الذكرى 139 لتحرير الخرطوم (2/ 2) أسباب وعوامل نجاح الثورة المهدية
تاج السر عثمان بابو
26 January, 2024
26 January, 2024
بقلم: تاج السر عثمان
ثانيا: عوامل نجاح الثورة المهدية:
حول عوامل نجاح الثورة المهدية نشير أيضا إلى اتجاهين:
الأول : اتجاه شقير الذي يعزى عوامل نجاح الثورة إلى أ - استخفاف الحكومة في بادئ الأمر بحركة المهدي ب – الانشغال بثورة عرابي وضعف الحاميات العسكرية لحظة وقوع الثورة ج – تردد الحكومة التي لم تتخذ سياسة نافذة لإخماد الثورة .
ولكن د . أبو سليم في تقويمه وتصويبه لتاريخ شقير في ص 635 يورد التالي ( يقول نعوم شقير أن الحكومة استخفت بشأن محمد احمد ، ولكن الحق أنها لم تستخف وإنما أخفقت فيما اتخذت من إجراءات . ( أبو سليم 1987:1987 ،ص 220 ).
الثاني : اتجاه هولت المنهجي والنظري الذي يحدد عناصر نجاح الثورة في الآتي : أ – يواكب الشعور بالسخط العام ضعف مادي أو معنوي في النظام القائم يجعل من العسير قمع الثورة إبان نشوبها . ب – وجود جيش ثوري على استعداد لاستعمال العنف في سبيل هدفه .
ج – وجود القيادة الثورية التي تطرح البديل للنظام القائم .
أي أن العنصر ( أ ) يدخل في الشرط الموضوعي والعنصران ( ب ) ، ( ج ) يدخلان في الشرط الذاتي . ويرجع هولت عوامل نجاح الثورة المهدية إلى توفر الشرطين الموضوعي والذاتي أعلاه .
. ويتفق د.عبد الله على إبراهيم ود.محمد سعيد القدال مع طرح هولت المنهجي والنظري .
ويشير د .قدال إلى أن ماركس أول فيلسوف يضع تصورا شاملا لعملية التغيير الاجتماعي، ولكن ما ذكره هولت يلتقي كثيرا مع الشروط التي وضعها لينين لنجاح الانتفاضة إذ اشترط لنجاحها : عجز السلطة القائمة في الدفاع عن نفسها ورفض الناس تماما للاستمرار تحتها ووجود قيادة ثورية ( قدال:ص44). ) .
وقبل مناقشة هذه الآراء وصياغة مفهومنا ورؤيتنا حول أسباب الثورة المهدية ، نطرح القضايا المنهجية التالية :
1 – الثورة المهدية هي حاصل تطور تاريخي، وهي عملية وحاصل تراكم كمي لانتفاضات وثورات جزئية ظلت مستمرة ضد الحكم التركي – المصري حتى تم تتويجها بالثورة المهدية ، كثورة أو انتفاضة شاملة ضد النظام ، ويمكن تتبع الخط البياني الصاعد لتلك الانتفاضات على النحو التالي:
- . مقاومة الشايقية عند بداية الغزو التركي
- ثورة أهل سنار بقيادة رجب ود عدلان
- ثورة المك نمر – مقاومة أهل العليفون
- مقاومة أهالي مدني – تمرد المواطنين وهجرتهم لأوطانهم نتيجة الضرائب الباهظة على الأراضي والماشية ونتيجة الظلم والفساد.
- عصيان الشيخ خليفة بن الحاج العبادي. – ثورة أهالي التاكا ( الشرق ) عام 1844 . – تمرد زعماء الشكرية على أراكيل بك الحاكم العام . – ثورة الجنود السودانيين في مدني سنة 1844 . – ثورة الجهادية السود في كسلا سنة 1865 والتي أوشكت أن تقضي على الحكم في مديرية التاكا، وبالتالي على النفوذ الحكومي في شرق السودان. -.
- ثورة هارون الرشيد في دار فور – ثورة صباحي في كردفان – ثورة سليمان ورابح الزبير باشا رحمة في مديرية بحر الغزال في سنة 1879 (للمزيد من التفاصيل، راجع: تاج السر عثمان الحاج: التاريخ الاجتماعي لفترة الحكم التركي ، مركز محمد عمر بشير 2006م).
رغم نجاح الحكومة في قمع تلك الانتفاضات والثورات الجزئية وانفرادها بكل منها وسحق المعارضين والتنكيل بهم بالشنق والإعدام رميا بالرصاص وبحملات الإبادة الشاملة، إلا أن الملاحظ استمرار تلك الانتفاضات، وما أن يتم إخماد ثورة أو انتفاضة حتى تندلع أخري، وإذا كانت هذه الثورات قد أخمدت في أوقاتها، إلا أنها شكلت المقدمة للثورة الشاملة في الثورة المهدية والتي نجحت بفضل شمولها وعجز النظام القائم عن قمعها ووجود القيادة الثورية والجيش الثوري ، أي بعد استكمال الشروط التي تحدث عنها هولت ولينين. .
وبالتالي ، فإنني اتفق مع توفر الشروط الموضوعية والذاتية لنجاح الثورة، وإن الثورة هى حصيلة وجماع وتراكم انتفاضات وثورات جزئية سابقة.
2 – لا يكفي أخذ عنصر واحد من عناصر المحرك أو الدافع الاجتماعي ، واعتباره المحرك الأول للثورة المهدية مثل شخصية الإمام المهدي أو المعتقد الديني أو الظلم وسوء الإدارة أو التدهور الخلقي. الخ . بل في تقديري أنه لا يكفي حتى لو أخذنا كل العناصر في الشق الأول مجتمعة واعتبارها المحرك الأول أو الرئيسي للثورة المهدية، وبالمستوي نفسه في تقديري لا يكفي أن نأخذ المحرك أو الدافع الاقتصادي لفهم المحرك الحقيقي للثورة المهدية .
3 – في تحديد أسباب انتفاضات العالم الإسلامي ومنها الثورة المهدية.
كثيرا ما يرد ( كما أورد د . قدال ) تصور فرديرك انجلز لأسباب تلك الانتفاضات وأساسها الإسلامي.
وقد صاغ انجلز ذلك التصور في مقال له بعنوان : (إسهام في تاريخ المسيحية الأولية) والذي جاء فيه : ( أن انتفاضات العالم المحمدي - الإسلامي - بخاصة في إفريقيا تشكل حالة مناقضة فريدة مع هذا، فالإسلام هو دين صيغ على قدر الشرقيين وعلى العرب بشكل أخص ، أي من جهة سكان مدن يمارسون التجارة والصناعة، ومن جهة أخرى بدو رحل، وهنا توجد بذور تصادم دوري : سكان المدن الذين أصبحوا موسرين وباذخين أهملوا مراعاة الشريعة، والبدو الفقراء وبسبب ذوو العادات الصارمة نظروا بحسد وطمع إلى هذه الثروات وهذه المتع، اتحدوا تحت قيادة نبي مهدى لمعاقبة الكفار وإقامة حكم الشريعة والإيمان الصحيح، وللاستيلاء كثواب على كنوز الكفار.
وبعد مضي مائة عام وجدوا أنفسهم بالطبع في نفس الوضع الذي كان فيه هؤلاء حركة تطهير جديد تصبح أمرا ضروريا، مهدى جديد يظهر، وهكذا دواليك .
جرت الأمور على هذا النحو منذ حروب الفتح التي خاضها المرابطون والموحدون ( المرابطون عائلة مالكة مغربية في أفريقيا الشمالية وجنوب اسبانيا : 1056 – 1146 ه ، والموحدون : عائلة مالكة مغربية أطاحت بالمرابطين عام 1146 ومارست السلطة حتى العام 1269 ه ) الإفريقيون في اسبانيا حتى المهدي الأخير في الخرطوم ظافرا، كان الأمر كذلك تقريبا بالنسبة لثورات في فارس وغيرها من المقاطعات الإسلامية.
هذه حركات وُلدت من أسباب اقتصادية، رغم أنها ارتدت قناعا دينيا لكنها عند نجاحها تترك الشروط الاقتصادية كماهى لا تغيير البتة إذن والصدام يغدوا دوريا، وبالمقابل في الانتفاضات الشعبية في الغرب المسيحي، القناع الديني لا يخدم إلا كراية وقناع ضد نظام اقتصادي اصبح فائتا في النهاية يُطاح بهذا النظام ، ينهض نظام جديد ، ثمة تقدم ، العالم يسير .. ) ( انجلز : إسهام في تاريخ المسيحية الأولية ، مجلة العصور الحديثة ، السنة 13 ، 1894 – 1895 ، المجلد 1 ، العدد:22). ) .
معلوم أن انجلز أسهم مع كارل ماركس في صياغة النظرية الماركسية، ذائعة الصيت في القرن التاسع عشر، وكان معاصرا للثورة المهدية عند وقوعها، ونلاحظ أن انجلز كان دقيقا عندما أشار إلى أن ( المهدي في الخرطوم الذي جابه الإنجليز ظافرا )، وربما كان ذلك يُعزى إلى أن إنجلترا بعد هزيمة الثورة العرابية احتلت مصر، وبالتالي أصبح صراع المهدى عمليا ضد الإنجليز، ومهما يكن من شئ ، فإنه كان موفقا في تحديد الاستعمار الذي هزمه المهدي الذي هو الإنجليزي.
ومهم هنا، أن نتناول بالنقد والتحليل مقولة سكان المدن وسكان البدو التي طرحها انجلز كسبب من أسباب الثورة المهدية، بمعنى إرجاع الثورة المهدية إلى أسباب اقتصادية رغم أنها ارتدت قناعا دينيا ، لتحديد عما إذا كان هذا الطرح ينطبق على الثورة المهدية في السودان، ولتحديد خصوصية الثورة المهدية وما هي تلك الخصوصيات التي تميزها عن طرح انجلز أعلاه ؟. .
ما ورد في تفسير انجلز لأسباب الثورة المهدية في السودان مثل التصادم بين سكان المدن الذين يمارسون التجارة والصناعة وبين البدو الرحل، أي ثورة البدو الفقراء الذين اتحدوا تحت قيادة المهدى لمعاقبة سكان المدن الكفار واقامة حكم الشريعة والاستيلاء على كنوز الكفار.
هذا التفسير لا ينطبق بشكل دقيق على الثورة المهدية في السودان، يمكن أن يتفق فيما يختص بإقامة حكم الشريعة والإيمان الصحيح وغير ذلك من أيديولوجية المهدي.
ولكن ربما نخطئ خطأً فادحا إذا تصورنا الثورة المهدية فقط من زاوية أنها ثورة سكان البدو الرحل الفقراء ضد سكان المدن الذين يمارسون التجارة والصناعة والذين أصبحوا باذخين وموسرين وغير ذلك.
فبنظرة عامة إلى طبيعة القوى التي اشتركت في أو ساندت الثورة المهدية نجدها تتكون من فئات جماهير المدن والبدو مثل بعض مشايخ الصوفية وفئات من التجار والجلابة وخاصة الذين ضربت الحكومة التركية مصالحهم في تجارة الرقيق، ومن الطبقات الكادحة والفقيرة من سكان المدن والبدو والذين عانوا من الضرائب واستيلاء الحكومة وكبار الملاك على أراضيهم وبعض فئات الكتبة والموظفين والقضاء والعلماء الذين كانوا عاملين في جهاز الدولة، وهذه القوى هي أخلاط أو أمشاج من سكان المدن والبدو، وبالتالي فإن وصف هذه القوى الثورية بأنها ثورة البدو الفقراء لا يعبر بشكل دقيق عن طبيعة قوى الثورة المهدية في السودان.
وإذا أخذنا بالمثل القوى التي عارضت الثورة المهدية نجدها أيضا تتكون من سكان بدو ومدن مثل: العلماء والفقهاء الذين ارتبطت مصالحهم بالحكومة التركية ، والتجار ومشايخ القبائل أو أعيان القبائل الذين ارتبطت مصالحهم بالدولة التركية،ومشايخ طرق دينية، وكبار الملاك من المزارعين والرعاة.
كما أنه من غير الدقيق إرجاع الثورة المهدية إلى أسباب اقتصادية فقط،، فإلى جانب الأسباب الاقتصادية كانت هناك أسباب اجتماعية مكملة، وسوف نعالج ذلك بتفصيل في موضع لاحق .
ولكن ما أورده انجلز كان دقيقا عندما أشار إلى أنه بنجاح تلك الحركات ( ومنها الثورة المهدية في السودان عندما تصل للسلطة تترك الشروط الاقتصادية كما هي لاتغيير البتة، فهذا انطبق بشكل كبير على الثورة المهدية والتي أبقى نظامها الاقتصادي – الاجتماعي على التفاوت الطبقي ، وأبقي على الملكية الفردية،الخ. وقد عالجت ذلك بتفصيل في مؤلفي ( راجع تاج السر عثمان الحاج ، دراسات في التاريخ الإجتماعي للمهدية، مركز عبد لكريم ميرغني 2010م). .
شهد نظام المهدية التفاوت الصارخ بين الأغنياء والفقراء الذي كان سائدا أيام الحكم التركي – المصري ، وبالتالي شهدت التشكيلة الاجتماعية للمهدية صراعات قبلية وصراعات دينية وصراعات طبقية ، وصراعات من أجل السلطة ، اشترك فيها سكان المدن والبدو ، أي أن التصادم غدا دوريا كما أشار انجلز.
القناع الديني عند بداية الثورة الذي أورده أنجلز ربما انطبق بشكل كبير على الثورة المهدية ، فكما ذكر هولت : ( بعد تقلد السلطة كان لوم المهدي لأقربائه نتيجة لنظرتهم الدنيوية وتقلبهم في الترف وتمتعهم بالنفوذ ) ( هولت : ص 9 )، كما أشار يوسف ميخائيل في مذكراته مرارا إلى مادية الأغنياء من الأشراف والدناقلة..
أشار هولت أيضا إلى الطبقات الكادحة ( الفقيرة ) من جماهير القبائل وأشهرهم عرب البقارة في الغرب وامتلاك الغنائم ، ولم يهتم هؤلاء ( خلاف عبد الله نفسه والاتباع المخلصين للمهدي ) بالجانب الديني في الثورة ، وكانوا يتركون الجهاد عندما يحصلون على حوائجهم المادية ( نفسه).
وفي تقديري ، أنه بهذا المستوى النقدي أو بشكل أفضل منه، يمكن أن نعالج تحليل أنجلز لأسباب الثورة المهدية والذي كثيرا ما يورده الماركسيون السودانيون بدون نقد أو تحفظ، ويحشرون الثورة المهدية فيه حشرا ، فانجلز كان يتناول الثورة المهدية من بعيد وبدون معرفة عميقة لخصوصية السودان شأنه في ذلك شأن المستشرقين الذين تناولوا قضايا بلدان الشرق بدون المعرفة العميقة بخصائص وسمات تلك البلدان وتطورها الباطني، وقد اسهم إدوارد سعيد في مؤلفه (الاستشراق) في تناول بعض تلك الكتابات بطريقة ناقدة.
بالتالي أن انجلز لم يتناول واقع السودان والثورة المهدية عن كثب ولم يكن يمتلك المعلومات الكافية و التفصيلية عنها .
: في أسباب الثورة المهدية
في ضوء ما سبق نقدم هذه المساهمة حول أسباب الثورة المهدية :
وفي تقديري أن المحرك الرئيسي للثورة المهدية كان محركا اقتصاديا – اجتماعيا ، ويمكن تحليل هذا المحرك إلى مكونين: اقتصادي واجتماعي.
المكون الاقتصادي:
والمقصود به أن الحكم التركي – المصري أحدث هزة عنيفة في البنية الاقتصادية والطبقية في المجتمع التي كانت سائدة أيام مملكة الفونج وسلطنتي دارفور والمسبعات...
صحيح أن النظام الاقتصادي في الأيام الأخيرة لمملكة الفونج كان في طريقه للتحلل والتفكك، ببروز واتساع الطبقة التجارية وصراعها مع سلاطين الفونج الذين كانوا يحتكرون تجارة الذهب والرقيق ، وفي الأيام الأخيرة للفونج غدا النظام الإقطاعي اكثر قمعا للقبائل، وبدأ يفرض عليها ضرائب باهظة وخاصة بعد فقدان موارد المكوس، والعائد من التجارة الخارجية نتيجة لانعدام الأمن، وكان من الممكن أن يتطور هذا الصراع بشكل طبيعي وباطني بحيث ينتج عنه بنية اقتصادية اكثر تقدما من السابقة والتي كانت في طريقها للتحلل والزوال، ولكن الاحتلال التركي قطع التطور الطبيعي للسودان، وتم فرض بنية اقتصادية كان من أهدافها الرئيسية استنزاف موارد السودان الاقتصادية والبشرية لمصلحة الطبقة الحاكمة في مصر، وكان من أهم سمات هذه البنية الاقتصادية:
أ – ضرائب باهظة لم يعرفها السودانيون من قبل وعلى نمط ضرائب الإمبراطورية العثمانية الفردية والتي لا تستند إلى أسس عقلانية أو مبررة اقتصاديا واجتماعيا، فمثلا كانت الضرائب أيام الفونج تقدر على أساس الشريعة والأعراف المحلية، أي أنها كانت مبررة دينيا وعرفيا ( للمزيد من التفاصيل راجع : تاج السر عثمان الحاج : لمحات من تاريخ سلطنة الفونج الإجتماعي،مركز محمد عمر بشير 2004 ) . هذا إضافة إلى أن ضرائب الأتراك كان يتحملها صغار الملاك وفقراء المزارعين والرعاة، وكان من نتائج تلك الضرائب الباهظة على الأراضي والماشية ومصادرة أراضي صغار الملاك والفقراء وبيعها لكبار الملاك المحليين والأجانب لتسديد قيمة الضرائب منها ، أن تم انخفاض القوى المنتجة والإنتاج الزراعي نتيجة لترك السواقي وما ينتج عن ذلك من مجاعات وغلاء.
ب – نتيجة لارتباط السودان بالسوق الرأسمالي العالمي فرضت الحكومة على المزارعين وبطريقة قسرية زراعة المحاصيل النقدية ( القطن ، النيلة ، قصب السكر الصمغ ،. الخ )، مما قلل من إنتاج المحاصيل الغذائية وأدى إلى تدهور الأحوال المعيشية للمزارعين.
ج – أطلقت الحكومة التركية العنان لتجارة الرقيق في السودان واتسع حجمها بشكل لم يسبق له مثيل، وبالتالي زاد حجم ووزن التجار والجلابة العاملين في تجارة الرقيق من السودانيين ، وخاصة بعد اتساع السوق الداخلي وضم المديريات الجنوبية ودار فور ، وعندما حاولت الحكومة التركية أن تقلص أو تقضي على تجارة الرقيق نتيجة للضغوط الأوربية، دخلت الحكومة في تناقض مع مصالح تلك الفئة .
د – وباختصار ، نقول أن الفئة أو الطبقة التي حكمت السودان خلال فترة الحكم التركي كان هدفها الرئيسي نهب قدرات السودان الاقتصادية والبشرية ، وفي ذلك نجحت نجاحا باهرا ، واعتصرت شعوب وقبائل السودان ، وكان حجم القوى البشرية التي أبادتها أو التي تم استرقاقها كبيرا ( تاج السر عثمان الحاج : التاريخ الاجتماعي لفترة الحكم التركي، مرجع سابق ) ، هذا إضافة للأرباح الهائلة التي كانت تحققها الطبقة الحاكمة والتجار الأجانب من احتكار تجارة السودان الخارجية، أي حدث تدمير وحشي لقدرات السودان الاقتصادية والبشرية ، أي تدمير القوى المنتجة وفرض علائق إنتاج جديدة لمصلحة الملاك والحكام الأجانب والمتحالفين معهم من تجار ومشايخ القبائل والطرق الصوفية.
وفي ثنايا تلك التحولات الاقتصادية لعب المكون الاقتصادي دورا حاسما ولكنه ليس الوحيد ، وهذا المكون كان يفعل فعله، وكان يعبر عن نفسه في الانتفاضات والثورات المتواترة ضد النظام حتى نجحت الثورة المهدية بفضل شمولها وعجز النظام الحاكم عن قمعها. .
2 – المكون الاجتماعي:
أدخل نظام الحكم التركي بنية ثقافية – فكرية جديدة بدون أخذ ظروف وتقاليد السودان في الاعتبار والتي رسخت لقرون في فترة الفونج، سواء كانت دينية أو مدنية، تم تصديرها للسودان من الخارج ، وما جاءت نتيجة لتطور باطني ، وفي هذه البنية ظهرت فئة العلماء والفقهاء المرتبطة بجهاز الدولة وعلى النمط الذي كان سائدا في مصر والإمبراطورية العثمانية، وأصبحت لها مرتبات، هذا إضافة لإدخال نظام القضاء الشرعي والأوقاف،كما ظهرت طرق صوفية جديدة وجدت الدعم والتشجيع من الحكم التركي مثل الختمية والبرهانية وغيرهما، كما تراجعت الطرق الصوفية القديمة التي كانت سائدة أيام الفونج، ودخول الطرق الصوفية الجديدة في تناقض وصراع مع الطرق القديمة ومشايخها.
كما تم فرض أنماط حياة أوربية كنمط الحياة الذي كان يعيشه التجار والحكام الأجانب في المدن التجارية مثل الخرطوم والأبيض وبربر، والذي كان غريبا على مجتمع تقليدي كمثل الذي كان سائدا في سودان القرن التاسع عشر.
هذا إضافة لسوء الإدارة والتخبط في نظام الحكم والتغييرات الكثيرة فيه من حكم مركزي إلى لامركزي ، ثم العودة إلى الحكم المركزي من جديد ، إضافة لفساد الحكام الأتراك والمصريين وعدم رغبتهم في العمل بالسودان والتكالب على جمع أكبر قدر من الثروات، هذا إضافة لوجود أعداد كبيرة من الحكام الأوربيين في أواخر أيام الحكم التركي، كما أن هؤلاء الحكام لم يكن لهم من الذكاء والمسئولية لدراسة واقع وظروف السودان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغير ذلك قبل تطبيق سياساتهم، كما أن هؤلاء الحكام لم يأخذوا واقع السودان في الاعتبار عندما فرضوا نظام القضاء والعلماء والأوقاف، أي فرض نمط الدولة العثمانية الذي كان سائدا في مصر، ولم يجتهدوا في استنباط نظام دولة عصري مستمد من واقع وظروف السودان.
وفي ثنايا تلك البنية الثقافية – الفكرية التي فرضها الاحتلال التركي ، نبحث عن المعارضة الدينية للنظام ، ونبحث عن ظهور شخصية مثل : محمد احمد المهدي يستفزها تحلل وفساد الحكم التركي، ورفض الوجود الأجنبي، كما نبحث عن الأسباب الدينية للثورة المهدية ، ونبحث عن الأسباب القومية وتلك الأسباب التي تتعلق بالظلم وسوء الإدارة .
. أي باختصار نقول الأسباب الاجتماعية أو المكون الاجتماعي
وبالتالي وبهذا الفهم الواسع نقول أن المحرك للثورة المهدية كان محركا اقتصاديا – اجتماعيا ، وبكلمات أخرى أسباب تتعلق بإحلال تشكيلة اقتصادية - اجتماعية جديدة محل التشكيلة السابقة التي كانت سائدة في السلطنة الزرقاء بالعنف ، وتدمير تلك التشكيلة، وبدون إحلال تشكيلة جديدة محلها مبررة اقتصاديا واجتماعيا، بل كانت تشكيلة جديدة ذاق فيها السودانيون عذاب وسياط والام الحكام الأتراك وشهد فيها السودانيون اكبر عملية نهب لقدراتهم الاقتصادية والبشرية في تلك الفترة الحالكة السواد في تاريخ السودان ، ورغم ثمرات الحضارة والمدنية التي ادخلها الأتراك في السودان .
وبالتالي وبهذا المعنى نقول أن المحرك للثورة المهدية كان محركا اقتصاديا – اجتماعيا.
: عناصر هولت لنجاح الثورة
المفهوم الواسع الذي صاغه هولت لعناصر نجاح الثورة سليم في جوهره ، ولكنه يصلح لحالة الثورة المهدية المحددة والتي تم فيها استخدام العنف الشعبي المسلح للاستيلاء على السلطة ..
وتتلخص عناصر هولت في الأتي :
1 – وجود استياء وسخط عام لا يكون قاصرا على طبقة أو جماعة معينة ، وانما يمتد إلى كل فئات المجتمع ويكون مصدره إحساسا محددا بالظلم ويتطابق ذلك الإحساس أو الوعي بالظلم بضعف النظام القائم وعجزه عن سحق الثورة في مهدها.
2 – وجود جيش ثوري على استعداد لاستعمال العنف في سبيل هدفه
3 – وجود القيادة الثورية التي تطرح البديل لنظام القائم
وإذا أردنا أن نعمم مفهوم هولت أعلاه ، يمكن أن نعدل في الفقرة ( 2 ) لتكون ( وجود جيش ثوري على استعداد لاستعمال العنف أو الوسائل السلمية في سبيل هدفه ).
وبعد هذا التعديل ، يمكن أن يأخذ مفهوم هولت أعلاه الطابع الشمولي العام ، والذي تم استنباطه من تجربة الثورة المهدية والتي تميزت بحالة خاصة ، وهي استخدام العنف الثوري المسلح للإطاحة بالنظام. .
وهذا المفهوم الشمولي العام لعناصر نجاح الثورة هو نظرية الثورة السودانية والتي تم استخلاصها من التجربة والخبرة العملية.
أما عن تجربة الدولة المهدية والظروف التي أدت الي انتكاستها فقد تم تناولها بتفصيل في مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية في مؤلفي ( راجع: تاج السر عثمان الحاج ، دراسات في التاريخ الإجتماعي للمهدية ، مركز عبد الكريم ميرغني 2010م).
alsirbabo@yahoo.co.uk
ثانيا: عوامل نجاح الثورة المهدية:
حول عوامل نجاح الثورة المهدية نشير أيضا إلى اتجاهين:
الأول : اتجاه شقير الذي يعزى عوامل نجاح الثورة إلى أ - استخفاف الحكومة في بادئ الأمر بحركة المهدي ب – الانشغال بثورة عرابي وضعف الحاميات العسكرية لحظة وقوع الثورة ج – تردد الحكومة التي لم تتخذ سياسة نافذة لإخماد الثورة .
ولكن د . أبو سليم في تقويمه وتصويبه لتاريخ شقير في ص 635 يورد التالي ( يقول نعوم شقير أن الحكومة استخفت بشأن محمد احمد ، ولكن الحق أنها لم تستخف وإنما أخفقت فيما اتخذت من إجراءات . ( أبو سليم 1987:1987 ،ص 220 ).
الثاني : اتجاه هولت المنهجي والنظري الذي يحدد عناصر نجاح الثورة في الآتي : أ – يواكب الشعور بالسخط العام ضعف مادي أو معنوي في النظام القائم يجعل من العسير قمع الثورة إبان نشوبها . ب – وجود جيش ثوري على استعداد لاستعمال العنف في سبيل هدفه .
ج – وجود القيادة الثورية التي تطرح البديل للنظام القائم .
أي أن العنصر ( أ ) يدخل في الشرط الموضوعي والعنصران ( ب ) ، ( ج ) يدخلان في الشرط الذاتي . ويرجع هولت عوامل نجاح الثورة المهدية إلى توفر الشرطين الموضوعي والذاتي أعلاه .
. ويتفق د.عبد الله على إبراهيم ود.محمد سعيد القدال مع طرح هولت المنهجي والنظري .
ويشير د .قدال إلى أن ماركس أول فيلسوف يضع تصورا شاملا لعملية التغيير الاجتماعي، ولكن ما ذكره هولت يلتقي كثيرا مع الشروط التي وضعها لينين لنجاح الانتفاضة إذ اشترط لنجاحها : عجز السلطة القائمة في الدفاع عن نفسها ورفض الناس تماما للاستمرار تحتها ووجود قيادة ثورية ( قدال:ص44). ) .
وقبل مناقشة هذه الآراء وصياغة مفهومنا ورؤيتنا حول أسباب الثورة المهدية ، نطرح القضايا المنهجية التالية :
1 – الثورة المهدية هي حاصل تطور تاريخي، وهي عملية وحاصل تراكم كمي لانتفاضات وثورات جزئية ظلت مستمرة ضد الحكم التركي – المصري حتى تم تتويجها بالثورة المهدية ، كثورة أو انتفاضة شاملة ضد النظام ، ويمكن تتبع الخط البياني الصاعد لتلك الانتفاضات على النحو التالي:
- . مقاومة الشايقية عند بداية الغزو التركي
- ثورة أهل سنار بقيادة رجب ود عدلان
- ثورة المك نمر – مقاومة أهل العليفون
- مقاومة أهالي مدني – تمرد المواطنين وهجرتهم لأوطانهم نتيجة الضرائب الباهظة على الأراضي والماشية ونتيجة الظلم والفساد.
- عصيان الشيخ خليفة بن الحاج العبادي. – ثورة أهالي التاكا ( الشرق ) عام 1844 . – تمرد زعماء الشكرية على أراكيل بك الحاكم العام . – ثورة الجنود السودانيين في مدني سنة 1844 . – ثورة الجهادية السود في كسلا سنة 1865 والتي أوشكت أن تقضي على الحكم في مديرية التاكا، وبالتالي على النفوذ الحكومي في شرق السودان. -.
- ثورة هارون الرشيد في دار فور – ثورة صباحي في كردفان – ثورة سليمان ورابح الزبير باشا رحمة في مديرية بحر الغزال في سنة 1879 (للمزيد من التفاصيل، راجع: تاج السر عثمان الحاج: التاريخ الاجتماعي لفترة الحكم التركي ، مركز محمد عمر بشير 2006م).
رغم نجاح الحكومة في قمع تلك الانتفاضات والثورات الجزئية وانفرادها بكل منها وسحق المعارضين والتنكيل بهم بالشنق والإعدام رميا بالرصاص وبحملات الإبادة الشاملة، إلا أن الملاحظ استمرار تلك الانتفاضات، وما أن يتم إخماد ثورة أو انتفاضة حتى تندلع أخري، وإذا كانت هذه الثورات قد أخمدت في أوقاتها، إلا أنها شكلت المقدمة للثورة الشاملة في الثورة المهدية والتي نجحت بفضل شمولها وعجز النظام القائم عن قمعها ووجود القيادة الثورية والجيش الثوري ، أي بعد استكمال الشروط التي تحدث عنها هولت ولينين. .
وبالتالي ، فإنني اتفق مع توفر الشروط الموضوعية والذاتية لنجاح الثورة، وإن الثورة هى حصيلة وجماع وتراكم انتفاضات وثورات جزئية سابقة.
2 – لا يكفي أخذ عنصر واحد من عناصر المحرك أو الدافع الاجتماعي ، واعتباره المحرك الأول للثورة المهدية مثل شخصية الإمام المهدي أو المعتقد الديني أو الظلم وسوء الإدارة أو التدهور الخلقي. الخ . بل في تقديري أنه لا يكفي حتى لو أخذنا كل العناصر في الشق الأول مجتمعة واعتبارها المحرك الأول أو الرئيسي للثورة المهدية، وبالمستوي نفسه في تقديري لا يكفي أن نأخذ المحرك أو الدافع الاقتصادي لفهم المحرك الحقيقي للثورة المهدية .
3 – في تحديد أسباب انتفاضات العالم الإسلامي ومنها الثورة المهدية.
كثيرا ما يرد ( كما أورد د . قدال ) تصور فرديرك انجلز لأسباب تلك الانتفاضات وأساسها الإسلامي.
وقد صاغ انجلز ذلك التصور في مقال له بعنوان : (إسهام في تاريخ المسيحية الأولية) والذي جاء فيه : ( أن انتفاضات العالم المحمدي - الإسلامي - بخاصة في إفريقيا تشكل حالة مناقضة فريدة مع هذا، فالإسلام هو دين صيغ على قدر الشرقيين وعلى العرب بشكل أخص ، أي من جهة سكان مدن يمارسون التجارة والصناعة، ومن جهة أخرى بدو رحل، وهنا توجد بذور تصادم دوري : سكان المدن الذين أصبحوا موسرين وباذخين أهملوا مراعاة الشريعة، والبدو الفقراء وبسبب ذوو العادات الصارمة نظروا بحسد وطمع إلى هذه الثروات وهذه المتع، اتحدوا تحت قيادة نبي مهدى لمعاقبة الكفار وإقامة حكم الشريعة والإيمان الصحيح، وللاستيلاء كثواب على كنوز الكفار.
وبعد مضي مائة عام وجدوا أنفسهم بالطبع في نفس الوضع الذي كان فيه هؤلاء حركة تطهير جديد تصبح أمرا ضروريا، مهدى جديد يظهر، وهكذا دواليك .
جرت الأمور على هذا النحو منذ حروب الفتح التي خاضها المرابطون والموحدون ( المرابطون عائلة مالكة مغربية في أفريقيا الشمالية وجنوب اسبانيا : 1056 – 1146 ه ، والموحدون : عائلة مالكة مغربية أطاحت بالمرابطين عام 1146 ومارست السلطة حتى العام 1269 ه ) الإفريقيون في اسبانيا حتى المهدي الأخير في الخرطوم ظافرا، كان الأمر كذلك تقريبا بالنسبة لثورات في فارس وغيرها من المقاطعات الإسلامية.
هذه حركات وُلدت من أسباب اقتصادية، رغم أنها ارتدت قناعا دينيا لكنها عند نجاحها تترك الشروط الاقتصادية كماهى لا تغيير البتة إذن والصدام يغدوا دوريا، وبالمقابل في الانتفاضات الشعبية في الغرب المسيحي، القناع الديني لا يخدم إلا كراية وقناع ضد نظام اقتصادي اصبح فائتا في النهاية يُطاح بهذا النظام ، ينهض نظام جديد ، ثمة تقدم ، العالم يسير .. ) ( انجلز : إسهام في تاريخ المسيحية الأولية ، مجلة العصور الحديثة ، السنة 13 ، 1894 – 1895 ، المجلد 1 ، العدد:22). ) .
معلوم أن انجلز أسهم مع كارل ماركس في صياغة النظرية الماركسية، ذائعة الصيت في القرن التاسع عشر، وكان معاصرا للثورة المهدية عند وقوعها، ونلاحظ أن انجلز كان دقيقا عندما أشار إلى أن ( المهدي في الخرطوم الذي جابه الإنجليز ظافرا )، وربما كان ذلك يُعزى إلى أن إنجلترا بعد هزيمة الثورة العرابية احتلت مصر، وبالتالي أصبح صراع المهدى عمليا ضد الإنجليز، ومهما يكن من شئ ، فإنه كان موفقا في تحديد الاستعمار الذي هزمه المهدي الذي هو الإنجليزي.
ومهم هنا، أن نتناول بالنقد والتحليل مقولة سكان المدن وسكان البدو التي طرحها انجلز كسبب من أسباب الثورة المهدية، بمعنى إرجاع الثورة المهدية إلى أسباب اقتصادية رغم أنها ارتدت قناعا دينيا ، لتحديد عما إذا كان هذا الطرح ينطبق على الثورة المهدية في السودان، ولتحديد خصوصية الثورة المهدية وما هي تلك الخصوصيات التي تميزها عن طرح انجلز أعلاه ؟. .
ما ورد في تفسير انجلز لأسباب الثورة المهدية في السودان مثل التصادم بين سكان المدن الذين يمارسون التجارة والصناعة وبين البدو الرحل، أي ثورة البدو الفقراء الذين اتحدوا تحت قيادة المهدى لمعاقبة سكان المدن الكفار واقامة حكم الشريعة والاستيلاء على كنوز الكفار.
هذا التفسير لا ينطبق بشكل دقيق على الثورة المهدية في السودان، يمكن أن يتفق فيما يختص بإقامة حكم الشريعة والإيمان الصحيح وغير ذلك من أيديولوجية المهدي.
ولكن ربما نخطئ خطأً فادحا إذا تصورنا الثورة المهدية فقط من زاوية أنها ثورة سكان البدو الرحل الفقراء ضد سكان المدن الذين يمارسون التجارة والصناعة والذين أصبحوا باذخين وموسرين وغير ذلك.
فبنظرة عامة إلى طبيعة القوى التي اشتركت في أو ساندت الثورة المهدية نجدها تتكون من فئات جماهير المدن والبدو مثل بعض مشايخ الصوفية وفئات من التجار والجلابة وخاصة الذين ضربت الحكومة التركية مصالحهم في تجارة الرقيق، ومن الطبقات الكادحة والفقيرة من سكان المدن والبدو والذين عانوا من الضرائب واستيلاء الحكومة وكبار الملاك على أراضيهم وبعض فئات الكتبة والموظفين والقضاء والعلماء الذين كانوا عاملين في جهاز الدولة، وهذه القوى هي أخلاط أو أمشاج من سكان المدن والبدو، وبالتالي فإن وصف هذه القوى الثورية بأنها ثورة البدو الفقراء لا يعبر بشكل دقيق عن طبيعة قوى الثورة المهدية في السودان.
وإذا أخذنا بالمثل القوى التي عارضت الثورة المهدية نجدها أيضا تتكون من سكان بدو ومدن مثل: العلماء والفقهاء الذين ارتبطت مصالحهم بالحكومة التركية ، والتجار ومشايخ القبائل أو أعيان القبائل الذين ارتبطت مصالحهم بالدولة التركية،ومشايخ طرق دينية، وكبار الملاك من المزارعين والرعاة.
كما أنه من غير الدقيق إرجاع الثورة المهدية إلى أسباب اقتصادية فقط،، فإلى جانب الأسباب الاقتصادية كانت هناك أسباب اجتماعية مكملة، وسوف نعالج ذلك بتفصيل في موضع لاحق .
ولكن ما أورده انجلز كان دقيقا عندما أشار إلى أنه بنجاح تلك الحركات ( ومنها الثورة المهدية في السودان عندما تصل للسلطة تترك الشروط الاقتصادية كما هي لاتغيير البتة، فهذا انطبق بشكل كبير على الثورة المهدية والتي أبقى نظامها الاقتصادي – الاجتماعي على التفاوت الطبقي ، وأبقي على الملكية الفردية،الخ. وقد عالجت ذلك بتفصيل في مؤلفي ( راجع تاج السر عثمان الحاج ، دراسات في التاريخ الإجتماعي للمهدية، مركز عبد لكريم ميرغني 2010م). .
شهد نظام المهدية التفاوت الصارخ بين الأغنياء والفقراء الذي كان سائدا أيام الحكم التركي – المصري ، وبالتالي شهدت التشكيلة الاجتماعية للمهدية صراعات قبلية وصراعات دينية وصراعات طبقية ، وصراعات من أجل السلطة ، اشترك فيها سكان المدن والبدو ، أي أن التصادم غدا دوريا كما أشار انجلز.
القناع الديني عند بداية الثورة الذي أورده أنجلز ربما انطبق بشكل كبير على الثورة المهدية ، فكما ذكر هولت : ( بعد تقلد السلطة كان لوم المهدي لأقربائه نتيجة لنظرتهم الدنيوية وتقلبهم في الترف وتمتعهم بالنفوذ ) ( هولت : ص 9 )، كما أشار يوسف ميخائيل في مذكراته مرارا إلى مادية الأغنياء من الأشراف والدناقلة..
أشار هولت أيضا إلى الطبقات الكادحة ( الفقيرة ) من جماهير القبائل وأشهرهم عرب البقارة في الغرب وامتلاك الغنائم ، ولم يهتم هؤلاء ( خلاف عبد الله نفسه والاتباع المخلصين للمهدي ) بالجانب الديني في الثورة ، وكانوا يتركون الجهاد عندما يحصلون على حوائجهم المادية ( نفسه).
وفي تقديري ، أنه بهذا المستوى النقدي أو بشكل أفضل منه، يمكن أن نعالج تحليل أنجلز لأسباب الثورة المهدية والذي كثيرا ما يورده الماركسيون السودانيون بدون نقد أو تحفظ، ويحشرون الثورة المهدية فيه حشرا ، فانجلز كان يتناول الثورة المهدية من بعيد وبدون معرفة عميقة لخصوصية السودان شأنه في ذلك شأن المستشرقين الذين تناولوا قضايا بلدان الشرق بدون المعرفة العميقة بخصائص وسمات تلك البلدان وتطورها الباطني، وقد اسهم إدوارد سعيد في مؤلفه (الاستشراق) في تناول بعض تلك الكتابات بطريقة ناقدة.
بالتالي أن انجلز لم يتناول واقع السودان والثورة المهدية عن كثب ولم يكن يمتلك المعلومات الكافية و التفصيلية عنها .
: في أسباب الثورة المهدية
في ضوء ما سبق نقدم هذه المساهمة حول أسباب الثورة المهدية :
وفي تقديري أن المحرك الرئيسي للثورة المهدية كان محركا اقتصاديا – اجتماعيا ، ويمكن تحليل هذا المحرك إلى مكونين: اقتصادي واجتماعي.
المكون الاقتصادي:
والمقصود به أن الحكم التركي – المصري أحدث هزة عنيفة في البنية الاقتصادية والطبقية في المجتمع التي كانت سائدة أيام مملكة الفونج وسلطنتي دارفور والمسبعات...
صحيح أن النظام الاقتصادي في الأيام الأخيرة لمملكة الفونج كان في طريقه للتحلل والتفكك، ببروز واتساع الطبقة التجارية وصراعها مع سلاطين الفونج الذين كانوا يحتكرون تجارة الذهب والرقيق ، وفي الأيام الأخيرة للفونج غدا النظام الإقطاعي اكثر قمعا للقبائل، وبدأ يفرض عليها ضرائب باهظة وخاصة بعد فقدان موارد المكوس، والعائد من التجارة الخارجية نتيجة لانعدام الأمن، وكان من الممكن أن يتطور هذا الصراع بشكل طبيعي وباطني بحيث ينتج عنه بنية اقتصادية اكثر تقدما من السابقة والتي كانت في طريقها للتحلل والزوال، ولكن الاحتلال التركي قطع التطور الطبيعي للسودان، وتم فرض بنية اقتصادية كان من أهدافها الرئيسية استنزاف موارد السودان الاقتصادية والبشرية لمصلحة الطبقة الحاكمة في مصر، وكان من أهم سمات هذه البنية الاقتصادية:
أ – ضرائب باهظة لم يعرفها السودانيون من قبل وعلى نمط ضرائب الإمبراطورية العثمانية الفردية والتي لا تستند إلى أسس عقلانية أو مبررة اقتصاديا واجتماعيا، فمثلا كانت الضرائب أيام الفونج تقدر على أساس الشريعة والأعراف المحلية، أي أنها كانت مبررة دينيا وعرفيا ( للمزيد من التفاصيل راجع : تاج السر عثمان الحاج : لمحات من تاريخ سلطنة الفونج الإجتماعي،مركز محمد عمر بشير 2004 ) . هذا إضافة إلى أن ضرائب الأتراك كان يتحملها صغار الملاك وفقراء المزارعين والرعاة، وكان من نتائج تلك الضرائب الباهظة على الأراضي والماشية ومصادرة أراضي صغار الملاك والفقراء وبيعها لكبار الملاك المحليين والأجانب لتسديد قيمة الضرائب منها ، أن تم انخفاض القوى المنتجة والإنتاج الزراعي نتيجة لترك السواقي وما ينتج عن ذلك من مجاعات وغلاء.
ب – نتيجة لارتباط السودان بالسوق الرأسمالي العالمي فرضت الحكومة على المزارعين وبطريقة قسرية زراعة المحاصيل النقدية ( القطن ، النيلة ، قصب السكر الصمغ ،. الخ )، مما قلل من إنتاج المحاصيل الغذائية وأدى إلى تدهور الأحوال المعيشية للمزارعين.
ج – أطلقت الحكومة التركية العنان لتجارة الرقيق في السودان واتسع حجمها بشكل لم يسبق له مثيل، وبالتالي زاد حجم ووزن التجار والجلابة العاملين في تجارة الرقيق من السودانيين ، وخاصة بعد اتساع السوق الداخلي وضم المديريات الجنوبية ودار فور ، وعندما حاولت الحكومة التركية أن تقلص أو تقضي على تجارة الرقيق نتيجة للضغوط الأوربية، دخلت الحكومة في تناقض مع مصالح تلك الفئة .
د – وباختصار ، نقول أن الفئة أو الطبقة التي حكمت السودان خلال فترة الحكم التركي كان هدفها الرئيسي نهب قدرات السودان الاقتصادية والبشرية ، وفي ذلك نجحت نجاحا باهرا ، واعتصرت شعوب وقبائل السودان ، وكان حجم القوى البشرية التي أبادتها أو التي تم استرقاقها كبيرا ( تاج السر عثمان الحاج : التاريخ الاجتماعي لفترة الحكم التركي، مرجع سابق ) ، هذا إضافة للأرباح الهائلة التي كانت تحققها الطبقة الحاكمة والتجار الأجانب من احتكار تجارة السودان الخارجية، أي حدث تدمير وحشي لقدرات السودان الاقتصادية والبشرية ، أي تدمير القوى المنتجة وفرض علائق إنتاج جديدة لمصلحة الملاك والحكام الأجانب والمتحالفين معهم من تجار ومشايخ القبائل والطرق الصوفية.
وفي ثنايا تلك التحولات الاقتصادية لعب المكون الاقتصادي دورا حاسما ولكنه ليس الوحيد ، وهذا المكون كان يفعل فعله، وكان يعبر عن نفسه في الانتفاضات والثورات المتواترة ضد النظام حتى نجحت الثورة المهدية بفضل شمولها وعجز النظام الحاكم عن قمعها. .
2 – المكون الاجتماعي:
أدخل نظام الحكم التركي بنية ثقافية – فكرية جديدة بدون أخذ ظروف وتقاليد السودان في الاعتبار والتي رسخت لقرون في فترة الفونج، سواء كانت دينية أو مدنية، تم تصديرها للسودان من الخارج ، وما جاءت نتيجة لتطور باطني ، وفي هذه البنية ظهرت فئة العلماء والفقهاء المرتبطة بجهاز الدولة وعلى النمط الذي كان سائدا في مصر والإمبراطورية العثمانية، وأصبحت لها مرتبات، هذا إضافة لإدخال نظام القضاء الشرعي والأوقاف،كما ظهرت طرق صوفية جديدة وجدت الدعم والتشجيع من الحكم التركي مثل الختمية والبرهانية وغيرهما، كما تراجعت الطرق الصوفية القديمة التي كانت سائدة أيام الفونج، ودخول الطرق الصوفية الجديدة في تناقض وصراع مع الطرق القديمة ومشايخها.
كما تم فرض أنماط حياة أوربية كنمط الحياة الذي كان يعيشه التجار والحكام الأجانب في المدن التجارية مثل الخرطوم والأبيض وبربر، والذي كان غريبا على مجتمع تقليدي كمثل الذي كان سائدا في سودان القرن التاسع عشر.
هذا إضافة لسوء الإدارة والتخبط في نظام الحكم والتغييرات الكثيرة فيه من حكم مركزي إلى لامركزي ، ثم العودة إلى الحكم المركزي من جديد ، إضافة لفساد الحكام الأتراك والمصريين وعدم رغبتهم في العمل بالسودان والتكالب على جمع أكبر قدر من الثروات، هذا إضافة لوجود أعداد كبيرة من الحكام الأوربيين في أواخر أيام الحكم التركي، كما أن هؤلاء الحكام لم يكن لهم من الذكاء والمسئولية لدراسة واقع وظروف السودان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغير ذلك قبل تطبيق سياساتهم، كما أن هؤلاء الحكام لم يأخذوا واقع السودان في الاعتبار عندما فرضوا نظام القضاء والعلماء والأوقاف، أي فرض نمط الدولة العثمانية الذي كان سائدا في مصر، ولم يجتهدوا في استنباط نظام دولة عصري مستمد من واقع وظروف السودان.
وفي ثنايا تلك البنية الثقافية – الفكرية التي فرضها الاحتلال التركي ، نبحث عن المعارضة الدينية للنظام ، ونبحث عن ظهور شخصية مثل : محمد احمد المهدي يستفزها تحلل وفساد الحكم التركي، ورفض الوجود الأجنبي، كما نبحث عن الأسباب الدينية للثورة المهدية ، ونبحث عن الأسباب القومية وتلك الأسباب التي تتعلق بالظلم وسوء الإدارة .
. أي باختصار نقول الأسباب الاجتماعية أو المكون الاجتماعي
وبالتالي وبهذا الفهم الواسع نقول أن المحرك للثورة المهدية كان محركا اقتصاديا – اجتماعيا ، وبكلمات أخرى أسباب تتعلق بإحلال تشكيلة اقتصادية - اجتماعية جديدة محل التشكيلة السابقة التي كانت سائدة في السلطنة الزرقاء بالعنف ، وتدمير تلك التشكيلة، وبدون إحلال تشكيلة جديدة محلها مبررة اقتصاديا واجتماعيا، بل كانت تشكيلة جديدة ذاق فيها السودانيون عذاب وسياط والام الحكام الأتراك وشهد فيها السودانيون اكبر عملية نهب لقدراتهم الاقتصادية والبشرية في تلك الفترة الحالكة السواد في تاريخ السودان ، ورغم ثمرات الحضارة والمدنية التي ادخلها الأتراك في السودان .
وبالتالي وبهذا المعنى نقول أن المحرك للثورة المهدية كان محركا اقتصاديا – اجتماعيا.
: عناصر هولت لنجاح الثورة
المفهوم الواسع الذي صاغه هولت لعناصر نجاح الثورة سليم في جوهره ، ولكنه يصلح لحالة الثورة المهدية المحددة والتي تم فيها استخدام العنف الشعبي المسلح للاستيلاء على السلطة ..
وتتلخص عناصر هولت في الأتي :
1 – وجود استياء وسخط عام لا يكون قاصرا على طبقة أو جماعة معينة ، وانما يمتد إلى كل فئات المجتمع ويكون مصدره إحساسا محددا بالظلم ويتطابق ذلك الإحساس أو الوعي بالظلم بضعف النظام القائم وعجزه عن سحق الثورة في مهدها.
2 – وجود جيش ثوري على استعداد لاستعمال العنف في سبيل هدفه
3 – وجود القيادة الثورية التي تطرح البديل لنظام القائم
وإذا أردنا أن نعمم مفهوم هولت أعلاه ، يمكن أن نعدل في الفقرة ( 2 ) لتكون ( وجود جيش ثوري على استعداد لاستعمال العنف أو الوسائل السلمية في سبيل هدفه ).
وبعد هذا التعديل ، يمكن أن يأخذ مفهوم هولت أعلاه الطابع الشمولي العام ، والذي تم استنباطه من تجربة الثورة المهدية والتي تميزت بحالة خاصة ، وهي استخدام العنف الثوري المسلح للإطاحة بالنظام. .
وهذا المفهوم الشمولي العام لعناصر نجاح الثورة هو نظرية الثورة السودانية والتي تم استخلاصها من التجربة والخبرة العملية.
أما عن تجربة الدولة المهدية والظروف التي أدت الي انتكاستها فقد تم تناولها بتفصيل في مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية في مؤلفي ( راجع: تاج السر عثمان الحاج ، دراسات في التاريخ الإجتماعي للمهدية ، مركز عبد الكريم ميرغني 2010م).
alsirbabo@yahoo.co.uk