الذكرى الـ 70 لإطلاق سراح الأستاذ محمود محمد طه قائد ثورة رفاعة من سجن الاستعمار

 


 

 

 

المحاور:

 مدخل
 فترات سجن الأستاذ محمود محمد طه خلال الحكم الاستعماري
 قصة ثورة رفاعة
 نحو قراءة جديدة لثورة رفاعة
ثورة رفاعة 1946 والتفكيك العملي للمعرفة الاستعمارية
 دراسة ثورة رفاعة بمنهج دراسات مدرسة ما بعد الاستعمار
 دعوة للعمل من أجل تفكيك المعرفة الاستعمارية لاستكمال الاستقلال
 ثبت المصادر والمراجع

مدخل

"إن ثورة رفاعة التي قادها الأستاذ محمود لم تكن ثورة رجعية مؤيدة للخفاض الفرعوني وإنما كانت ثورة تقدمية ضد قانون ظالم فرضه الاستعمار الإنجليزي بمعونة مجلسه الاستشاري على الناس وهم في غرة من أمرهم وأمر القانون .. فكان رأي الحزب الجمهوري أن عادة الخفاض الفرعوني قبيحة مستهجنة ولكن السبيل لإزالتها بنشر الوعي العام وبالتعليم والتثقيف للمرأة وذلك كان منعدماً إلا قليلاً جداً لا بفرض قانون جائر".
سعيد شايب، 8 ديسمبر 1968


هذا اليوم 21 سبتمبر 2018 يوافق الذكرى السبعين لإطلاق سراح الأستاذ محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري، قائد ثورة رفاعة من سجن الاستعمار، وهو ما عُرف بالسجن الثاني، بعد أن قضي (731) يوماً، أي عامين كاملين. بدأ السجن يوم الأحد 22 سبتمبر 1946، وانتهى يوم الثلاثاء 21 سبتمبر 1948.
اندلعت ثورة رفاعة يوم الجمعة 20 سبتمبر 1946، بقيادة الأستاذ محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري، بمدينة رفاعة، والسودان آنئذ تحت الحكم الاستعماري الثنائي البريطاني/ المصري (1898- 1956). بعد إخماد الثورة أنشأت الحكومة الاستعمارية محكمة بمدينة ود مدني، برئاسة القاضي محمد أحمد أبورنات (1902-1979)، وكانت التهمة إثارة الشغب. حكم القاضي على الأستاذ محمود محمد طه بالسجن لمدة عامين بالإضافة إلى وضعه تحت المراقبة لمدة سنة أخرى بعد اتمام مدة السجن (صحيفة الرأي العام، 17 أكتوبر 1946). كما حكم على رفاقه لمدد متفاوتة. فقد تابعت صحيفة الرأي العام محاكمات ثوار رفاعة، فنشرت يوم 12 أكتوبر 1946 خبراً عن محاكمة ستة عشر من المشاركين في الثورة، قائلة: "صدرت أحكام بالسجن بمدد تتراوح بين شهر وسنة على كل من عباس المكي وعوض القريض وأحمد الأمين ومحمد إلياس والزبير جاد الرب وعبدالعال حسن وأحمد عثمان وحمد النيل هاشم وعلي مالك ومحمد الحاج علي وبابكر وقيع الله وعبدالله حامد الشيخ وحسن أحمودي، ومنصور رجب وعبدون عجيب، وحكم على صبي بالجلد". كما نشرت يوم 19 أكتوبر 1946 خبراً عن تفاصيل محاكمة ثلاثة من أعضاء الحزب الجمهوري، من ثوار رفاعة، قائلة: "أصدرت محكمة الجنايات حكمها على بعض أعضاء الحزب الجمهوري المتهمين تحت المادة (105) وكانت الأحكام كالآتي: عثمان عمر العتباني 3 شهور سجناً، سعد صالح عبدالقادر شهر سجناً، ذو النون جبارة شهر سجناً، وكانت المحكمة برئاسة أستانلي بيكر وعضوية محمد أفندي... مفتش الخرطوم بحري والعمدة... أما الأستاذ محمود محمد طه فقد أحيل إلى محكمة كبرى بمدني". وأوردت نفس الصحفة يوم 21 أكتوبر 1946 بأن المحكمة قد حكمت على منصور عبدالحميد، عضو الحزب الجمهوري بغرامة مالية قدرها (20) جنيهاً، وبعدم الدفع السجن لمدة شهر. (أود الإشارة ، إذا ما فاتني ذكر من تمت محاكمته، إلى أن هناك تفصيلاً سيأتي لاحقاً ضمن دراسة قادمة عن ثورة رفاعة، وهي أشمل وأوسع من حيث التوثيق والرصد).
على الرغم من أهمية الثورة، في مواجهة الاستعمار، إلا أنها لم تجد الاهتمام من قبل الدارسين والباحثين، وواجهت التهميش والاستبعاد عن إرث السودان الثوري، ولم يُنظر لها ولم تُدْرَس على أنها ثورة ضد الاستعمار، إلا لدى الإخوان الجمهوريين، وفي إشارات عابرة عند أحمد يوسف هاشم (1903- 1958)، نشرتها صحيفته السودان الجديد، في 27 سبتمبر 1946، وعند المؤرخ التجاني عامر (1908-1987) (صحيفة الصحافة، 16 أبريل 1975)، إلى جانب دراسة أعدها مؤخراً البروفيسور عبدالله علي إبراهيم. نشر عبدالله دراسته باللغة الإنجليزية عام 2011 (Abdullahi Ali Ibrahim, Hawwa, PP. 97–151). أوضح عبدالله بأن هدف دراسته هو إعادة النظر في ثورة رفاعة، من أجل الحصول على فهم أفضل لها، فقدم دراسته مستخدماً منهج مدرسة ما بعد الاستعمار، فأحدث نقلة معرفية في فهم ثورة رفاعة، إذ وضعها في اطارها النضالي، وأعاد لها هويتها الثورية ضمن سجل إرث السودان الثوري. (عبدالله الفكي البشير، 18 يوليو 2017).

فترات سجن الأستاذ محمود محمد طه خلال الحكم الاستعماري

سُجن الأستاذ محمود محمد طه خلال الحكم الاستعماري، مرتين، وقد عُرفا في بعض المصادر والمراجع بالسجن الأول والسجن الثاني. كانت مدة السجن الأول خمسين يوماً، امتدت من الأحد 2 يونيو وحتى الاثنين 22 يوليو 1946، وكان السجن الثاني عندما قاد ثورة رفاعة التي اندلعت في يوم الجمعة 20 سبتمبر 1946. معلوم سبب السجن الثاني إذ تشير كل المصادر والمراجع إلى أن سببه هو قضية الخفاض الفرعوني، بينما لا تذكر جل الكتابات إن لم يكن كلها، فيما وقفت عليه، ما هو سبب السجن الأول بالتحديد؟ وهل ثمة رابط بين السجن الأول والسجن الثاني؟
إن سبب السجن الأول هو مناهضة الفصل المبكر لجنوب السودان، ذلك عندما أنشأت الإدارة الاستعمارية المجلس الاستشاري لشمال السودان. وصف الأستاذ محمود حينها قيام المجلس بالفصل المبكر لجنوب السودان، فأعلن في بيان رسمي مناهضته ومقاومته ومقاطعته لأي قرار يصدر عنه. كما دعا القادة والسياسيين إلى التخلي عن دعم المجلس الاستشاري، والانضمام إلى ركب المقاومة، ومواجهة الإدارة الاستعمارية من أجل قضية جنوب السودان، والتضحية في سبيل وحدته. ولمّا كان قانون الخفاض الفرعوني الذي أرتبط بثورة رفاعة، قد صدر عن المجلس الاستشاري، فإن السجن الثاني جاء متصلاً بأسباب السجن الأول وهو الرفض للمجلس الاستشاري والمقاطعة لكل قرار يصدر عنه. وكان الأستاذ محمود قد أوضح بأن المجلس الاستشاري ليس بمؤسسة تسعى لخدمة السودان، وإنما تهدف لفصل جنوبه عن شماله. ولهذا، فعندما صدر قانون الخفاض الفرعوني عن المجلس الاستشاري في نوفمبر 1945، أصدر الأستاذ محمود بياناً يوم 10 ديسمبر 1945، مبيناً فيه موقفه ومقاطعته لأي قانون يصدر عن المجلس الاستشاري، وجدد إعلان مقاومته للمجلس، ودعا القادة والساسيين إلى التضحية في سبيل قضية الجنوب ووحدة السودان. هذه الحقائق الموثقة كما سيرد التفصيل، لاحقاً، لا تجد لها أثراً في كتابات الناقدين لثورة رفاعة، بل لم يشر إليها أحد منهم، حسب رصدي وعلمي، إلى بيان الأستاذ محمود الصادر يوم 10 ديسمبر 1945 أو إلى الارتباط بين السجنين وصلتهما بالموقف من المجلس الاستشاري، باعتباره فصلاً مبكراً لجنوب السودان.
في الواقع لا تنفصل أسباب السجن الأول عن السجن الثاني، فمنذ إعلان الحكومة الاستعمارية إنشاء المجلس الاستشاري، قرر الحزب الجمهوري مقاومته، وأعلن الأستاذ محمود بأن المجلس ما هو إلا نية مبيتة من المستعمر بهدف فصل جنوب السودان، ولهذا تجب مناهضته ومقاطعته وعدم الالتزام بأي قرار يصدر عنه. ثم وضع الحزب الجمهوري خطة لذلك كان شعارها، كما برز في بعض بيانات الحزب: "أحرص على الموت تهب لك الحياة". وظل يدعو أعضاء المجلس الاستشاري، مخاطباً حسهم الوطني بأن يكفوا عن التعاون مع المجلس الاستشاري. وقام بإرسال خطابات خاصة إلى أعضاء المجلس "مستصرخاً فيهم الضمير الوطني ليقفوا موقفاً مشرفاً في ما سيقدم إليهم من مشروعات وقوانين" (صحيفة الرأي العام، 4 مارس 1946). واستمر في إصدار المنشورات بتوقيع رئيسه الأستاذ محمود، داعياً إلى مقاومة الاستعمار وسياساته وإلى التضحية من أجل جنوب السودان حتى استدعت الحكومة الأستاذ محمود بسبب أحد المناشير، ليمثل أمام قاضي الجنايات المستر مكدوال متهماً بتوزيع منشورات سياسية من شأنها الاخلال بالأمن العام. وقد أمره القاضي أن يوقع على صك بكفالة شخص بمبلغ خمسين جنيهاً لمدة عام لا يشتغل بالسياسة ولا يوزع منشورات أو أن يودع السجن لمدة سنة إذا رفض ذلك. ولكن الأستاذ محمود رفض التوقيع مفضلاً السجن. وقد اقتيد إلى سجن كوبر ولم تستغرق هذه الإجراءات سوى أقل عن الساعة (صحيفة الرأي العام، 3 يونيو 1946). حكي الأستاذ محمود قصة المنشور الذي أصدره من أجل قضية جنوب السودان، ومناهضة المجلس الاستشاري، قائلاً: إن المناشير كانت شديدة اللهجة وكانت عنيفة.. قامت الحكومة الاستعمارية بترجمة واحد منها وقدمته لقاضى جنايات الخرطوم، "طلبنى أولاً، فقال: هذا المنشور يهدد الأمن فهل هو صادر من الحزب الجمهورى، وهل أنت مسئول عنه؟ أجبت بالإيجاب، قال لى: طيب، راح نشوف.. بعدين خرجت منه بعد يومين طُلبت للمرة الثانية فكان الحكم أنى أنا أمض تعهد شخصي بعدم الكلام فى السياسة أو أسجن سنة... فأنا رفضت مسألة التعهد الشخصى [...] فاقتدت للسجن بهذا السبب.. المنشور كان بيهاجم المجلس الإستشارى لشمال السودان وبهاجم القانون الذي صنعه المجلس". (محمود محمد طه، "لقاء..."، 1975).
خرج الأستاذ محمود من سجن المستعمر يوم الاثنين 22 يوليو 1946 بعد أن قضى فيه خمسين يوماً، ليعود إليه ثانية وبعد ستين يوماً محكوماً عليه بالسجن لمدة عامين، بسبب قيادته لثورة رفاعة التي اندلعت في يوم الجمعة 20 سبتمبر 1946، عندما وقعت حادثة الخفاض الفرعوني، وتعاطت معها الحكومة الاستعمارية بناءً على قانون الخفاض الفرعوني الصادر عن المجلس الاستشاري لشمال السودان.
هذه إشارة موجزة عن سبب السجن الأول، وهو مناهضة المجلس الاستشاري لشمال السودان باعتباره فصلاً مبكراً لجنوب السودان، وسيأتي التفصيل لاحقاً ضمن دراسة قادمة. ونتناول في المحاور الآتية السجن الثاني الذي كان بسبب اندلاع ثورة رفاعة.

قصة ثورة رفاعة

تعود قصة ثورة رفاعة إلى أن امرأة من أهالي مدينة رفاعة، أجرت عملية خفاض فرعونى لبنتها، في الأول من سبتمبر 1946. فأستدعى مفتش مركز رفاعة المستر ديك المرأة في يوم سبتمبر 1946 وحكم عليها بأربعة شهور سجناً لمخالفتها قانون منع الخفاض الفرعونى الذي صدر في نوفمبر 1945. اتفق أن جاء الأستاذ محمود، رئيس الحزب الجمهوري، يوم 9 سبتمبر في زيارة لمدينة رفاعة لأداء واجب عزاء، فجاء إليه بعض أهالي رفاعة وأخبروه بأمر سجن المرأة. وكان للحزب الجمهوري موقف معلن عن قانون الخفاض الفرعوني في بيان نشره يوم 10 ديسمبر 1945، وموقف معلن أيضاً من المجلس الاستشاري لشمال السودان، حيث المقاطعة لكل قرار يصدر عنه وعدم الالتزام به. بعد أن أستمع الأستاذ محمود للأهالي ذهب ومعه بعض أعضاء الحزب الجمهوري، لمقابلة المفتش في مدينة رفاعة وتناقشوا معه في الأمر، فوافق المفتش على اطلاق سراح المرأة. إلا أن المفتش عاد في 19 سبتمبر وأمر بالقبض على المرأة مرة أخرى وأودعت السجن برفاعة. عاد أهالي رفاعة إلى الأستاذ محمود وأخبروه بما حدث للمرأة، فطلب منهم الانتظار حتى يوم الغد الجمعة 20 سبتمبر. وفي نهار الجمعة وعقب الصلاة، خطب الأستاذ محمود في الناس بشأن المرأة، فخرجوا بأعداد غفيرة بقيادته، وتوجهوا إلى المركز مطالبين باطلاق سراح المرأة، وازاء غضب الجماهير والاصرار، أمر المفتش بإطلاق سراح المرأة. غير أنهم عادوا وقبضوا عليها ليلاً، ونقلوها إلى مدينة ود مدني. وعندما علمت الجماهير بذلك، اتجهت ثائرة في اليوم التالي صوب الحصاحيصا، ورابطت عند مكتب المفتش، ولم تغادره، حتى أمر نائب مدير الجزيرة باحضار المرأة من ود مدني، فأحضروها وتم تسليمها للجماهير التي عادت بها إلى رفاعة. وفي اليوم التالي جاءت قوة عسكرية من الخرطوم، وقامت باعتقال الأستاذ محمود، تبع ذلك أن قدم للمحاكمة بمحكمة مدنى الكبرى في يوم الأربعاء 16 أكتوبر 1946، وكانت التهمة: إثارة الشغب في مدينة رفاعة. واجه الأستاذ محمود المحكمة ورفض قبول محامي للدفاع عنه، كما رفض أن يدلي بأية أقوال للتحقيق إلا على أساس مناقش قانون الخفاض الفرعوني (صحيفة الرأي العام، 10 أكتوبر 1946). صدر الحكم وأُدخل الأستاذ محمود سجن مدينة ود مدني، وقضى فيه، نحو ثلاثة شهور، امتدت من يوم المحاكمة 16 أكتوبر 1946 وحتى منتصف يناير 1947 (تقريباً). ثم وبعد مواجهات قادها مع إدارة السجن، استطاع فيها أن ينتزع حقوقه كسجين درجة ثانية بدلاً عن الدرجة الثالثة، بسلاح الصيام الصمدي، فتم نقله إلى سجن كوبر بمدينة الخرطوم بحري، بالعاصمة السودانية الخرطوم، ذلك لأن سجن مدينة ود مدني لم تكن به درجة ثانية. وقد تم اطلاق سراح الأستاذ محمود في يوم الثلاثاء 21 سبتمبر 1948. (صحيفة الرأي العام، 25 سبتمبر 1946؛ عبدالله الفكي البشير، 2013، ص 404- 450).

نحو قراءة جديدة لثورة رفاعة
ثورة رفاعة 1946 والتفكيك العملي للمعرفة الاستعمارية

"عندي أن ثورة رفاعة لم تجد تقييماً حتى الآن رغم أنها أفادت معاني عديدة سيذكرها الناس بالخير في مقبل الأيام وعلى سبيل المثال أنها أكدت للشعب السوداني أن كل قانون جائر يمكن القضاء عليه إلى غير رجعة كما حصل بالفعل لقانون الخفاض".
سعيد شايب، 8 ديسمبر 1968


لم تكن ثورة رفاعة سوى حلقة من حلقات نضال الحزب الجمهوري، الذي تبنى مبدأ المواجهة والصدام مع الاستعمار. كما أنها، في تقديري، مثلت أنصع النماذج في نقد المعرفة الاستعمارية وتفكيكها. فقد ظل الحزب مواجهاً لوجود الاستعمار وسياساته وتشريعاته. كتب الأستاذ محمود، قائلاً: "عندما نشأ الحزب الجمهوري... أخذ يعارض الحكومة في الطريقة التي شرعت عليها تحارب عادة الخفاض الفرعوني، لأنها طريقة تعرض حياء المرأة السودانية للابتذال، وعلى الحياء تقوم الأخلاق كلها، والأخلاق هي الدين" (صحيفة الشعب، 27 يناير 1951). لم يكن موقف الأستاذ محمود، رئيس الحزب الجمهوري، من عادة الخفاض الفرعوني، قد تبلور مع ثورة رفاعة في سبتمبر 1946، وإنما كان موقفاً معلناً منذ يوم 10 ديسمبر 1945 في بيان صدر بعنوان: "بيان الحزب الجمهوري عن مشروع قانون الخفاض الفرعوني"، جاء في صدره: "لا نريد بكتابنا هذا أن نقف موقف المدافع عن الخفاض الفرعوني ولا نريد أن نتعرض بالتحليل للظروف التي أوحت به لأهل السودان، والضرورة التي أبقته بين ظهرانيهم الى يومنا هذا، ولكننا نريد أن نتعرض لمعاملات خاصة وأساليب خاصة وسنن خاصة سنتها حكومة السودان أو قل إبتدعتها ابتداعاً وارادتنا أن ننزل على حكم ابتداعها إرغاماً...". إن اصدار الحكومة لتشريع الخفاض الفرعوني، لم يكن غرضه الاشفاق على المرأة أو غرضة الناحية الإنسانية والأخلاقية، كما زعمت، فإذا كان الأمر كذلك، يقول البيان "لماذا لم تتخذ حكومة الهند [وهي حكومة بريطانيا الاستعمارية] إزاء استئذان الجنود لسادتهم وسمل عيون الأطفال ما اتخذته حكومة السودان من قانون بشأن الخفاض الفرعوني؟". ومن المعروف أن عادة سمل عيون الأطفال (سمل عينه أي فقأها) من العادات السائدة في الهند التي كانت تحت الحكم البريطاني. فالأمر لم يكن كما صوره الاستعمار. وذهب البيان في توضيح الأمر ودحض حجج الاستعمار، وهو بيان وافي.
الشاهد أن كل الدراسات التي درست ثورة رفاعة، والتي وقفت عليها، لا تجد فيها أثراً لبيان الحزب الجمهوري عن الخفاض الفرعوني، كما ورد آنفاً، ولم تتناول ما ورد فيه، وهو البيان الذي تضمن موقف الحزب الجمهوري من التشريع الذي سنه الاستعمار بشأن الخفاض الفرعوني. لقد أشار البيان كذلك إلى المجلس الاستشاري لشمال السودان، وهو المجلس الذي صدر عنه تشريع الخفاض الفرعوني. لم يصدر المجلس الاستشاري، إلى جانب قرار الأمن العام، سوى قرارين: الأول بشأن الخفاض الفرعوني والقرار الثاني يقضي بمنع تعاطي الخمور، ومنع تقطير الخمور الروحية محلياً "العرقي والمريسة" (دار الوثائق القومية،Advisory Council: 1/6/28). فور اجازة المجلس لـ "مشروع قانون الخفاض" في مداولات خلال الفترة 4- 8 نوفمبر 1945 (دار الوثائق القومية، Advisory Council: 1/6/28) ، اصدر الحزب الجمهوري بيانه عن الخفاض الفرعوني في 10 ديسمبر 1945، مبيناً موقفه من قضية الخفاض الفرعوني، ومتسقاً مع موقفه الرافض لأي قرار صادر عن المجلس. لهذا لا يمكن دراسة موقف الأستاذ محمود من الخفاض الفرعوني بمعزل عن بيان الحزب الجمهوري في 10 ديسمبر 1945، وقد أشار لهذا المعنى التجاني عامر، قائلاً: إن "حادث (الطهارة الفرعونية) في رفاعة وهو حدث اجتماعي رفعه محمود إلى مستوى المساس بالدين والوطن" (صحيفة الصحافة، 16 أبريل 1975). كما لا يمكن دراسة البيان عن الخفاض الفرعوني بمعزل عن موقف الحزب الجمهوري من المجلس الاستشاري لشمال السودان وهو الجهة التي صدر عنها التشريع.
كانت الحكومة الاستعمارية قد استبقت مداولات اجراءات الدورة الرابعة، المجلس الاستشاري لشمال السودان (3-8 نوفمبر 1945) عن الخفاض الفرعوني، بتقديم "مذكرة عن الخفاض في السودان الإنجليزي المصري" (دار الوثائق القومية Advisory Council: 1/11/48). جاءت المذكرة بتقديم هيوبرت هدلستون حاكم السودان العام، والشيخ أحمد الطاهر مفتي السودان ونائب قاضي القضاة. وتضمنت رأياً مكتوباً عن الخفاض الفرعوني من السيد على الميرغني (73/79/1880- 1968) ومن السيد عبدالرحمن المهدي (1885-1959). وقد جاءت الآراء المكتوبة في المذكرة، متسقة مع رؤية الحكومة، عدا رأي السيد علي الميرغني، الذي جاء متسقاً ومتوافقاً مع رأى الأستاذ محمود. كتب السيد علي الميرغني في رأيه المنشور في صدر المذكرة، قائلاً: "ما من بلاد إلا ولها عوائد مستحسنة وأخرى مستهجنة في نظر العلم والعقل، والنوع الثاني يأخذ في الزوال شيئاً فشيئاً لاستنارة عقول معتاديه بنور العلم، والسودان لا يخرج عن هذه القاعدة بداهة... العادات غير المستحسنة ستختفي وتزول أمام نور العلم والتهذيب" (دار الوثائق القومية، مجموعة المتنوعات: 1/78/971).
هذه الوقائع لا يجد الباحث لها أثراً في الدراسات السودانية التي تناولت ثورة رفاعة، كما لم يتم الربط بين ثورة رفاعة وقيام المجلس الاستشاري لشمال السودان، إلا في دراسة واحدة، مما وقفت عليه، وهي دراسة مدثر عبدالرحيم التي جاءت بعنوان: الامبريالية والقومية في السودان: دراسة للتطور الدستوري والسياسي في السودان (1899-1956)، غير أن مدثر لم يتناول ما حدث في رفاعة باعتباره ثورة، وإنما وصفه بالصدام مع الشرطة. فقد تناول مدثر المجلس الاستشاري، وقضية الخفاض الفرعوني، وأشار إلى رأي السيد علي الميرغني "بأن الختان الفرعوني، كغيره من العادات، سيزول حتماً مع انتشار التعليم والوعي العام" (مدثر عبدالرحيم، 1971، ص 135). وعلى الرغم من أن مدثر عبدالرحيم قد أورد رأيه من الخفاض الفرعوني وكان يتفق إلى حد كبير مع رأي الأستاذ محمود، إذ كتب، قائلاً: "على أن محاولة القضاء على هذه العادة العميقة الجذور بإجراء تشريعي قد دلت، كما كان منتظراً، على أنها غير مجدية، وانتجت أثراً عكسياً"، على الرغم من ذلك فإنه لم يسمِّ ما حدث في رفاعة بثورة، وإنما صدام. فقد كتب مدثر متحدثاً عن ردة الفعل لصدور قانون الخفاض الفرعوني، قائلاً: "ووقع على الأقل في بلدة واحدة وهي رفاعة اصطدام خطير بين المتظاهرين والشرطة". ولم يرد عند مدثر ذكر لبيان الحزب الجمهوري عن الخفاض الفرعوني.
إن تسمية ثورة رفاعة، بأنها صدام مع الشرطة، كما ذهب مدثر عبدالرحيم، أو "شغب" أو "حوادث رفاعة" وما شابه ذلك، وليس ثورة، أمر له جذور تعود إلى الخطاب الاعلامي للحكومة الاستعمارية آنئذٍ. فعندما قامت الثورة في يوم الجمعة 20 سبتمبر 1946، كانت هناك أخبار وتقارير صحفية ترد عنها بشكل يومي، ففي اليوم الثاني من قيام الثورة، يوم السبت 21 سبتمبر وسمت صحيفة الرأي العام ما حدث بــ "المظاهرات في رفاعة"، ثم غيرت الوسم في اليوم الثالث، فاطلقت عليها في يوم الاثنين 22 سبتمبر "الاضرابات في رفاعة"، ثم غيرت موقفها في يوم الأربعاء 25 سبتمبر لتطلق عليها "حوادث رفاعة". بينما خرجت صحيفة السودان الجديد، ومن الوهلة الأولى، وكانت صحيفة اسبوعية، في أول اعدادها، بعد اندلاع الثورة، حيث جاء العدد في يوم الجمعة 27 ديسمبر، لتصف ما حدث بالثورة، وقدمت تحت عنوان: "في رفاعة والحصاحيصا ثورة وتجريدة"، وصفت الأحداث باعتبارها عملاً بطولياً وثورياً، فما لبث أن صدر بيان رسمي من الحكومة نُشر في صحيفة الرأي العام، في يوم الاثنين 7 أكتوبر، مسمياً الثورة بـ "الشغب في رفاعة". بعد ذلك خرجت صحيفة الرأي العام في يوم 16 أكتوبر واصفة الثورة بـ "مأساة رفاعة". ثم استقرت بعد ذلك التسمية في الأخبار والتقارير الصحفية وفي صحيفة الرأي العام على "مأساة رفاعة" و "الشغب في رفاعة" و "حوادث رفاعة". (صحيفة السودان الجديد، 27 سبتمبر 1946؛ صحيفة الرأي العام، 22، 25، 2، 29 سبتمبر 1946؛ صحيفة الرأي العام، 7 أكتوبر 1946).
شاعت هذه التسميات الظالمة وغير الدقيقة في وسمها لثورة رفاعة، وتسربت للأسف الشديد لصحائف الكثير من المؤرخين السودانيين. فقد كتب عون الشريف قاسم (1933-2006)، وهو يتحدث عن الأستاذ محمود، قائلاً: "اصدر المنشورات منذ عام 1945 وبدأ البوليس يلاحقه وسجن لعامين في كوبر" (عون الشرف قاسم، 1996، ص 2244). هذه تسمية للأشياء بغير مسمياتها، فالبوليس لم يلاحق الأستاذ محمود في شأن شخصي وإنما بسبب شأن وطني، فقد طارده البوليس حينما أصدر المنشورات، والمنشورات ضد المستعمر لا يُصدرها إلا المناضلون والأبطال المقاومون من أجل بلدانهم وشعوبهم. وفي تقديري، أن وصف المناضل من أجل طرد المستعمر بأن يقال "كان يلاحقه البوليس"، هو تبني لوجهة نظر المستعمر، وما كان يجب أن يتبنى عون الشريف قاسم وجهة نظر الإدارة الاستعمارية ويسمي نضال الأستاذ محمود ومواجهته للمستعمر بـ "ملاحقة بوليسية".


دراسة ثورة رفاعة بمنهج دراسات مدرسة ما بعد الاستعمار

"الإنجليز نواياهم مبيتة لفصل الجنوب، ولذلك أنشأوا المجلس الإستشارى لشمال السودان، فنواياهم كلها كانت من أجل فصل الجنوب"
محمود محمد طه، 1975

لقد ظلت هذه الثورة من أكثر الثورات التي وجدت التجاهل من الدارسين، كما ورد آنفاً، والتقليل من هويتها الثورية في الدراسات التي تعرضت لها، أكثر من ذلك فالتناول الذي تم للثورة في كل الدراسات والمقالات، والتي وقفت عليها، اتسم بالانبتات عن مصادر المعلومات في الإرشيف القومي في السودان، فالمعلومات التاريخية الواردة في تلك الدراسات عن الثورة، ليست غير دقيقة وغير محيطة بالحدث فحسب؛ وإنما ناقصة وقاصرة ومضللة، ومن الطبيعي أن تختل نتائجها. فهذه الدراسات من جهة، لم تقف على المعلومات وحقائق التاريخ في مظانها، كما أنها لم تدرس الثورة باعتبارها حلقة من حلقات نضال الحزب الجمهوري ضد الاستعمار، ومن الجهة الأخرى فإنها لم تستخدم مناهج البحث الجديدة مثل منهج مدرسة ما بعد الاستعمار، وإنما استخدمت مناهج بحث تتصل بحقبة الحداثة، ولهذا لم تتعاط كل هذه الدراسات مع ثورة رفاعة على أساس أنها ثورة ضد المستعمر؛ وإنما، وباعتبار سبب قيامها، وهو قضية الخفاض الفرعوني، هي عمل ضد الحداثة، وضد تحرير المرأة، وهي تعبير عن موقف الأستاذ محمود من عادة الخفاض الفرعوني التي أدعى الاستعمار محاربتها. بينما كانت الدراسات التي استخدمت المناهج البحثية التي تتصل بتفكيك خطاب المعرفة الاستعماري وتتصل بحقبة ما بعد الحداثة Postmodernism، التي استخدمت منهج مدرسة دراسات ما بعد الاستعمار Post-Colonialism، جاءت بنتائج متفقةً مع الأستاذ محمود في موقفه من تشريعات الاستعمار لمحاربة قانون الخفاض الفرعوني. كما أتفق هذا النوع من الدراسات معه في تفسيره للغرض السياسي من مسألة الخفاض الفرعوني، وفي نظرته للكيفية التي يجب أن تحارب بها عادة الخفاض الفرعوني. هذا النوع من الدراسات بدأ الآن في التوسع وفي طريقه ليكون أكثر عدداً من النوع الأول. وتأتي على رأس هذه الدراسات دراسة عبدالله علي إبراهيم، آنفة الذكر، والتي تميزت عن كل الدراسات بأنها أعادت لثورة رفاعة هُويتها الثورية، وأرجعتها، بعد إنكار، إلى سجل إرث السودان الثوري.
نظرت دراسة عبدالله علي إبراهيم إلى الأستاذ محمود بأنه وطني متفرد، وأنه مختلف عن الاتجاه التحديثي لمؤتمر الخريجين، فقد كتب عبدالله، قائلاً: "من الواضح أن الاستاذ محمود قد أراد أن يحقق من ثورة رفاعة أكثر من استخدام التقاليد في حجة وطنية فقد كان وطنيا متفردا وقد كان نتاجا للتغييرات الجذرية التى حدثت في الحركة الوطنية في الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية". وأضاف، قائلاً: "من الممكن القول بأن الاستاذ محمود قد كان مختلفا عن الاتجاه التحديثي لمؤتمر الخريجين في منهجه بأكثر من الممارسة السياسية". خرج عبدالله في دراسته متفقاً مع موقف الأستاذ محمود وأقواله بشأن ثورة رفاعة وقضية الخفاض الفرعوني. رأى عبدالله بأن العادات السيئة لا تحارب بالقوانين، وأن قانون الخفاض ولد ميتاً، وقد أشار الأستاذ محمود لذلك قائلاً: "كل أمة عندها عادات حسنة وعادات سيئة.. عادة الخفاض الفرعونى عادة سيئة لكن العادات السيئة في الشعوب ما بتحارب بالقوانين وإنما بتحارب بالتنوير والتعليم والاقتناع" (محمود محمد طه، "لقاء..."، 1975). كما رأى عبدالله بأن المستعمر لم يكن غرضه من إثارة قضية الخفاض الفرعوني، كرامة المرأة، وإنما كان غرضه إيجاد مبرر للاستمرار، وفي هذا كتب الأستاذ محمود، قائلاً: "الإنجليز ما غرضهم كرامة المرأة، هم في الحقيقة فتحوا للمرأة سوق النخاسة.. فتحوا للمرأة كل الأبواب التي لا تكون بها كريمة، لكن الغرض الحقيقي من إثارة موضوع الخفاض الفرعوني أنه –وهذا أثير في البرلمان البريطاني كان – الغرض من الإثارة وهذه أن يقولوا للعالم، في رد على حركتنا الوطنية، أن السودانيين لا يزالوا همجيين يمارسوا عادات مثل هذه وأنه مابنفتكر أنهم بلغوا الرشاد البيستحقوا بيهو حكم أنفسهم" (Abdullahi Ali Ibrahim, 2011).
كما أتفق عبدالله مع أسماء عبد الحليم، التي قالت: "على ما يبدو لم يكن طه ورجال مدينة رفاعة مسؤولين عن عدم قدرة المجتمع ليرى أذى الخفاض"، وذكرت عبدالحليم بأن "تعقيد هذه القضية أكبر من هذه الحادثة المنفردة" Asma M. Abdel Halim, 2006, p. 39)). وأضاف عبدالله بأن عبد الحليم اتفقت مع رقية أبي شرف "في أن فعالية قوانين الخفاض كان شرطاً لقدوم النساء في الجبهة المتقدمة كمدافعات ناشطات لمحاربة هذه العادة...وعندها يطالبن بحقوقهن"، وأضافت رقية أبو شرف بأن ختان الإناث عادة لها تاريخ وقامت حولها قصص وتحيط بها ثقافة وطقوس لا يمكن أن تحارب بقانون يدفع به للتطبيق دون السعي لدراسة التقاطعات الثقافية والتاريخية لهذه العادة Rogaia Mustafa Abusharaf, 2006, pp. 209- 228)). وأتفق عبدالله كذلك مع إستيف هاوردW. Howard Stephen الذي يرى بأن "من انشغل بحقوق المرأة وتحريرها وضرورة مساواتها بالرجل، حال الأستاذ محمود، لا يمكن أن يوصف بأنه وقف ضد الحداثة فيما يتعلق بالخفاض الفرعوني" Howard, W. Stephen, 2006)). كما أتفق مع جينس بودي Janice Boddy التي تناولت قضية الخفاض الفرعوني ضمن كتابها الموسوم بـ: Civilizing Women: British Crusades in Colonial Sudan. فقد خلصت دراسات هؤلاء متفقة مع الأستاذ محمود في الرأي، بأن الخفاض الفرعوني كعادة متأصلة ومتجذره لا تحارب بالقانون والبوليس وإنما بالتعليم والتنوير والوعي. كما أن دعوة الإدارة الاستعمارية إلى محاربة الخفاض الفرعوني بالطريقة التي تمت بها ما هي إلا دعوة استعمارية تفسر في إطار المعرفة الاستعمارية وفي إطار تحقيق الأغراض وخدمة السياسات والمصالح الاستعمارية. فماذا قدم المستعمر لرفاهية المرأة وتحريرها حتى يتلهف إلى تطبيق قانون الخفاض الفرعوني؟ وكيف لقانون يعلن وينفذ ويطبق قبل وضع الترتيبات اللازمة من الخطط الصحية والتنويرية والتعريفية لعامة الناس؟ وإن قانون الخفاض الفرعوني يفسر في إطار الآثار الاستعمارية، وهذه ما خلصت إليه الدراسات التي استخدمت منهج دراسات مدرسة ما بعد الاستعمار، في تحليلها ومعالجتها لثورة رفاعة والخفاض الفرعوني.
تميز عبدالله علي إبراهيم في دراسته لثورة رفاعة عن الجميع في الدراسات التي اتخذت منهج مدرسة ما بعد الاستعمار، والتي جاءت متفقه مع رأى الأستاذ محمود، بأنه درس الحدث في أفقه الثوري، وخرج به من مصاف قضية اجتماعية ثقافية، إلى حقيقة أنه ثورة ضد الاستعمار، وثورة من أجل التحرير. نجح عبدالله في تحرير ثورة رفاعة من التنميط، وفي نقد أحكام المتحاملين. وبهذا فإن عبدالله علي ابراهيم من أوائل الأكاديميين السودانيين، حسب علمي، من غير الإخوان الجمهوريين، الذين درسوا ثورة رفاعة باعتبار أنها ثورة، فأعاد إليها هويتها الثورية، وخلص إلى نتائج جاءت متفقة مع آراء الأستاذ محمود وموقفه بشأن قضية الخفاض الفرعوني.
تجدر الإشارة إلى أن عبدالله علي إبراهيم يعمل الآن على ترجمة دراسته عن ثورة رفاعة إلى اللغة العربية، بنية اصدارها في كتاب.

دعوة للعمل من أجل تفكيك المعرفة الاستعمارية لاستكمال الاستقلال

"هذا كتاب عن الثورة الثقافية، نخرجه للناس، ونستهدف به إحداث التغيير الجذري ـ في حياة الأفراد والجماعات، وذلك عن طريق إعادة التعليم ـ إعادة تعليم المتعلمين، وغير المتعلمين".
محمود محمد طه، 1972


إن تأخر الناس في السودان عن فتح ملف الذاكرة الاستعمارية، ودراسة المعرفة الاستعمارية ونقدها، كان سبباً في تأخر فهم الكثير من القضايا في السودان، لا سيما ثورة رفاعة. لا جدال في أن الإرث المعرفي الاستعماري لا يزال ماثلاً في واقع السودان السياسي والثقافي والفكري والاجتماعي والاقتصادي، بل يمكننا أن نذهب أبعد من ذلك، ونقول بأن المعرفة الاستعمارية لا تزال تسيطر على العقول والتصورات، وبالتالي فهي لا تزال توجه مسار السودان، وتتحكم في مصير وحدة أراضيه. ولا جدال أيضاً، أن المعرفة الاستعمارية تتجلى بأفصح ما يكون في قضايا التهميش، وفي تاريخ التهميش في السودان، ولهذا فإن الحاجة ماسة وملحة إلى نقد الإرث المعرفي للاستعمار في السودان. والحاجة ماسة أيضاً، إلى ضرورة تفكيك البناء الاستعماري المعرفي للمفاهيم والتصورات لطبيعة القضايا وجذور المشكلات. والحاجة ماسة كذلك، لضرورة تفكيك الذاكرة الاستعمارية التي أصبحت ضمن ذواكر أخرى تتفاعل في ثنايا السيرورة التاريخية. لا شك أن هناك بعض الجهود التي تمت في نقد الإرث الاستعماري في السودان، ولكننا في حاجة للمزيد من الدراسات.
وفي تقديري، إن وضع الحلول الجذرية لقضايا التهميش في السودان، الذي يعني استكمال الاستقلال، يتطلب العمل على تحرير العقول وتصحيح التصورات وتنقية الخيال من المعرفة الاستعمارية. فقد دعا الأستاذ محمود، كما ورد آنفاً، إلى ضرورة السعي باستمرار لاستكمال الاستقلال، من النواحي الاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية (محمود محمد طه، 1974، ص 7-11). وبهذه المناسبة فإنني أجدد الدعوة، التي سبق وأن أطلقتها في عام 2012 (عبدالله الفكي البشير، 26 مارس 2012)، وأعدت اطلاقها في 18 يوليو عام 2017، للمؤسسات الأكاديمية ومراكز البحوث والدراسات في السودان، إلى ضرورة العمل على تبني عقد مؤتمر عن المعرفة الاستعمارية، بهدف الفحص والتمحيص والكشف عن مراميها وأبعادها والتفكيك لمفاهيمها والدراسة لآثارها الاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية في السودان. إلى جانب توجيه الطلاب في الدراسات الأكاديمية إلى دراسة المعرفة الاستعمارية في آفاقها المختلفة. إن الإرث الاستعماري في السودان بحقبه المختلفة، هو في حاجة لدراسات مكثفة ومعمقة، حتى نستكمل استقلال السودان. وهو ما دعا إليه الأستاذ محمود محمد طه منذ خمسينات القرن الماضي.


ثبت المصادر والمراجع

"اجراءات الدورة الأولى 15- 18 مايو سنة 1944، المجلس الاستشاري لشمال السودان"، دار الوثائق القومية، مجموعة المجلس الاستشاري لشمال السودان Advisory Council: 1/2/16.
"اضراب رئيس الحزب الجمهوري عن الطعام"، صحيفة الرأي العام، الثلاثاء 25 يونيو 1946.
"التحقيق مع سكرتير الحزب الجمهوري"، صحيفة الرأي العام، 4 يونيو 1946.
"القرارات التي اصدرها المجلس الاستشاري لشمال السودان في دورته الثالثة"، صحيفة السودان الجديد، 1 يونيو 1945.
"رئيس الحزب الجمهوري يعود إلى الاضراب عن الطعام"، صحيفة الرأي العام، 8 يوليو 1946.
"في رفاعة والحصاحيصا ثورة وتجريدة"، صحيفة السودان الجديد، الجمعة 27 سبتمبر 1946.
"ما يلي بعض الحقائق عن المسجون محمود محمد طه"، صحيفة الرأي العام 12 يوليو 1946.
"محاكمة أعضاء الحزب الجمهوري"، صحيفة الرأي العام، 21 أكتوبر 1946.
"محاكمة ثلاثة من أعضاء الحزب الجمهوري"، صحيفة الرأي العام، 19 أكتوبر 1946.
"مذكرة ايضاحية: قانون المجالس الاستشارية سنة 1943"، اجراءات الدورة الأولى 15- 18 مايو سنة 1944، المجلس الاستشاري لشمال السودان، دار الوثائق القومية، مجموعة المجلس الاستشاري لشمال السودان Advisory Council: 1/2/16، الخرطوم.
"مذكرة عن الخفاض في السودان الإنجليزي المصري"، دار الوثائق القومية، مجموعة المتنوعات: 1/78/971، الخرطوم.
"من هم أعضاء المجلس الاستشاري"، صحيفة السودان الجديد، الجمعة 24 مارس 1944.
إبراهيم يوسف فضل الله، ثورة رفاعة المجهولة: لوحة مشرفة من النضال الوطني وأول ثورة أرغمت الاستعمار، الخرطوم، 2004.
اجراءات الدورة الرابعة 3- 8 نوفمبر 1945، المجلس الاستشاري لشمال السودان: "وقائع الدورة الثالثة" دار الوثائق القومية، مجموعة المجلس الاستشاري لشمال السودان Advisory Council: 1/6/28.
أحمد خير المحامي، كفاح جيل: تاريخ حركة الخريجين وتطورها في السودان، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، 2002.
الإخوان الجمهوريون، الخفاض الفرعوني، الخرطوم، 1981.
الإخوان الجمهوريون، معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية، الكتاب الأول، ط1، أم درمان، 1976
أمين محمد صديق، في ذكرى الاستقلال رقم (60): مذكرات سكرتير الحزب الجمهوري الأستاذ أمين محمد صديق، ديسمبر 2015.
التجاني عامر، "ذكريات: من مذكرات التجاني عامر"، صحيفة الصحافة، العدد رقم (4772)، 16 أبريل 1975.
جلال الدين الهادي الطيب، مقالات تحكي تاريخ الحزب الجمهوري، (مخطوطة).
الحزب الجمهوري، "الحزب الجمهوري يتصل بأعضاء المجلس الاستشاري"، صحيفة الرأي العام، 4 مارس 1946.
دار الوثائق القومية، مجموعة المجلس الاستشاري لشمال السودان Advisory Council: 1/11/48.
سعيد شايب، "الحرية.. لنا.. ولسوانا"، صحيفة الصحافة، الأحد 8 ديسمبر 1968.
صحيفة الرأي العام، 12 أكتوبر 1946.
عبدالله الفكي البشير، "إسهامات عبدالله علي إبراهيم في تفكيك المعرفة الاستعمارية: ثورة رفاعة نموذجاً"، ورقة مقدمة بمناسبة الاحتفاء بمرور (60) عاماً من الكتابة عند عبدالله علي إبراهيم 60 Years of Scholarship- Abdullahi Ali Ibrahim الجمعية السودانية للمعرفة بالتعاون مع اتحاد الكتاب السودانيين، الخرطوم، الثلاثاء 18 يوليو 2017.
عبدالله الفكي البشير، "المعرفة الاستعماريـة وإرث السـودان السيـاسـي قراءة في إسهامات البروفيسـور عثمان البيلي النقديـة"، جهود أ. د. عثمان البيلي العلمية وعطاءاته الإنسانية (ندوة علمية)، مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، المدينة التعليمية، الدوحة، قطر، الاثنين 26 مارس 2012، الدوحة، قطر.
عبدالله الفكي البشير، صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، ط1، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2013.
عبدالله علي إبراهيم، بخت الرضا: الاستعمار والتعليم، سلسلة كاتب الشونة، ط1، دار المصورات للنشر، الخرطوم، 2010.
على الميرغني، "مقدمة صاحب السعادة السير السيد علي الميرغني باشا"، ضمن: مذكرة عن الخفاض في السودان الإنجليزي المصري، دار الوثائق القومية، مجموعة المتنوعات: 1/78/971، الخرطوم.
عون الشريف قاسم، موسوعة القبائل والأنساب في السودان وأشهر أسماء الأعلام والأماكن، الجزء الثالث، ط1، شركة آفروقراف للطباعة والتغليف، الخرطوم، 1996.
محمد عمر بشير، تاريخ الحركة الوطنية في السودان (1900م-1969م)، مصدر سابق، ص 218
محمود محمد طه، "الدستور والحقوق الأساسية"، (محاضرة) ، نادي أبناء أرض الحجر، الأربعاء 19 مارس 1969، (يمكن الاطلاع على المحاضرة من موقع الفكرة الجمهورية على الإنترنت، الرابط: http://www.alfikra.org/talk_view_a.php?talk_id=37#
محمود محمد طه، "بيان الحزب الجمهوري عن مشروع قانون الخفاض الفرعوني"، (بيان)، 10 ديسمبر 1945.
محمود محمد طه، "خطاب الاسبوع: [سعيد يتساءل] "، صحيفة الشعب، العدد رقم: (8)، السبت 27 يناير 1951.
محمود محمد طه، "لقاء الأستاذ محمود بمندوبي معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية"، أجرى اللقاء: عبدالرحيم الريح، وجعفر الأمين، وعبدالله إدريس، جامعة الخرطوم، 22 نوفمبر- 6 ديسمبر 1975، مكتبة معهد الدراسات الأفريقية والأسيوية: IAAS/1826 22؛ محمود محمد طه، "لقاء الأستاذ محمود بمندوبي معهد الدراسات الأفريقية والأسيوية"، من موقع الفكرة الجمهورية، استرجاع (Retrieved) بتاريخ 27 أكتوبر 2011، الرابط على الإنترنت: https://www.alfikra.org/interview_page_view_a.php?talk_id=11&page_id=1
محمود محمد طه، "محمود محمد طه: الشريعة ليست الإسلام بل مدخل إليه.. الماركسية خطأ في أصلها.. أحزابنا لا تؤمن بالديمقراطية"، (تحقيق صحفي)، تحقيق عمر الحسين، مجلة الأضواء، السبت 21 سبتمبر 1968.
محمود محمد طه، "منشور رقم (6) مشكلة الجنوب (2)"، (منشور)، 21 فبراير 1946. (ملاحظة من المؤلف: ورد هذا المنشور عند جلال الدين الهادي الطيب بتاريخ 11 فبراير 1946).
محمود محمد طه، الثورة الثقافية، ط1 أربجي، 1972.
محمود محمد طه، الدعوة الإسلامية الجديدة، ط1، أم درمان، 1974
مدثر عبد الرحيم، "الامبريالية والقومية في السودان: دراسة للتطور الدستوري والسياسي في السودان (1899م-1956م)"، دار النهار للنشر، بيروت، 1971.

المراجع باللغة الإنجليزية

Abdullahi Ali Ibrahim, “Keep These Women Quiet:” Colonial Modernity, Nationalism, and the Female Barbarous Custom, Hawwa: Journal of Women of the Middle East and the Islamic World 9, 2011, PP. 97–151.
Asma M. Abdel Halim, Sudanese Women in the United States: The Double Problem of Gender and Culture, the Edwin Mellen Press, New York/ Queenstown, 2006.
Howard, W. Stephen, Mahmoud Mohammed Taha and the Repuplicant Sisters: A Movement for Women in Muslim Sudan, Ahfad Journal, Vol. 23, No. 2, December 2006, Omdurman.
Janice Boddy, Civilizing Women: British Crusades in Colonial Sudan, Princeton University Press, Princeton and Oxford, 2007.
Rogaia Mustafa Abusharaf, “We Have Supped So Deep in Horrors”: Understanding Colonialist Emotionality and British Responses to Female Circumcision in Northern Sudan, History and Anthropology, Vol. 17, No. 3, September 2006.
abdallaelbashir@gmail.com
/////////////////

 

آراء