الذكرى الثانية والستون لاتفاقية مياه النيل 1959
تاج السر عثمان بابو
26 November, 2021
26 November, 2021
نتابع في هذه الدراسة بمناسبة الذكري الثانية والستون لاتفاقية مياه النيل في 8 نوفمبر 1959 م جذور مشكلة مياه النيل بين السودان ومصر، والآثار التي ترتبت علي السودان من الاتفاقية .
أولا : جذور المشكلة واتفاقية 1929.
ترجع جذور مشكلة مياه النيل بين السودان ومصر الي بداية القرن العشرين ، عندما فكرت الإدارة البريطانية في ادخال زراعة القطن في السودان ، وبرزت مخاوف مصر من أن بريطانيا تقصد التدخل في توريد المياه لها، ونتيجة لذلك شُكلت لجنة من الخبراء في عام 1925م لبحث مسألة مياه النيل ، وتقديم مقترحات متعلقة بالأساس الذي يمكن أن تُوزع به مياه الري مع الاعتبار الكامل لمصالح مصر دون الاضرار بحقوقها القومية والتاريخية (محمد عمر بشير : تاريخ الحركة الوطنية في السودان، ترجمة هنري رياض وآخرون، المطبوعات العربية، الطبعة الثانية 1987م ، ص 120).
والحق أن لجنة الخبراء كانت استمرارا للجنة مشاريع النيل المكونة في عام 1920 ، والتي عُيّن أعضاؤها تعيينا رسميا من جانب الحكومة البريطانية والمصرية، ولها صفة ذات صبغة دولية.
فقد كانت لجنة عام 1920 مكونة من رئيس هندي الجنسية وعضو معين بواسطة جامعة كامبردج ، وعضو منتخب بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية ، وقد أوصت في تقريرها بوجوب اعطاء مصر الحق في استخدام مياه الصرف في موسم التحاريق، وأن يستخدم السودان مياه الفيضان ، ولكن لم يكن من الممكن الوصول الي اتفاق وقتئذ (بشير، المصدر السابق ، ص 120).
مهدت حوادث عام 1924 والانذار الموجه الي مصر السبيل الي إعادة النظر في التوصيات السابقة وعلي أساس تقرير عام 1920 استطاع الخبراء الوصول الي اتفاق عام 1929 ، وضمن هذا الاتفاق مصالح مصر في مياه الري، فقد نصت اتفاقية مياه النيل لسنة 1929 علي الآتي :
1- لأنه لا يجوز للسودان أن يستعمل قطرة من مياه النيل الا اذا فاض ذاك الماء من حاجة مصر ، وخاصة في زمن التحاريق.
2- إن السودان قطر يعتمد علي الأمطار ، فلا يجوز أن يلجأ للزراعة بالري الصناعي اذا بحث امكانيات الري بالمطر بحثا وافيا.
3- إن مشروع الجزيرة قد يزرع القطن طويل التيلة ، وفي هذا مافيه من مضاربة للقطن المصري في الأسواق العالمية.
4- إن مصر في حاجة للتوسع الزراعي لضمان المعيشة لنسلها المتزايد وللمحافظة علي ميزانها التجاري.
ثانيا : المشكلة بعد اتفاقية فبراير 1953 للحكم الذاتي
في الفترة :1952- 1956م برزت مشكلة مياه النيل مع بدء المحادثات مع الجانب الانجليزي بعد اتفاقية فبراير 1953 للحكم الذاتي ، ومع بدء المباحثات مع الجانب الانجليزي – المصري.
وبعد فترة قصيرة من ابرام اتفاقية 1953 جرت اولي مفاوضات مياه النيل ، وكان الرأي السوداني تتلخص في : " أن اتفاقية مياه النيل 1929 طرفاها هما انجلترا ومصر ، والأولي لم يأت توقيعها علي الاتفاقية باسم السودان ، كما هو الحال في غيرها من الاتفاقيات ، ولأن السودان يحتاج الي الماء الذي حُرم منه بواسطة هذه الاتفاقية ، وعليه فأن السودان يطالب ب 35 مليار متر مكعب باعتبار أن مستقبل الرخاء في السودان يقوم بلا شك علي التوسع في المساحة المروية" ( عبد الشافي صديق : مشكلة مياه النيل في العلاقات السودانية المصرية " 53- 1968م" ، صحيفة الميدان 11/11/ 1985، 12/11/ 1985م).
وكان الجانب المصري في مفاوضات 4/4/ 1955م في القاهرة يقترح أن يُعطي السودان 4 مليارات فقط أو ثمانية مليارات بما فيها الفاقد ، بينما يُعطي 76 مليار لمصر بذات الشروط" ( عبد الشافي، المرجع السابق)، ورفض الجانب السوداني الاقتراح المصري.
وظل الجانب السوداني يكرر القول أننا لا نريد الا نصيبا عادلا من الماء غير المحجوز الذي يذهب الي البحر باعتبار أن هناك مسائل ثابتة كحقائق غير مختلف عليها وهي : أن ماء النيل في اسوان معروف المقدار 84 مليار متر مكعب ، وما تستهلكه مصر 48 مليارا ، وما يستهلكه السودان اربعة مليارات.
وكان الجانب المصري يري أنه لا يمكن النظر في تقسيم غير المحتجز الا بعد بناء السد العالي ( عبد الشافي، المرجع السابق). ووصلت المفاوضات من الجانبين الي طريق مسدود .
وتأثرت هذه المفاوضات بالصراعات الداخلية بين حزب الأمة المناوئ لمصر والأحزاب الاتحادية، وانحياز الحكومة للأحزاب الاتحادية.
ثالثا: إعلان الاستقلال 1956 واتفاقية 1959م
باعلان الاستقلال السياسي للبلاد ، كان من الطبيعي أن تبرز من جديد المسائل المتنازع عليها مع مصر لارتباط تلك المسائل بقضايا ما بعد الاستقلال كقضايا التنمية والسيادة الوطنية.
بوصول حزب الأمة إلي دست الحكم أعلن سكرتيره العام ورئيس الوزراء القائمقام عبد الله بك خليل عدم اعتراف حكومته باتفاقية مياه النيل لسنة 1959 م باعتبار أن السودان لم يكن طرفا فيها ، وعلي ذلك الأساس طفقت حكومة عبد الله خليل في تنفيذ المشاريع المائية السودانية بعيدا عن اتفاقية 1929م ، خلافا لتوقع الجهات المصرية ، بل ومضت الحكومة السودانية خطوات أبعد باحتجازها المياه خلف خزان سنار في أول يوليو 1958م ، واحتجت حكومة مصر علي ذلك في مذكرة بتاريخ: 15 /8/ 1958 ، اتهمت فيها السودان رسميا بالتسبب في خسارة مصر مبلغ 1,150.000 مليون جنية من جراء حجز مياه النيل ( عبد الشافي ، مصدر سابق).
وردت الحكومة السودانية برفضها للمذكرة المصرية بحيثية قانونية فحواها " أن دولتي الحكم الثنائي تقدمتا للسودان مباشرة بعد إعلان الاستقلال بسؤال – عما اذا كان السودان يود الالتزام بالاتفاقيات والمعاهدات التي وقعناها نيابة عنه - وهنا طلب السودان تلك الاتفاقيات ليدرسها قبل أن يعطي رأيا بذلك ، غير أن حكومة الجمهورية العربية المتحدة لم تكن تنتظر من السودان أن يعطي اعتبارا لتلك الاتفاقية" .
وظل الشد والجذب محتدما بين الجانبين المصري والسوداني ، وكان الجانب السوداني يدعم حججه بالآتي:
1- أن هذه الاتفاقية (1929م) ظالمة ومجحفة بحقوق السودان ، وأن الاتفاقية انبنت علي أساس أن الأراضي الصالحة للزراعة لا تزيد عن مليون فدان ، والحقيقة أنها تزيد علي اربعة أمثال هذه التقديرات بالاضافة الي هذا الخطأ في التقدير ، فان عدد سكان السودان وسرعة التعمير فيه قد تضاعفت منذ توقيع الاتفاقية ( نفسه)
2- كما كانت الحكومة الوطنية بعد الاستقلال تهدف لتحقيق مشاريع زراعية ضخمة كامتداد المناقل لمشروع الجزيرة وغيره من المشاريع الواقعة علي النيل وفروعه ، وذلك بغرض زيادة وتنويع المحاصيل النقدية.
وفي 17 نوفمبر 1958م كما هو معلوم وقع الانقلاب العسكري وبدأت المفاوضات بين الحكومة المصرية والسودانية ،في ظل ديكتاتورية الفريق عبود وغياب رأي شعب السودان وأحزابه.
وبدأت تلك المفاوضات في 10 أكتوبر 1959 ، وترأس الجانب السوداني اللواء محمد طلعت فريد عضو المجلس الأعلي للقوات المسلحة ووزير الإعلام ، وترأس الجانب المصري زكريا محي الدين وزير الداخلية ، وأعلن أن المفاوضات لبحث الشؤون المعلقة بين البلدين " ما عدا نزاع الحدود" ( عبد الشافي ، مرجع سابق).
وفي الثامن من نوفمبر 1959م جري التوقيع علي الاتفاقية الجديدة لتقسيم مياه النيل بين مصر والسودان والتي نال فيها السودان بموجبها 18,5 مليار متر مكعب ، ونالت مصر 55.5 مترمكعب ، وهناك 10 مليار تمثل فواقد السد العالي " متوسط الايراد عند اسوان يبلغ 84 مليار متر مكعب).
واشتملت الاتفاقية علي ملحق نص علي سلفة قدرها 1,5 مليار متر مكعب من حصة السودان لمصر في حالة حاجة الأخيرة لها تنتهي عم 1977م. ( علما بأن السودان لم يستخدم نصيبه كاملا لغياب المشاريع الكافية).
ونصت ملاحق الاتفاقية علي دفع مصر 15 مليون جنية كتعويض عن الأراضي التي ستغمر بمياه السد العالي ولتهجير سكان وادي حلفا ، ونشير هنا الي أن مفاوضات الحكومة السابقة كانت تطلب 35 مليون جنية كتعويض ( مذكرة مواطنو حلفا ، كتاب "ثورة شعب" ، اصدار الحزب الشيوعي السوداني ، 1965، ص 269- 270- 271).
رابعا : آثار اتفاقية 1959
كان من آثار الاتفاقية وقيام السد العالي واغراق منطقة حلفا التاريخية والأثرية وتهجير السكان، أن عارض سكان وادي حلفا والقري التابعة لمركز حلفا عملية التهجير وتلخصت مطالبهم في الآتي:
1- أن يكون الموطن الجديد هو جنوب الخرطوم بدلا عن خشم القربة.
2- أن تُمنح التعويضات علي أساس تقديرات اللجنة القومية.
3- أخذ رغبات المواطنين النوبيين بما يضمن توجيههم للحفاظ علي قوميتهم والعمل علي تطويرها ضد عوامل الانقراض ( محمد أحمد المحجوب ، الديمقراطية في الميزان ، بدون تاريخ ، ص 182).
كما قامت مظاهرات النوبيين في حلفا وعطبرة والخرطوم وشندي وبورتسودان المنددة بتلك الاتفاقية، فما هي الآثار التي ترتبت علي الاغراق؟
* ضياع الآثار والبحث الأثري
أما عن المنطقة التي ستغمرها مياه السد العالي في بلاد النوبة السودانية من الحدود الجنوبية لمصر الي مسافة تبلغ مائة وثلاثة عشر ميلا داخل الأراضي السودانية ( تبدأ من "فرس" وتتهي في "دال" بأرض الحجر) ، ويتصف هذا الجزء من السودان بضيق واديه وكثرة ما يعترض مجري النيل من جنادل ، ويقلل القيمة الإنتاجية لهذه المنطقة ضيق الشريط الذي يمكن زراعته علي جانبي النهر وأكثر من كل هذا ، فان الاقليم عديم المطر لا يصيبه الا بعض الرزاز احيانا ، وعلي هذا فقد ارتبطت حياة السكان بالنيل منذ قديم الزمان والآباد ، فكانوا يزرعون الأراضي الضيقة التي يغمرها النهر عند فيضانه ، وينحسر عنها وقت انخفاضه . أما الزراعة الرئيسية فكانت تعمتد علي السواقي التي لا تروي الا مساحات محدودة ، ولو أن استعمال الطلمبات قد انتشر في الفترة موضوع الدراسة في الجهات التي نجد فيها أراضي فسيحة، وهذا الاقليم كان يقطنه خمسون الف نسمة من النوبيين ، تمّ ترحيل خمسة واربعين الف منهم الي خشم القربة في شرق السودان علي نهر عطبرة ( نجم الدين محمد شريف ، انقاذ آثار النوبة ، مصلحة الآثار ، رسالة المتحف رقم 6 ، بدون تاريخ ، ص 2 ).
بالرغم من كل هذا ففي الفترة موضوع الدراسة لم يجد هذا الجزء من السودان حظا ملموسا من البحث الأثري، اذ لم تمتد اليه يد العلماء والباحثين من قبل الا بالقدر اليسير عندما قام بعض علماء الآثار في اوائل هذا القرن "العشرين" بتنقيب بعض الحصون الفرعونية تنقيبا جزئيا في معظم الأحيان، فهنا مجال واسع للبحث العلمي الأثري لملء الثغرات التي نجدها في تاريخ السودان القديم ( نجم الدين ، المرجع السابق ، ص 2).
وبالرغم من الجهد الذي بُذل في حملة انقاذ آثار النوبة السودانية التي انحصرت في مشكلتين اساسيتين:
اولاهما تتعلق بالأعمال الأثرية والثانية والثانية تتصل بنقل اربعة معابد من عصر الدولة المصرية الحديثة ، ومقبرة من نفس العهد فريدة في نوعها من وادي حلفا الي الخرطوم وإعادة تشييدها هناك ( نجم الدين ، ص 3) ،" بدأت حملة انقاذ آثار النوبة في ديسمبر 1958 بتضافر جهود مصلحة الآثار السودانية ومنظمة اليونسكو".
علي الرغم من تلك الجهود الجبارة والعظيمة التي بذلتها مصلحة الآثار ومنظمة اليونسكو والنتائج العلمية التي برزت من تلك الحملة ، الا أنه علي حد تعبير د. عبد الشافي صديق " أن التهجير المتعجل للنوبيين أمام زحف مياه البحيرة قد حال دون الدراسة الاثنوغرافية والانثروبولوجية للحياة النوبية قبل ترحيل اهليها الي بيئة أخري جديدة ووسط وحدات عرقية متبائنة ، ولذا لا يمكن انكار أن قيمة علمية عظيمة قد ضاعت – هي الأخري ضمن ما ضاع".
كما يقول د. عبد الشافي : " ان هذه الاتفاقية جاءت حبلي بأجنة الاختلاف عليها في ظل أية حكومة تحرص علي تحقيق السيادة الوطنية والديمقراطية ( عبد الشافي ، المصدر السابق).
"الجدير بالذكر أنه بعد نهاية مدة الاتفاقية ( ثلاثون عاما) ، جددت حكومة الصادق المهدي هذه الاتفاقية المعيبة"!! .
* تعويضات غير مجزية وفساد :
من الآثار ايضا تعويضات غير مجزية وفساد في عملية التهجير:
فلم تكن التعويضات مجزية ، فعلي سبيل المثال كانت تعويضات النخيل علي النحو التالي:
القنديلة 45478 شجرة في 10 جنية !!
البركاوي 66022 شجرة في 10 جنية
البرتمودة 9192 شجرة في 8 جنية
الجاوة 240140 شجرة في 5 جنية
البركور 12117 شجرة في 1 جنية
وبذلك تصبح جملة النخيل 371949 شجرة ، وجملة التعويضات عنها 253 ,2,393 جنية .
واذا علمنا أن تقديرات اللجنة القومية لتعويضات النخيل كانت 33,589,947 جنية ، فان الفرق بين هذا التقدير وبينما ما قررته الحكومة يصبح أكثر من 31 مليون جنية للنخيل فقط ( ثورة شعب ، ص 287- 288).
كما قدرت الحكومة العسكرية التعويض عن شجرة العنب ب 400 مليم ، بينما كان سعر كيلو العنب 200 مليم!!
ومن ثم عارض النوبيون هذه التعويضات غير المجزية ، وخرجوا في مظاهرات ومواكب ضد تلك التعويضات ، هذا اضافة للفساد الذي صاحب تلك العملية من جانب الحكومة العسكرية.
نماذج من الفساد :
علي سبيل المثال حول بناء المساكن في خشم القربة تقدمت بعطاء ثلاث مؤسسات من بلغاريا الاشتراكية ومن بريطانيا والمانيا الغربية ، وكان العطاء البلغاري يمتاز بأنه الوحيد المستوفي لشروط العطاء الأصلي ويبلغ 12,232,152 جنية ، كما أبدت جمهورية بلغاريا الشعبية استعدادها لتخفيض العطاء الأصلي بمقدار 22,500 جنية ، وأن تشتري قطنا من السودان بما يساوي 25% من قيمة العطاء ، كذلك عرضت جمهورية بلغاريا استعدادها لمنح السودان جميع المساكن التي تبني علي حساب الحكومة البلغارية لسكن الفنيين والعمال".
وفي نفس الوقت تقدمت شركة (تيرف ) الانجليزية اسما والتي هي في الواقع من جنوب افريقيا (التي أعلنت حكومة السودان مقاطعتها لما ترتكبه من أعمال فاشية ضد الوطنيين الأفريقيين ، وخاصة سياسة التفرقة العنصرية).
تقدمت شركة تيرف هذه بعطاء يبلغ 13,137,585 جنية ، ولا يقوم علي أساس مواصفات العطاء الأصلي اذ اقترحت الشركة بناء المساكن بالخرصانة المعشعشة ، وجعلت وكلاء لها شركة ميتشل كوتس الانجليزية ، وجماعة من التجار بينهم زين العابدين صالح والمهندس حسن كرار وسيدة أجنبية تدعي فالفس .
" عرضت الحكومة هذه العطاءات علي المهندسين المستشارين لخشم القربة وهم شركة من المانيا الغربية تدعي (كوكس)، وقد كشف هؤلاء الألمان جميع العطاءات للمؤسسات الالمانية وخاصة شركة (فيلبس هانزمان) والتي قدمت في نفس الوقت للعطاء ، وقد تمّ هذا الكشف عن طريق التاجر ميرغني ابو شمة وهو وكيل لشركة (كوكس) وشركة (هانزمان) في نفس الوقت".
بالطبع كان موقف المستشارين الالمان معاديا للعرض البلغاري السخي وحاولوا الطعن فيه بشتي الطرق حتى يبعدوا بلغاريا الاشتراكية عن هذا الميدان الحيوي، وليفتحوا الطريق أمام مؤسسات المانيا الغربية التي يمثلون مصالحها".
وفي هذه المرحلة تقدمت للعطاء شركة (فيلبس هانزمان) من المانيا الغربية وبعرض يزيد علي عطاء الشركة الانجليزية (تيرف) بمبلغ 1,300,000 جمية ، وعلي عطاء بديل وليس العطاء الأصلي وبدون أي ضمانات مالية ( ثورة شعب ، ص 284- 285).
يتضح مما سبق الفرق الشاسع بين العطاء البلغاري والعطائين الآخرين ، وكما هو واضح فأن مصلحة البلد كانت في قبول العطاء البلغاري.
وقررت الحكومة بعد لجنة كونتها أن يعطي للبلغار ثلثي العطاء وللشركة الانجليزية الثلث الآخر، ورغم ما في هذا القرار من خسائر لشعب السودان نتيجة للأرباح الباهظة التي ستجنيها الشركة البريطانية والغربية ظلت تضغط لتحطيم العرض البلغاري ، حتى تهالكت الحكومة نهائيا وقبلت العرض البريطاني كبديل للعرض البلغاري" ( ثورة شعب، ص 286).
واختلفت شركة (تيرف) مع حكومة انقلاب 17 نوفمبر وانسحبت قبل انجاز المباني بعد أن ملأت جيوب السماسرة والوكلاء بالمال الحرام وهنا جاءت فرصة أخري لملء الجيوب.
واصبحت مباني خشم القربة غنيمة للوزراء ومحاسيبهم من المقاولين ، وخلال عمليات النهب لم يكن مهما من سوف يقيمون بتلك المساكن ، كل المهم أن تمتلئ الجيوب.
هذا اضافة لضآلة التعويض من الحكومة المصرية (15 مليون جنية) بينما تُقدر تكلفة المنازل بخشم القربة والمنشآت العامة عشرين مليون جنية ، اضافة لتكاليف خزان خشم القربة التي تبلغ 11 مليون جنية، إن مجموع التكاليف للخزان والمنازل والمنشآت العامة 31 مليون جنية ، أي كان علي الحكومة أن توفر مبلغ 16 مليون جنية كفرق ، هذا غير تعويضات الأشجار ، هذا اضافة الي أن الحكومة العسكرية لم تقم بأي دراسة علمية لمنطقة خشم القربة ، لم تدرس الآثار البيئية التي تنتج عن ترحيل أناس من مناطق معروفة بأنها اشد مناطق السودان بردا في الشتاء وأحرها صيفا ، وليس بها خريف ، ما عدا أمطار شتوية لا تذكر (متوسط بوصة واحدة) الي مناطق ممطرة متوسط الأمطار فيها سنويا ما يربو علي الأربعين بوصة (ثورة شعب ، ص 282- 283).
الخلاصة:
هكذا نخلص الي الآثار الناتجة عن اتفاقية مياه النيل 1959 التي لم تكن عادلة بالنسبة للسودان ، فتعويضات تهجير أهالي حلفا لم تكن مجزية ، وضاع جزء عزيز من الوطن بتراثه الأثري والعلمي ، اضافة للفساد الذي لازم تلك العملية ، وعدم الدراسة البيئية لملائمة سكان حلفا لمناخ خشم القربة. اضافة لغياب شعب السودان ، فالاتفاقية تمت في ظل نظام حكم ديكتاتوري صادر الحقوق والحريات الديمقراطية، ولا شك أن الوضع كان سوف يكون مختلفا اذا كانت هناك حكومة وطنية وديمقراطية تدافع عن مصالح السودان وسيادته الوطنية، تم معها هذه الاتفاقية.
وعلي حد تعبير د. عبد الشافي " أن الاتفاقية دفعت كعربون من نظام ديكتاتورية عبود الي مصر ، وذلك بغرض اسكات أجهزة الإعلام المصرية عن انتقاد نظام عبود والذي تعول القوي الغربية عليه كثيرا لتمرير المخططات الاستعمارية في افريقيا ، ولكون نظام عبود يشكل عازلا عريضا بين الثورة المصرية وقلب القارة.
ولعل ما يبرهن علي صحة ذلك ماهو مثير للدهشة الترحيب المفاجئ الذي ابدته الحكومة البريطانية تجاه اتفاقية القاهرة الجديدة لمياه النيل ، وكذلك الوصف الذي الذي أورده المؤرخ البريطاني ب.م, هولت " بأن الاتفاقية تقيم عهدا جديدا مع مصر " ، ويضاف الي ذلك الصمت المطبق الذي اتزمته لندن وقت جريان المفاوضات في القاهرة ، ثم اسراع الحكومة البريطانية بعد ذلك في التعبير عن ارتياحها للاتفاقية ، وهي التي كانت تكثر من المطالبة بضرورة اشراكها ، وكذلك اشراك أقاليم شرق افريقيا " (د. عبد الشافي ، مرجع سابق ، وهولت : تاريخ السودان الحديث ، لندن 1961).
هذا فضلا عن الآثار التي ترتبت من الاتفاقية علي هضم دول المنبع والتي انفجرت أخيرا كما في اتفاقية عنتيبي وإعلان المبادئ، كما اوضحنا في دراسة سابقة عن "سد النهضة واشتداد حدة الصراع علي الموارد".
alsirbabo@yahoo.co.uk
/////////////////////
أولا : جذور المشكلة واتفاقية 1929.
ترجع جذور مشكلة مياه النيل بين السودان ومصر الي بداية القرن العشرين ، عندما فكرت الإدارة البريطانية في ادخال زراعة القطن في السودان ، وبرزت مخاوف مصر من أن بريطانيا تقصد التدخل في توريد المياه لها، ونتيجة لذلك شُكلت لجنة من الخبراء في عام 1925م لبحث مسألة مياه النيل ، وتقديم مقترحات متعلقة بالأساس الذي يمكن أن تُوزع به مياه الري مع الاعتبار الكامل لمصالح مصر دون الاضرار بحقوقها القومية والتاريخية (محمد عمر بشير : تاريخ الحركة الوطنية في السودان، ترجمة هنري رياض وآخرون، المطبوعات العربية، الطبعة الثانية 1987م ، ص 120).
والحق أن لجنة الخبراء كانت استمرارا للجنة مشاريع النيل المكونة في عام 1920 ، والتي عُيّن أعضاؤها تعيينا رسميا من جانب الحكومة البريطانية والمصرية، ولها صفة ذات صبغة دولية.
فقد كانت لجنة عام 1920 مكونة من رئيس هندي الجنسية وعضو معين بواسطة جامعة كامبردج ، وعضو منتخب بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية ، وقد أوصت في تقريرها بوجوب اعطاء مصر الحق في استخدام مياه الصرف في موسم التحاريق، وأن يستخدم السودان مياه الفيضان ، ولكن لم يكن من الممكن الوصول الي اتفاق وقتئذ (بشير، المصدر السابق ، ص 120).
مهدت حوادث عام 1924 والانذار الموجه الي مصر السبيل الي إعادة النظر في التوصيات السابقة وعلي أساس تقرير عام 1920 استطاع الخبراء الوصول الي اتفاق عام 1929 ، وضمن هذا الاتفاق مصالح مصر في مياه الري، فقد نصت اتفاقية مياه النيل لسنة 1929 علي الآتي :
1- لأنه لا يجوز للسودان أن يستعمل قطرة من مياه النيل الا اذا فاض ذاك الماء من حاجة مصر ، وخاصة في زمن التحاريق.
2- إن السودان قطر يعتمد علي الأمطار ، فلا يجوز أن يلجأ للزراعة بالري الصناعي اذا بحث امكانيات الري بالمطر بحثا وافيا.
3- إن مشروع الجزيرة قد يزرع القطن طويل التيلة ، وفي هذا مافيه من مضاربة للقطن المصري في الأسواق العالمية.
4- إن مصر في حاجة للتوسع الزراعي لضمان المعيشة لنسلها المتزايد وللمحافظة علي ميزانها التجاري.
ثانيا : المشكلة بعد اتفاقية فبراير 1953 للحكم الذاتي
في الفترة :1952- 1956م برزت مشكلة مياه النيل مع بدء المحادثات مع الجانب الانجليزي بعد اتفاقية فبراير 1953 للحكم الذاتي ، ومع بدء المباحثات مع الجانب الانجليزي – المصري.
وبعد فترة قصيرة من ابرام اتفاقية 1953 جرت اولي مفاوضات مياه النيل ، وكان الرأي السوداني تتلخص في : " أن اتفاقية مياه النيل 1929 طرفاها هما انجلترا ومصر ، والأولي لم يأت توقيعها علي الاتفاقية باسم السودان ، كما هو الحال في غيرها من الاتفاقيات ، ولأن السودان يحتاج الي الماء الذي حُرم منه بواسطة هذه الاتفاقية ، وعليه فأن السودان يطالب ب 35 مليار متر مكعب باعتبار أن مستقبل الرخاء في السودان يقوم بلا شك علي التوسع في المساحة المروية" ( عبد الشافي صديق : مشكلة مياه النيل في العلاقات السودانية المصرية " 53- 1968م" ، صحيفة الميدان 11/11/ 1985، 12/11/ 1985م).
وكان الجانب المصري في مفاوضات 4/4/ 1955م في القاهرة يقترح أن يُعطي السودان 4 مليارات فقط أو ثمانية مليارات بما فيها الفاقد ، بينما يُعطي 76 مليار لمصر بذات الشروط" ( عبد الشافي، المرجع السابق)، ورفض الجانب السوداني الاقتراح المصري.
وظل الجانب السوداني يكرر القول أننا لا نريد الا نصيبا عادلا من الماء غير المحجوز الذي يذهب الي البحر باعتبار أن هناك مسائل ثابتة كحقائق غير مختلف عليها وهي : أن ماء النيل في اسوان معروف المقدار 84 مليار متر مكعب ، وما تستهلكه مصر 48 مليارا ، وما يستهلكه السودان اربعة مليارات.
وكان الجانب المصري يري أنه لا يمكن النظر في تقسيم غير المحتجز الا بعد بناء السد العالي ( عبد الشافي، المرجع السابق). ووصلت المفاوضات من الجانبين الي طريق مسدود .
وتأثرت هذه المفاوضات بالصراعات الداخلية بين حزب الأمة المناوئ لمصر والأحزاب الاتحادية، وانحياز الحكومة للأحزاب الاتحادية.
ثالثا: إعلان الاستقلال 1956 واتفاقية 1959م
باعلان الاستقلال السياسي للبلاد ، كان من الطبيعي أن تبرز من جديد المسائل المتنازع عليها مع مصر لارتباط تلك المسائل بقضايا ما بعد الاستقلال كقضايا التنمية والسيادة الوطنية.
بوصول حزب الأمة إلي دست الحكم أعلن سكرتيره العام ورئيس الوزراء القائمقام عبد الله بك خليل عدم اعتراف حكومته باتفاقية مياه النيل لسنة 1959 م باعتبار أن السودان لم يكن طرفا فيها ، وعلي ذلك الأساس طفقت حكومة عبد الله خليل في تنفيذ المشاريع المائية السودانية بعيدا عن اتفاقية 1929م ، خلافا لتوقع الجهات المصرية ، بل ومضت الحكومة السودانية خطوات أبعد باحتجازها المياه خلف خزان سنار في أول يوليو 1958م ، واحتجت حكومة مصر علي ذلك في مذكرة بتاريخ: 15 /8/ 1958 ، اتهمت فيها السودان رسميا بالتسبب في خسارة مصر مبلغ 1,150.000 مليون جنية من جراء حجز مياه النيل ( عبد الشافي ، مصدر سابق).
وردت الحكومة السودانية برفضها للمذكرة المصرية بحيثية قانونية فحواها " أن دولتي الحكم الثنائي تقدمتا للسودان مباشرة بعد إعلان الاستقلال بسؤال – عما اذا كان السودان يود الالتزام بالاتفاقيات والمعاهدات التي وقعناها نيابة عنه - وهنا طلب السودان تلك الاتفاقيات ليدرسها قبل أن يعطي رأيا بذلك ، غير أن حكومة الجمهورية العربية المتحدة لم تكن تنتظر من السودان أن يعطي اعتبارا لتلك الاتفاقية" .
وظل الشد والجذب محتدما بين الجانبين المصري والسوداني ، وكان الجانب السوداني يدعم حججه بالآتي:
1- أن هذه الاتفاقية (1929م) ظالمة ومجحفة بحقوق السودان ، وأن الاتفاقية انبنت علي أساس أن الأراضي الصالحة للزراعة لا تزيد عن مليون فدان ، والحقيقة أنها تزيد علي اربعة أمثال هذه التقديرات بالاضافة الي هذا الخطأ في التقدير ، فان عدد سكان السودان وسرعة التعمير فيه قد تضاعفت منذ توقيع الاتفاقية ( نفسه)
2- كما كانت الحكومة الوطنية بعد الاستقلال تهدف لتحقيق مشاريع زراعية ضخمة كامتداد المناقل لمشروع الجزيرة وغيره من المشاريع الواقعة علي النيل وفروعه ، وذلك بغرض زيادة وتنويع المحاصيل النقدية.
وفي 17 نوفمبر 1958م كما هو معلوم وقع الانقلاب العسكري وبدأت المفاوضات بين الحكومة المصرية والسودانية ،في ظل ديكتاتورية الفريق عبود وغياب رأي شعب السودان وأحزابه.
وبدأت تلك المفاوضات في 10 أكتوبر 1959 ، وترأس الجانب السوداني اللواء محمد طلعت فريد عضو المجلس الأعلي للقوات المسلحة ووزير الإعلام ، وترأس الجانب المصري زكريا محي الدين وزير الداخلية ، وأعلن أن المفاوضات لبحث الشؤون المعلقة بين البلدين " ما عدا نزاع الحدود" ( عبد الشافي ، مرجع سابق).
وفي الثامن من نوفمبر 1959م جري التوقيع علي الاتفاقية الجديدة لتقسيم مياه النيل بين مصر والسودان والتي نال فيها السودان بموجبها 18,5 مليار متر مكعب ، ونالت مصر 55.5 مترمكعب ، وهناك 10 مليار تمثل فواقد السد العالي " متوسط الايراد عند اسوان يبلغ 84 مليار متر مكعب).
واشتملت الاتفاقية علي ملحق نص علي سلفة قدرها 1,5 مليار متر مكعب من حصة السودان لمصر في حالة حاجة الأخيرة لها تنتهي عم 1977م. ( علما بأن السودان لم يستخدم نصيبه كاملا لغياب المشاريع الكافية).
ونصت ملاحق الاتفاقية علي دفع مصر 15 مليون جنية كتعويض عن الأراضي التي ستغمر بمياه السد العالي ولتهجير سكان وادي حلفا ، ونشير هنا الي أن مفاوضات الحكومة السابقة كانت تطلب 35 مليون جنية كتعويض ( مذكرة مواطنو حلفا ، كتاب "ثورة شعب" ، اصدار الحزب الشيوعي السوداني ، 1965، ص 269- 270- 271).
رابعا : آثار اتفاقية 1959
كان من آثار الاتفاقية وقيام السد العالي واغراق منطقة حلفا التاريخية والأثرية وتهجير السكان، أن عارض سكان وادي حلفا والقري التابعة لمركز حلفا عملية التهجير وتلخصت مطالبهم في الآتي:
1- أن يكون الموطن الجديد هو جنوب الخرطوم بدلا عن خشم القربة.
2- أن تُمنح التعويضات علي أساس تقديرات اللجنة القومية.
3- أخذ رغبات المواطنين النوبيين بما يضمن توجيههم للحفاظ علي قوميتهم والعمل علي تطويرها ضد عوامل الانقراض ( محمد أحمد المحجوب ، الديمقراطية في الميزان ، بدون تاريخ ، ص 182).
كما قامت مظاهرات النوبيين في حلفا وعطبرة والخرطوم وشندي وبورتسودان المنددة بتلك الاتفاقية، فما هي الآثار التي ترتبت علي الاغراق؟
* ضياع الآثار والبحث الأثري
أما عن المنطقة التي ستغمرها مياه السد العالي في بلاد النوبة السودانية من الحدود الجنوبية لمصر الي مسافة تبلغ مائة وثلاثة عشر ميلا داخل الأراضي السودانية ( تبدأ من "فرس" وتتهي في "دال" بأرض الحجر) ، ويتصف هذا الجزء من السودان بضيق واديه وكثرة ما يعترض مجري النيل من جنادل ، ويقلل القيمة الإنتاجية لهذه المنطقة ضيق الشريط الذي يمكن زراعته علي جانبي النهر وأكثر من كل هذا ، فان الاقليم عديم المطر لا يصيبه الا بعض الرزاز احيانا ، وعلي هذا فقد ارتبطت حياة السكان بالنيل منذ قديم الزمان والآباد ، فكانوا يزرعون الأراضي الضيقة التي يغمرها النهر عند فيضانه ، وينحسر عنها وقت انخفاضه . أما الزراعة الرئيسية فكانت تعمتد علي السواقي التي لا تروي الا مساحات محدودة ، ولو أن استعمال الطلمبات قد انتشر في الفترة موضوع الدراسة في الجهات التي نجد فيها أراضي فسيحة، وهذا الاقليم كان يقطنه خمسون الف نسمة من النوبيين ، تمّ ترحيل خمسة واربعين الف منهم الي خشم القربة في شرق السودان علي نهر عطبرة ( نجم الدين محمد شريف ، انقاذ آثار النوبة ، مصلحة الآثار ، رسالة المتحف رقم 6 ، بدون تاريخ ، ص 2 ).
بالرغم من كل هذا ففي الفترة موضوع الدراسة لم يجد هذا الجزء من السودان حظا ملموسا من البحث الأثري، اذ لم تمتد اليه يد العلماء والباحثين من قبل الا بالقدر اليسير عندما قام بعض علماء الآثار في اوائل هذا القرن "العشرين" بتنقيب بعض الحصون الفرعونية تنقيبا جزئيا في معظم الأحيان، فهنا مجال واسع للبحث العلمي الأثري لملء الثغرات التي نجدها في تاريخ السودان القديم ( نجم الدين ، المرجع السابق ، ص 2).
وبالرغم من الجهد الذي بُذل في حملة انقاذ آثار النوبة السودانية التي انحصرت في مشكلتين اساسيتين:
اولاهما تتعلق بالأعمال الأثرية والثانية والثانية تتصل بنقل اربعة معابد من عصر الدولة المصرية الحديثة ، ومقبرة من نفس العهد فريدة في نوعها من وادي حلفا الي الخرطوم وإعادة تشييدها هناك ( نجم الدين ، ص 3) ،" بدأت حملة انقاذ آثار النوبة في ديسمبر 1958 بتضافر جهود مصلحة الآثار السودانية ومنظمة اليونسكو".
علي الرغم من تلك الجهود الجبارة والعظيمة التي بذلتها مصلحة الآثار ومنظمة اليونسكو والنتائج العلمية التي برزت من تلك الحملة ، الا أنه علي حد تعبير د. عبد الشافي صديق " أن التهجير المتعجل للنوبيين أمام زحف مياه البحيرة قد حال دون الدراسة الاثنوغرافية والانثروبولوجية للحياة النوبية قبل ترحيل اهليها الي بيئة أخري جديدة ووسط وحدات عرقية متبائنة ، ولذا لا يمكن انكار أن قيمة علمية عظيمة قد ضاعت – هي الأخري ضمن ما ضاع".
كما يقول د. عبد الشافي : " ان هذه الاتفاقية جاءت حبلي بأجنة الاختلاف عليها في ظل أية حكومة تحرص علي تحقيق السيادة الوطنية والديمقراطية ( عبد الشافي ، المصدر السابق).
"الجدير بالذكر أنه بعد نهاية مدة الاتفاقية ( ثلاثون عاما) ، جددت حكومة الصادق المهدي هذه الاتفاقية المعيبة"!! .
* تعويضات غير مجزية وفساد :
من الآثار ايضا تعويضات غير مجزية وفساد في عملية التهجير:
فلم تكن التعويضات مجزية ، فعلي سبيل المثال كانت تعويضات النخيل علي النحو التالي:
القنديلة 45478 شجرة في 10 جنية !!
البركاوي 66022 شجرة في 10 جنية
البرتمودة 9192 شجرة في 8 جنية
الجاوة 240140 شجرة في 5 جنية
البركور 12117 شجرة في 1 جنية
وبذلك تصبح جملة النخيل 371949 شجرة ، وجملة التعويضات عنها 253 ,2,393 جنية .
واذا علمنا أن تقديرات اللجنة القومية لتعويضات النخيل كانت 33,589,947 جنية ، فان الفرق بين هذا التقدير وبينما ما قررته الحكومة يصبح أكثر من 31 مليون جنية للنخيل فقط ( ثورة شعب ، ص 287- 288).
كما قدرت الحكومة العسكرية التعويض عن شجرة العنب ب 400 مليم ، بينما كان سعر كيلو العنب 200 مليم!!
ومن ثم عارض النوبيون هذه التعويضات غير المجزية ، وخرجوا في مظاهرات ومواكب ضد تلك التعويضات ، هذا اضافة للفساد الذي صاحب تلك العملية من جانب الحكومة العسكرية.
نماذج من الفساد :
علي سبيل المثال حول بناء المساكن في خشم القربة تقدمت بعطاء ثلاث مؤسسات من بلغاريا الاشتراكية ومن بريطانيا والمانيا الغربية ، وكان العطاء البلغاري يمتاز بأنه الوحيد المستوفي لشروط العطاء الأصلي ويبلغ 12,232,152 جنية ، كما أبدت جمهورية بلغاريا الشعبية استعدادها لتخفيض العطاء الأصلي بمقدار 22,500 جنية ، وأن تشتري قطنا من السودان بما يساوي 25% من قيمة العطاء ، كذلك عرضت جمهورية بلغاريا استعدادها لمنح السودان جميع المساكن التي تبني علي حساب الحكومة البلغارية لسكن الفنيين والعمال".
وفي نفس الوقت تقدمت شركة (تيرف ) الانجليزية اسما والتي هي في الواقع من جنوب افريقيا (التي أعلنت حكومة السودان مقاطعتها لما ترتكبه من أعمال فاشية ضد الوطنيين الأفريقيين ، وخاصة سياسة التفرقة العنصرية).
تقدمت شركة تيرف هذه بعطاء يبلغ 13,137,585 جنية ، ولا يقوم علي أساس مواصفات العطاء الأصلي اذ اقترحت الشركة بناء المساكن بالخرصانة المعشعشة ، وجعلت وكلاء لها شركة ميتشل كوتس الانجليزية ، وجماعة من التجار بينهم زين العابدين صالح والمهندس حسن كرار وسيدة أجنبية تدعي فالفس .
" عرضت الحكومة هذه العطاءات علي المهندسين المستشارين لخشم القربة وهم شركة من المانيا الغربية تدعي (كوكس)، وقد كشف هؤلاء الألمان جميع العطاءات للمؤسسات الالمانية وخاصة شركة (فيلبس هانزمان) والتي قدمت في نفس الوقت للعطاء ، وقد تمّ هذا الكشف عن طريق التاجر ميرغني ابو شمة وهو وكيل لشركة (كوكس) وشركة (هانزمان) في نفس الوقت".
بالطبع كان موقف المستشارين الالمان معاديا للعرض البلغاري السخي وحاولوا الطعن فيه بشتي الطرق حتى يبعدوا بلغاريا الاشتراكية عن هذا الميدان الحيوي، وليفتحوا الطريق أمام مؤسسات المانيا الغربية التي يمثلون مصالحها".
وفي هذه المرحلة تقدمت للعطاء شركة (فيلبس هانزمان) من المانيا الغربية وبعرض يزيد علي عطاء الشركة الانجليزية (تيرف) بمبلغ 1,300,000 جمية ، وعلي عطاء بديل وليس العطاء الأصلي وبدون أي ضمانات مالية ( ثورة شعب ، ص 284- 285).
يتضح مما سبق الفرق الشاسع بين العطاء البلغاري والعطائين الآخرين ، وكما هو واضح فأن مصلحة البلد كانت في قبول العطاء البلغاري.
وقررت الحكومة بعد لجنة كونتها أن يعطي للبلغار ثلثي العطاء وللشركة الانجليزية الثلث الآخر، ورغم ما في هذا القرار من خسائر لشعب السودان نتيجة للأرباح الباهظة التي ستجنيها الشركة البريطانية والغربية ظلت تضغط لتحطيم العرض البلغاري ، حتى تهالكت الحكومة نهائيا وقبلت العرض البريطاني كبديل للعرض البلغاري" ( ثورة شعب، ص 286).
واختلفت شركة (تيرف) مع حكومة انقلاب 17 نوفمبر وانسحبت قبل انجاز المباني بعد أن ملأت جيوب السماسرة والوكلاء بالمال الحرام وهنا جاءت فرصة أخري لملء الجيوب.
واصبحت مباني خشم القربة غنيمة للوزراء ومحاسيبهم من المقاولين ، وخلال عمليات النهب لم يكن مهما من سوف يقيمون بتلك المساكن ، كل المهم أن تمتلئ الجيوب.
هذا اضافة لضآلة التعويض من الحكومة المصرية (15 مليون جنية) بينما تُقدر تكلفة المنازل بخشم القربة والمنشآت العامة عشرين مليون جنية ، اضافة لتكاليف خزان خشم القربة التي تبلغ 11 مليون جنية، إن مجموع التكاليف للخزان والمنازل والمنشآت العامة 31 مليون جنية ، أي كان علي الحكومة أن توفر مبلغ 16 مليون جنية كفرق ، هذا غير تعويضات الأشجار ، هذا اضافة الي أن الحكومة العسكرية لم تقم بأي دراسة علمية لمنطقة خشم القربة ، لم تدرس الآثار البيئية التي تنتج عن ترحيل أناس من مناطق معروفة بأنها اشد مناطق السودان بردا في الشتاء وأحرها صيفا ، وليس بها خريف ، ما عدا أمطار شتوية لا تذكر (متوسط بوصة واحدة) الي مناطق ممطرة متوسط الأمطار فيها سنويا ما يربو علي الأربعين بوصة (ثورة شعب ، ص 282- 283).
الخلاصة:
هكذا نخلص الي الآثار الناتجة عن اتفاقية مياه النيل 1959 التي لم تكن عادلة بالنسبة للسودان ، فتعويضات تهجير أهالي حلفا لم تكن مجزية ، وضاع جزء عزيز من الوطن بتراثه الأثري والعلمي ، اضافة للفساد الذي لازم تلك العملية ، وعدم الدراسة البيئية لملائمة سكان حلفا لمناخ خشم القربة. اضافة لغياب شعب السودان ، فالاتفاقية تمت في ظل نظام حكم ديكتاتوري صادر الحقوق والحريات الديمقراطية، ولا شك أن الوضع كان سوف يكون مختلفا اذا كانت هناك حكومة وطنية وديمقراطية تدافع عن مصالح السودان وسيادته الوطنية، تم معها هذه الاتفاقية.
وعلي حد تعبير د. عبد الشافي " أن الاتفاقية دفعت كعربون من نظام ديكتاتورية عبود الي مصر ، وذلك بغرض اسكات أجهزة الإعلام المصرية عن انتقاد نظام عبود والذي تعول القوي الغربية عليه كثيرا لتمرير المخططات الاستعمارية في افريقيا ، ولكون نظام عبود يشكل عازلا عريضا بين الثورة المصرية وقلب القارة.
ولعل ما يبرهن علي صحة ذلك ماهو مثير للدهشة الترحيب المفاجئ الذي ابدته الحكومة البريطانية تجاه اتفاقية القاهرة الجديدة لمياه النيل ، وكذلك الوصف الذي الذي أورده المؤرخ البريطاني ب.م, هولت " بأن الاتفاقية تقيم عهدا جديدا مع مصر " ، ويضاف الي ذلك الصمت المطبق الذي اتزمته لندن وقت جريان المفاوضات في القاهرة ، ثم اسراع الحكومة البريطانية بعد ذلك في التعبير عن ارتياحها للاتفاقية ، وهي التي كانت تكثر من المطالبة بضرورة اشراكها ، وكذلك اشراك أقاليم شرق افريقيا " (د. عبد الشافي ، مرجع سابق ، وهولت : تاريخ السودان الحديث ، لندن 1961).
هذا فضلا عن الآثار التي ترتبت من الاتفاقية علي هضم دول المنبع والتي انفجرت أخيرا كما في اتفاقية عنتيبي وإعلان المبادئ، كما اوضحنا في دراسة سابقة عن "سد النهضة واشتداد حدة الصراع علي الموارد".
alsirbabo@yahoo.co.uk
/////////////////////