الذكرى المئوية لثورة 1924 (10)
تاج السر عثمان بابو
13 January, 2024
13 January, 2024
بقلم : تاج السر عثمان
ماهو موقع ثورة 1924 في سلسلة مقاومة الاحتلال البريطاني؟
تتابع في هذه الحلقة الاشكال الجديدة من المقاومة للاحتلال البريطاني التي بدأت بتمرد الجيش السوداني بعد انحسار المقاومة القبلية والدينية.
تمرد الجيش السوداني
1
في يناير 1900 قامت إحدى الاورط بالقاء القبض على الضباط البريطانيين، واستولت على المهمات العسكرية، وكانت أسباب ذلك التمرد كما لخصها اللورد كرومر في الآتي :
أ – الانطباع العميق السائد بوجه خاص بين الجنود نتيجة الهزائم في الترانسفال ( المقصود حرب البوير الثانية التي امتدت من 11 أكتوبر 1899 الي 31 مايو 1902 التي ارهقت الجيش البريطاني)، وكانت أكثر التقارير سوءا هي التي ترددت في أمدرمان من أن تمردا حدث بالقاهرة، أو أنه يجب ارسال قوات من السود الي رأس الرجاء الصالح. الخ.
ب – سلوك الخديوى والصحف المحلية بالقاهرة، ذلك أن الخديوى لم يخف كراهيته الشديدة للسردار السابق، وفي الحقيقة كان يعطى الانطباع بأنه ودي إزاء من مالوا الي عدم الخضوع، أكثر من الميل للممثلين للسلطة الشرعية، وبالنسبة لتشكيل الجيش المصري، فقد كان ذاك كافيا لاثارة روح من التمرد، لا تتطلب الا فرصة لانفجار لهب الثورة.
ج – وهناك سبب كامن هو التذمر الذي حدث نتيجة الحكم القاسي للسردار السابق كتشنر، فلقد كانت الفكرة الوحيدة المسيطرة عليه هى أن يحكم باشاعة الرهبة في النفوس، والرهبة التي أشاعها كان على وجه يُتصّور معه أن التمرد الذي حدث ما كان يمكن أن يقوم لو بقي هو في السودان.
( أنظر تلخيص كرومر في محمد عمر بشير: تاريخ الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 66 – 67).
يواصل كرومر ويقول : وكل الدلائل اقنعتني بأن انتهى الي أن نظام حكمه سواء بالنسبة للشؤون المدنية والعسكرية، كان لا بد مؤديا الي الانهيار إن عاجلا أو آجلا. فضلا عن هذه الأسباب المؤكدة، يمكن اضافة أسباب أخرى مثل: الاتهامات العديدة التي حدثت في صفوف الضباط البريطانيين والمعاملة غير العادلة للقوات المصرية بواسطة الضباط البريطانيين والضباط غير النظاميين وبوجه أخص من الأخيرين، وازالة مدافع المكسيم وقيام الجنود بتشييد قصر كبير للحاكم العام كثير التكاليف لا نرى داعيا لتشييده واهماله المدرسة الحربية.
2
واضاف الكولونيل جاكسون الذي أُرسل الي أمدرمان لكي يقوم بالتحقيق في التمرد، اضاف مسألة كبري جديدة تتمثل في أن بعض الضباط المصريين كونوا سرا ناديا أو جماعة وطنية مركزها القاهرة، وأنهم كانوا على اتصال دائم بها ولها فرع بام درمان ( محمد عمر بشير تاريخ الحركة الوطنية ، ص 67). ولدى استلام الضباط الأوامر بتسليم اسلحتهم دار بخلدهم أن الاشاعات بشأن اضطرابات القاهرة لا بد أن تكون صحيحة، ومن ثم فإن الأوامر فيما يتعلق بتسليم البنادق والمهمات اتخذت كاجراءات احتياطية لأي احتمال للتمرد في صفوف الجنود المصريين والسودانيين، وبتحريض من اليوزباشي محمد مختار من الاورطة السودانية الرابعة عشرة ، لم يرفض الجنود الانصياع للاوامر فحسب ، بل بادروا بالهجوم على المخازن ، وابعدوا الحارس واستولواعلى كميات كبيرة من المهمات الحربية ( أنظر جاكسون في المرجع السابق، ص 67- 68).
ولما قُبض على بعض منهم انفجر لهب التمرد وتحقق جاكسون من أن هناك عدم رضا بين صغار الضباط المصريين والقلة من الضباط السودانيين الذين تلقوا تدريبهم في المدرسة الحربية بالقاهرة، فقد شكوا من قلة مرتباتهم واللوائح المعاشية التي قضت بأن الضابط الذي عمل لأقل من عشر سنوات لا يكون له معاش يُذكر، ولم يكن كثير من الضباط المصريين مستعدين أو راغبين للعمل مثل تلك المدة الطويلة ( نفسه ، ص 68).
3
وتبين ايضا أنه فيما عدا قلة من الضباط القياديين كان هناك اتصال ضئيل بين الجنود والضباط البريطانيين.
كتب جاكسون " وعلى خلاف ما كان يحدث في الماضي عندما كان جميع الضباط البريطانيين يختلطون برجالهم، فانهم اصبحوا الآن يقضون أوقاتهم بين نادى البولو والمنزل ( نفسه، ص 68). كما أن الضباط البريطانيين لم يكونوا على صلة كافية الضباط المصريين والسودانيين". بل أكثر من ذلك فان صغار الضباط البريطانيين "كانوا دائما وقحين في مواجهة من هم أكبر منهم سنا، وفي مواجهة الضباط الآخرين الذين قضوا مدة أطول وأكثر تجربة منهم والذين عُوملوا دائما في الأيام الخالية باحترام تام من جانب الضباط البريطانيين.
ومن ناحية أخرى، لم يكن الضباط السودانيون، وفقا لذلك التقرير ممن يُعتمد عليهم اذ أنهم نتاج نفس المدرسة الحربية التي تخرج فيها صغار الضباط المصريين( نفسه 68).
4
وخلص جاكسون الي مقترحات تتلخص في اختيار قواد الاورطة السودانية بكل دقة، كما يجب أن يبدى صغار الضباط البريطانيين اهتماما أكثر باورطتهم والجنود العاملين فيها، وأنه يجب زيادة عدد الضباط المترقين من صفوف الجند، وسحب جميع الطلاب السودانيين من المدرسة الحربية بالقاهرة، وانشاء أول مدرسة حربية لمثل هؤلاء الطلاب بالخرطوم.
على أساس تقرير ومقترحات جاكسون تمّ تأسيس المدرسة الحربية بالخرطوم عام 1905.
5
وأخيرا نصل الي أن الحكومة استطاعت أن تنفرد بكل حركة من تلك الحركات المنعزلة وتقمعها، هذا اضافة الي أن اشكال المقاومة القبلية أو الدينية ( على أساس المهدى المنتظر أو عيسى) ما عادت هي الأشكال الملائمة المتطورة التي تناسب التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي بدأت تحدث في السودان منذ بداية القرن العشرين، هذا من جانب، أما من الجانب تلأخر فإن هذه الحركات شكلت البدايات الأولي لمقاومة الحكم الثنائي والتي استندت اليها الحركة الوطنية فيما بعد، وبهذا المعني فإن هذه الحركات هى جزء من الحركة الوطنية.
وليس دقيقا ماأورده تيم نبلوك الذي يقول "في بعض الأحيان يجري تصوير المقاومة الأولية للحكم الثنائي والتي شملت قبائل ومجموعات دينية شهرت السلاح في وجه الغزاة ، وكأنها جزء لا يتجزأ من الحركة الوطنية السودانية، غير أن هذه المقاومة لا يربطها الا القليل، ولا أثر لها اطلاقا على الحركة الوطنية التي بدأت في النمو منذ العام 1920، فالخريجون والضباط الذين وضعوا الأساس للحركة الوطنية السودانية كانوا يستلهمون الأحداث الوطنية من مصر، إن أهمية المقاومة الأولية تنبع من كونها دليلا على أن الشعب السوداني لم يستسلم بسهولة لحكم الاستعمار، ولكنها لا تضيف شيئا للحركة الوطنية التي تمت بعد ذلك.
( تيم نبلوك : صراع السلطة والثروة في السودان، ترجمة محمد على جادين والفاتح التجاني، دار جامعة الخرطوم للنشر1990، ص 162- 163).
وفي نقديري أن كل هذه الحلقات ( المقاومة القبلية والدينية والحركة الوطنية الحديثة) مترابطة ولا يمكن الفصل بينها وتكمل بعضها البعض، قد يكون الاختلاف هو اختلاف مقدار وتطور لأن المقاومة القبلية والدينية هي امتداد للبنية الفوقية للمجتمع السوداني التي كانت سائدة في مملكة الفونج وسلطنة دارفور والحكم التركي والمهدية، وأنها اصبحت لا تلائم الظروف الجديدة ، لكنها على كل حال شكلت جذرا أساسيا للحركة الوطنية فيما بعد، واستندت عليها الحركة الوطنية كأحد مصادر تراكم نضال الشعب السوداني، وأن انتصار الحركة الوطنية في عام 1956 كان تراكما وتواصلا لنضالات طويلة خاضها الشعب السوداني بدأت بالاشكال القبلية والدينية.
نواصل
alsirbabo@yahoo.co.uk
//////////////////////
ماهو موقع ثورة 1924 في سلسلة مقاومة الاحتلال البريطاني؟
تتابع في هذه الحلقة الاشكال الجديدة من المقاومة للاحتلال البريطاني التي بدأت بتمرد الجيش السوداني بعد انحسار المقاومة القبلية والدينية.
تمرد الجيش السوداني
1
في يناير 1900 قامت إحدى الاورط بالقاء القبض على الضباط البريطانيين، واستولت على المهمات العسكرية، وكانت أسباب ذلك التمرد كما لخصها اللورد كرومر في الآتي :
أ – الانطباع العميق السائد بوجه خاص بين الجنود نتيجة الهزائم في الترانسفال ( المقصود حرب البوير الثانية التي امتدت من 11 أكتوبر 1899 الي 31 مايو 1902 التي ارهقت الجيش البريطاني)، وكانت أكثر التقارير سوءا هي التي ترددت في أمدرمان من أن تمردا حدث بالقاهرة، أو أنه يجب ارسال قوات من السود الي رأس الرجاء الصالح. الخ.
ب – سلوك الخديوى والصحف المحلية بالقاهرة، ذلك أن الخديوى لم يخف كراهيته الشديدة للسردار السابق، وفي الحقيقة كان يعطى الانطباع بأنه ودي إزاء من مالوا الي عدم الخضوع، أكثر من الميل للممثلين للسلطة الشرعية، وبالنسبة لتشكيل الجيش المصري، فقد كان ذاك كافيا لاثارة روح من التمرد، لا تتطلب الا فرصة لانفجار لهب الثورة.
ج – وهناك سبب كامن هو التذمر الذي حدث نتيجة الحكم القاسي للسردار السابق كتشنر، فلقد كانت الفكرة الوحيدة المسيطرة عليه هى أن يحكم باشاعة الرهبة في النفوس، والرهبة التي أشاعها كان على وجه يُتصّور معه أن التمرد الذي حدث ما كان يمكن أن يقوم لو بقي هو في السودان.
( أنظر تلخيص كرومر في محمد عمر بشير: تاريخ الحركة الوطنية في السودان، مرجع سابق، ص 66 – 67).
يواصل كرومر ويقول : وكل الدلائل اقنعتني بأن انتهى الي أن نظام حكمه سواء بالنسبة للشؤون المدنية والعسكرية، كان لا بد مؤديا الي الانهيار إن عاجلا أو آجلا. فضلا عن هذه الأسباب المؤكدة، يمكن اضافة أسباب أخرى مثل: الاتهامات العديدة التي حدثت في صفوف الضباط البريطانيين والمعاملة غير العادلة للقوات المصرية بواسطة الضباط البريطانيين والضباط غير النظاميين وبوجه أخص من الأخيرين، وازالة مدافع المكسيم وقيام الجنود بتشييد قصر كبير للحاكم العام كثير التكاليف لا نرى داعيا لتشييده واهماله المدرسة الحربية.
2
واضاف الكولونيل جاكسون الذي أُرسل الي أمدرمان لكي يقوم بالتحقيق في التمرد، اضاف مسألة كبري جديدة تتمثل في أن بعض الضباط المصريين كونوا سرا ناديا أو جماعة وطنية مركزها القاهرة، وأنهم كانوا على اتصال دائم بها ولها فرع بام درمان ( محمد عمر بشير تاريخ الحركة الوطنية ، ص 67). ولدى استلام الضباط الأوامر بتسليم اسلحتهم دار بخلدهم أن الاشاعات بشأن اضطرابات القاهرة لا بد أن تكون صحيحة، ومن ثم فإن الأوامر فيما يتعلق بتسليم البنادق والمهمات اتخذت كاجراءات احتياطية لأي احتمال للتمرد في صفوف الجنود المصريين والسودانيين، وبتحريض من اليوزباشي محمد مختار من الاورطة السودانية الرابعة عشرة ، لم يرفض الجنود الانصياع للاوامر فحسب ، بل بادروا بالهجوم على المخازن ، وابعدوا الحارس واستولواعلى كميات كبيرة من المهمات الحربية ( أنظر جاكسون في المرجع السابق، ص 67- 68).
ولما قُبض على بعض منهم انفجر لهب التمرد وتحقق جاكسون من أن هناك عدم رضا بين صغار الضباط المصريين والقلة من الضباط السودانيين الذين تلقوا تدريبهم في المدرسة الحربية بالقاهرة، فقد شكوا من قلة مرتباتهم واللوائح المعاشية التي قضت بأن الضابط الذي عمل لأقل من عشر سنوات لا يكون له معاش يُذكر، ولم يكن كثير من الضباط المصريين مستعدين أو راغبين للعمل مثل تلك المدة الطويلة ( نفسه ، ص 68).
3
وتبين ايضا أنه فيما عدا قلة من الضباط القياديين كان هناك اتصال ضئيل بين الجنود والضباط البريطانيين.
كتب جاكسون " وعلى خلاف ما كان يحدث في الماضي عندما كان جميع الضباط البريطانيين يختلطون برجالهم، فانهم اصبحوا الآن يقضون أوقاتهم بين نادى البولو والمنزل ( نفسه، ص 68). كما أن الضباط البريطانيين لم يكونوا على صلة كافية الضباط المصريين والسودانيين". بل أكثر من ذلك فان صغار الضباط البريطانيين "كانوا دائما وقحين في مواجهة من هم أكبر منهم سنا، وفي مواجهة الضباط الآخرين الذين قضوا مدة أطول وأكثر تجربة منهم والذين عُوملوا دائما في الأيام الخالية باحترام تام من جانب الضباط البريطانيين.
ومن ناحية أخرى، لم يكن الضباط السودانيون، وفقا لذلك التقرير ممن يُعتمد عليهم اذ أنهم نتاج نفس المدرسة الحربية التي تخرج فيها صغار الضباط المصريين( نفسه 68).
4
وخلص جاكسون الي مقترحات تتلخص في اختيار قواد الاورطة السودانية بكل دقة، كما يجب أن يبدى صغار الضباط البريطانيين اهتماما أكثر باورطتهم والجنود العاملين فيها، وأنه يجب زيادة عدد الضباط المترقين من صفوف الجند، وسحب جميع الطلاب السودانيين من المدرسة الحربية بالقاهرة، وانشاء أول مدرسة حربية لمثل هؤلاء الطلاب بالخرطوم.
على أساس تقرير ومقترحات جاكسون تمّ تأسيس المدرسة الحربية بالخرطوم عام 1905.
5
وأخيرا نصل الي أن الحكومة استطاعت أن تنفرد بكل حركة من تلك الحركات المنعزلة وتقمعها، هذا اضافة الي أن اشكال المقاومة القبلية أو الدينية ( على أساس المهدى المنتظر أو عيسى) ما عادت هي الأشكال الملائمة المتطورة التي تناسب التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي بدأت تحدث في السودان منذ بداية القرن العشرين، هذا من جانب، أما من الجانب تلأخر فإن هذه الحركات شكلت البدايات الأولي لمقاومة الحكم الثنائي والتي استندت اليها الحركة الوطنية فيما بعد، وبهذا المعني فإن هذه الحركات هى جزء من الحركة الوطنية.
وليس دقيقا ماأورده تيم نبلوك الذي يقول "في بعض الأحيان يجري تصوير المقاومة الأولية للحكم الثنائي والتي شملت قبائل ومجموعات دينية شهرت السلاح في وجه الغزاة ، وكأنها جزء لا يتجزأ من الحركة الوطنية السودانية، غير أن هذه المقاومة لا يربطها الا القليل، ولا أثر لها اطلاقا على الحركة الوطنية التي بدأت في النمو منذ العام 1920، فالخريجون والضباط الذين وضعوا الأساس للحركة الوطنية السودانية كانوا يستلهمون الأحداث الوطنية من مصر، إن أهمية المقاومة الأولية تنبع من كونها دليلا على أن الشعب السوداني لم يستسلم بسهولة لحكم الاستعمار، ولكنها لا تضيف شيئا للحركة الوطنية التي تمت بعد ذلك.
( تيم نبلوك : صراع السلطة والثروة في السودان، ترجمة محمد على جادين والفاتح التجاني، دار جامعة الخرطوم للنشر1990، ص 162- 163).
وفي نقديري أن كل هذه الحلقات ( المقاومة القبلية والدينية والحركة الوطنية الحديثة) مترابطة ولا يمكن الفصل بينها وتكمل بعضها البعض، قد يكون الاختلاف هو اختلاف مقدار وتطور لأن المقاومة القبلية والدينية هي امتداد للبنية الفوقية للمجتمع السوداني التي كانت سائدة في مملكة الفونج وسلطنة دارفور والحكم التركي والمهدية، وأنها اصبحت لا تلائم الظروف الجديدة ، لكنها على كل حال شكلت جذرا أساسيا للحركة الوطنية فيما بعد، واستندت عليها الحركة الوطنية كأحد مصادر تراكم نضال الشعب السوداني، وأن انتصار الحركة الوطنية في عام 1956 كان تراكما وتواصلا لنضالات طويلة خاضها الشعب السوداني بدأت بالاشكال القبلية والدينية.
نواصل
alsirbabo@yahoo.co.uk
//////////////////////