الذات المرهفة وأصداء الذاكرة والمكان … بقلم: أمير حمد _برلين

 


 

د. أمير حمد
7 March, 2010

 

 

يعود الراوي \ الكاتب فيتذكر علاقته الروحية بأهله في غربته\ لندن. " كنت أطوي ضلوعي على هذه القرية الصغيرة , أتهيأ الوجوه في لندن كوجوه أهل ود حامد . من كثر ما  أفكر فيهم ) يقول الراوي مختصرا وجوده الحقيقي في كل هذا العالم بأنه إنسان مستقر في بيئة مستقرة لا يمكن أن يعيش خارجها," لا بد أنني من تلك الطيور التي لا تعيش إلا في بقعة واحدة من العالم ..... لكنني من هنا كما أن النخلة القائمة في فناء دارنا نبتت في دارنا ولم تنبت في دار غيرنا......" هذا هو الفارق النوعي بين الشرقي المستقر ذو العلاقة الوطيدة بالمكان والزمان خلافا لنظير الأوروبي  الحضري المتنقل  غير آبه ومكتشف لهذه العلاقة الروحية الشبيه بالنهر الجوفي

في أكثر من موقع في هذه الرواية يؤكد لنا الكاتب تعلق الراوي بالمكان وبيئة ود حامد في كل تنوعاتها فيبرز شخصية الراوي من خلال هذه العلاقة ) ويتجه بعض الكتاب إلى البيئة المحلية, أي اللون المحلي , فيعنون بإبرازه في القصة أعظم العناية ويحاولون أن يعكسوا أثر البيئة الطبيعية التي يحيون فيها , في نفوسهم وتكوين أذواقهم . وقد يختص بعضهم بيئة معينة........"

إن بيئة قرية ود حامد الطبيعية بيئة زراعية وأهلها مزارعون على ساعد النيل وما الراوي \ الشبيه بالكاتب في انتمائه إلى هذه البيئة أرضا ومجتمعا " إلا شخصية مرهفة الإحساس تستوقفها البيئة الطبيعية وفصائل مجتمعه بقرية ود حامد العاكسة بدورها لتأثير الطبيعية عليهم .

حينما عاد الراوي هذه المرة إلى قريته لم تكن عودته مختلفة عن عودته من الغربة بلندن فكما ذكرنا " لقد تحررت كل طاقاته الروحية الشفافة الحبيسة في الغربة فظل ينظر إلى المكان \ البيئة , ومجتمع ود حامد  عبر دثار النوستالجيا , ولم يزل يعيد ويرتب علاقاته بالزمان والمكان " البوادي تترامى أمامنا كبحور ليس لها ساحل وتتصبب عرقا ..... ونظن أن ليس بعد متقدم. ثم تغيب الشمس ., ويبرد الهواء, وتتألق ملايين النجوم في السماء.

ويغني مغني الركب , بعضنا يصلي جماعة وراء الشيخ وبعضنا يتحلق حلقات يرقصون ويغنون وفوقنا سماء دافئة رحيمة ....." هنا في هذا المقطع من الفصل الرابع يسترسل الراوي في علاقة روحية مع مجتمعه (الصوفي المتسامح " ) الذي يصلي فيه من يصلي , ويرقص فيه من يرقص فتتأكد بيئة القصة في حقيقتها الزمنية والمكانية .

إن هذه الصورة هي صورة لبيئة أسطورة ( عرس الزين ) الصورة المطابقة لبيئة الكاتب كما ذكر في بعض لقاءاته . تكرر هذه الصورة كذلك في فصل ( من وحي الصحراء ) حينما اجتاز الراوي الصحراء وتوقف فيها مع ركب مسافرين آخرين.

كما جددت الإشارة فإن بيئة الراوي \ قرية ود حامد بيئة زراعية ".... وعلى الشاطئين غابات كثيفة من النخل وسواقي دائرة ومكنة ماء من حين لآخر.

الرجال صدورهم عارية يلبسون سراويل طويلة يقطعون أو يزرعون حين تمر بهم الباخرة كقلعة عائمة وسط النيل......"

نلاحظ طيلة هذه الرواية . وكما في هذا المقطع , بأن الكاتب لم يعن بالوصف لذاته لعكس بيئة طبيعية جميلة وإنما أدخله كعامل مؤشر لكشف عن عواطف شخصية الراوي وأحاسيسه الداخلية تجاه البيئة _المكان كإحساسه بالاستقرار والأمن والتعلم منها كأنه الطبيعة نفسها  في تعاملها مع الحياة نفسها تماما كشأن جده . يقول الراوي  عن جده

 " إنه ليس كشجرة سنديان شامخة وارفة الفروع في أرض منت عليها الطبيعة بالماء الخصب , ولكنه كشجيرات ألسيال في صحارى السودان  السميكة اللحى حادة الإشواك تقهر الموت لأنها لا تسرف في الحياة ......."

وكذلك كما رأيناه يقول في بداية الرواية حينما عاد من غربته لمدة سبع سنوات بلندن.........إنني لست ريشة في مهب الريح ولكنني مثل تلك النخلة مخلوق له أصل له جذور له أهداف "

وكما يقول كذلك في هذا الفصل حينما عاد من إجازته السنوية واحتفى به أهله واستقبلوه بحفاوة هو وزوجته وابنته " أصوات الناس والطيور والحيوانات تتناهى ضعيفة..... وطقطقة مكنة الماء المنتظم تقوي الإحساس بالمستحيل ...."

ما أن عاد الراوي من عطلته السنوية إلى قريته \ ود حامد, إلا وتحلقه  أهله محيين له ولزوجته وأشبعوا طفلته بالقبل.هنا يشير الكاتب إلى دور المجتمع في تربية الفرد وأهمية ( الحب ) والاعتناء بالفرد  منذ صغره. هذه شريحة ذات صلة اجتماعية وطيدة نبت الراوي بينها كفرد له جذور ومسؤولية نقيضا للبطل ".......إنهم ينتظرونني في الخارج .... يمطرون الطفلة قبلا يتناولون حملها على أيديهم....."

ومثلما يسرد الكاتب أحداث القصة متمعناً في بيئة ود حامد بين ( التسجيلية والخيال الغني ) نجده ينعطف بعنصر المرح إلى إشراك القارئ في هذا العالم البسيط المصغر. فالمرح الفكاهة لا يستخدمها الكاتب كذلك للمرح في حد ذاته وإنما كامتداد طبيعي للشخصيات في هذه الرواية كما هو الحال في توظيفه للطبيعة للجلي عن انفعال وتأثر الراوي.

 

أخيرا نجد أن البطل كذلك قد أدرك مدلولات المكان الآمن ودور المجتمع المعافى في تنشئة الفرد ونعني بذلك قرية ود حامد التي لم يختر العيش فيها اعتبطا وإنما لإدراكه لمقوماتها المذكورة هنا واتي ظل يفتقدها كقبلة حياته .فهاهو يوصي الراوي بولديه قبل انتحاره بهذه الأسطر

(أنه لا يهمني أي نوع من الرجال كان أبوهما ـ إذ كان ذلك ممكناً أصلاً وليس هدفي أن يحسنا في الظن , حسن الظن هو آخر ما أسعى إليه ـ ولكن لعل ذلك يساعدهما على معرفة حقيقتهما ولكن في وقت لا تكون المعرفة فيه خطراً . إذا تشاءا مشبعين بهواء هذا البلد وروائحه وألوانه وتاريخه ووجوه أهله وذكريات فيضاناته وحصاداته وزراعاته فإن حياتي ستحتل مكانها الصحيح كشيء له معنى إلى جانب معاني كثيرة    أخرى أعمق مدلولاً).

 

  Amir Nasir [amir.nasir@gmx.de]

 

آراء