلى المجد، وهي في خاتمة المطاف ستجبر أقساما من القوات النظامية على الانحياز ومخالفة قادتهم والخير فيما تختاره الجماهير دوما.
الثورة جميلة والله أجمل وهو يحب الجمال وإرادة الفقراء والمهمشين وشوقهم للعدل من إرادة السماء، والثورة تنثر بذورا جديدة وتمهد الحقول.
الثورة تعيد تركيب الأشياء وتهندس المستقبل وتعيد رسم العلاقات الجديدة بين القوميات والإثنيات والثقافات والاقتصاد وأجهزة الدولة وتعيد رسم الدول والمجتمعات، ففرنسا أشهر معالمها الثورة الفرنسية قبل برج إيفل، والثورة تعيد وصل ما انقطع من حديث في هذه البلاد وتعيد الحوار مع الجنوب، فلقد غاب الجنوب حينما غاب المشروع الذي تطرحه الثورة.
إن الدماء التي أعادت إيماننا بالوطن بعد أن كفر به بعضنا عند سنوات عجاف ترسم المستقبل أيضاً ولأول مره قد أصبح لعلم السودان قيمة وسعر ويُباع في الطرقات على المارة، بعد أن كان وحيداً وحزيناً لا يحفل به أحد، وقذف به رئيس الدولة المخلوع وهو يستعد للإدلاء بحديثه بإعلان الطوارئ.

(4)

توصلت القوى الديمقراطية منذ أكتوبر 1964م إلى أهمية انحياز أقسام حاسمة من القوى الوطنية بالقوات المسلحة لضمان نجاح الثورة، كما توصلت لاحقاً قبيل أبريل 1985م بأن السلاح في يد القوى الوطنية داخل القوات المسلحة ربما غير كافٍ لحسم المعركة إلى جانب الثورة، وطرحت القوى الوطنية في تجربة التجمُّع الوطني الديمقراطي (الانتفاضة المحمية) ، كما أنشئت قوى حزبية وطنية أجنحة مسلحة إلى جانب الحركة الشعبية في شرق السودان، ودار حوار طويل حول أي الطرق ستؤدي إلى انتصار الثورة، وطرح لاحقاً أن حزبنة القوات النظامية ستمنع قيام الثورة، كل هذا النقاش تم حسمه من جانب الديسمبريين الذين انتصروا في أبريل 2019م وخلفهم (30) عاماً من تراكم التضحيات بمختلف الأدوات والوسائل، ولكن العمل السلمي كان حاسماً.
إنّ ثورة ديسمبر الحقيقية نمت وترعرعت في مختبر الاعتصام وشبّت عن الطوق بعد فض الاعتصام.

(5)

قضية السلمية والعنف، تلك القضية القديمة المُتجدِّدة تطل برأسها من جديد في دفاتر الديسمبريين وفي أجندتهم، وبدأت دعوات خافتة إلى استخدام السلاح أمام عنف الدولة المُتصاعد تعلو وتهبط، وهذه الدعوات تحتاج إلى مُناقشة موضوعية حتى لا تنجر الحركة الجماهيرية إلى عُنف الدولة وتستخدم سلاحها بعُنف مُضاد وتهجر منعتها وسلاحها المُجرّب في السلمية وتحصد قمحاً سورياً أو عراقياً أو ليبياً أو يمنياً مما يُغيِّر مُحتوى الثورة، وعلينا أن نتفحص نتائج ما جرى في تلك البلدان وثوراتها.
على العكس مما جرى في أكتوبر 1964م وأبريل 1985م، فإن السودان الآن بلاد مسلحة بلا ضفاف، من حركات ومليشيات وقوات نظامية ممزوجة بانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان والسلاح خارج سيطرة الدولة يمتد من الريف إلى المدن وعلى رأسها العاصمة ولا تُوجد قيادة وسيطرة مركزية على السلاح المرتبط أيضاً بنهب الموارد والحواضن الإثنية، وفي مثل هذا المناخ تطل أداة الديسمبريين في السلمية فارعة وعابرة للإثنية والجغرافيا وللريف وللمدن ومثل ما يُساهم وسط السودان في الثورة، فإن دارفور وشرق السودان قوى عضوية فاعلة في مسرح الثورة السلمي وكافة أرجاء السودان، بل ان الهامش والريف ممثلاً في الدمازين والقضارف وعطبرة لعب دوراً حاسماً في تصاعد الثورة وانتصارها.
إنّ عظمة ثورة ديسمبر تكمن في أن حمضها النووي مأخوذ من اتساع أرجاء البلاد وهو يصلح لأساس لمشروع وطني للمواطنة والديمقراطية والتنمية وبناء سودان جديد.

(6)

العمل المُسلّح في أوجهه التقليدية وسنوات ازدهاره في القرن الماضي الذي تصدّرته حركات التحرر الوطني لم ينتج نظاماً ديمقراطياً في أهم وأعظم تجاربه في أنغولا وموزنبيق وزيمبابوي واثيوبيا واريتريا وجنوب السودان ورواندا ويوغندا والجزائر، وظلت معضلة حركات الكفاح المسلح في السودان بأنها شديدة الاهتمام والانتباه بقضايا المواطنة والسلطة والثروة في إغفال لا تخطئه العين لقضية الديمقراطية والعمل المسلح مرتبط في معظم تجاربه بصعود قوى اجتماعية محدودة إلى دست الحكم تتنازل عن شعاراتها الأولى وتتحكم في مجتمعاتها بقوة السلاح وتموت مشاريع الكفاح المسلح الثورية عند منزلقات السلطة والثروة ومياهها الآسنة.
كذلك أن القوى المدنية في السودان وأحزابها قليلة الحساسية وضعيفة الكسب حينما يتعلق الأمر بقضية المواطنة بلا تمييز، فهي في الغالب أيضاً تأخذ قضية الديمقراطية بمعزلٍ عن قضية المواطنة ومشروع البناء الوطني.
طرح على دفاتر الثورة، قضية حماية الثورة بالسلاح وهي قضية في الغالب إن نجحت ستكرر تجارب الجناح المسلح لحركات التحرر الوطني التي تنتهي مشاريعها عند سيطرة المسلحين على السلطة وهزيمتهم لحكومة الأمر الواقع وهي قضية شائكة منذ أن طرح سؤالها في كميونة باريس حتى يومنا الراهن، وظل هذا السؤال يعلو ويهبط في ارتباط بمشروع الثورة وانتقال السلطة ومشاركة الملايين من الجماهير واحتياجها للسلاح لحسم قضية انتقال السلطة ولا إجابات حاسمة حتى اليوم، إلا أنّ الأقسام المسلحة من الثوريين لم تلتزم في معظم الأحوال بالمشاريع الثورية التي طرحتها للجماهير.

(7)

إن أفضل الخيارات في اعتقادي المطروحة الآن هي تكمن في حشد مزيد من الجماهير لغل يد عنف الدولة والملايين بسلميتها هي التي ستكسر عنف الدولة وتجبر أقساما واسعة من القوات النظامية للانحياز لرغبة الشعب وستتصاعد التناقضات داخل القوات النظامية في الضغط عليها للانحياز والوصول إلى تسوية مع الجماهير، فالقوات النظامية مخلوقة ومصنوعة من صلب الجماهير رغم أن بعض قياداتها ذوو أطماع ومصالح ومخاوف، ولكن جسمها الصلب يمشي في الأسواق ويُعاني مع الجماهير ويسكن الأحياء الشعبية وذو قربى ونسب بالشهداء والجرحى، ولقد رأينا بعضهم في تشييع بعض جثامين الشهداء.
ديسمبر أوسع واعمق من سماكة جلد القوات النظامية وحينما تهتز الشوارع بأصوات الديسمبريين ستتجاوب القوات النظامية على نحو تكتيكي أو استراتيجي واللا عنف والسلمية هي سلاح الجماهير الأمضى وبمفارقتها ستسمح الحركة الجماهيرية لنفسها في تعيين مصفٍ يعمل على تصفية ثورة الشعب وإغراقها في بحر من الدماء وهيهات.

(8)

إن المشاركة الواسعة للجماهير والتضامن والمصالح الإقليمية والدولية هي الصيغة الأفضل للوصول لديمقراطية مسنودة بسلمية الثورة ومشاركة الملايين، ان العنف وإدخال السلاح بدلاً من السلمية سيؤدي إلى تراجع المشاركة الواسعة للجماهير وهي زاد المستقبل وفي بحر من العنف سقطت الثورة السورية، فلنتمسك بسلمية الثورة وبمداواة الجراح بمزيد من السلمية وبمزيد من نهوض الجماهير.
في اعتقادي وآخذاً من تجربتي لنحو 36 عاماً في العمل المسلح فان السلمية هي السلاح والأداة لبناء مجتمع ديمقراطي وسودان جديد، سودان الجماهير والنساء والمهمشين، على الرغم من تعقيدات الوضع داخل القوات النظامية ووجود أكثر من جيش وانتشار الحروب والسلاح، فإن شعبنا بسلمية ثورته سيصل إلى مرافئ الحرية والسلام والعدالة بفضل من تضحيات الديسمبريين.

 

آراء