الرائد لا يكذب أهله … بقلم: د. عمر بادي
29 April, 2010
عمود : محور اللقيا
هذا مثل قاله قدماء العرب , و معناه أن الرائد الكشّاف الذي يتقدم قافلة قومه و يرتاد الصحراء بحثا عن الماء و الكلأ , لا يمكن أن يكذب أهله في ما يجد , لأن مصيره مرتبط بمصيرهم , و هذا ما يجعله صادقا . في العصر الحديث صارت الإنقلابات العسكرية تأتينا ليس بالرواد فقط , و إنما بالعقداء و العمداء , الذين لا يحق لهم أن يقرنوا بالمثل أعلاه , لأن وحدة المصير قد إنتفت عندهم بمدى تفكيرهم المصلحي القريب , بينما هي مؤكدة في المدى البعيد الذي يحتاج إلى بعد نظر هم عنه يعمهون . كيف يكذب رجل تربى على تعاليم الدين و على الأخلاق و المثل , ثم قام بإنقلاب في سبيل الله يبتغي منه حمل لواء الإسلام , و يردد أنهم لم يأتوا من أجل دنيا بل من أجل دين هم فداء له ؟
لقد وجدت الإجابة لتساؤلي أعلاه في ( فقه الضرورة ) الذي إمتطاه شيخ الإنقاذ المنظّر و العقل المدبّر و فسّره في صالح إنقلابهم الذي أتى بالعميد عمر حسن إلى القصر و أذهبه إلى السجن كما قال مرارا , في تعمية مقصودة للأبصار بأنهم ليسوا حزبيين , و لكن القلوب التي في الصدور أبانت منذ الأيام الأولى أنهم الجناح العسكري لحزب الجبهة القومية الإسلامية !
لقد أجاز العلماء المسلمون الأجلاء فقه الضرورة عملا بقوله تعالى : ( و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) صدق الله العظيم , و فسروه قديما بأن الضرورة هي الخشية على الحياة إن لم يُتناول المحظور , أو الخشية على ضياع المال , و أن ( الضرورات تبيح المحظورات ) . لكي أقرب المعنى إلى القاريء الكريم أضرب مثلا بجواز التيمم مع وجود الماء اثناء البرد الشديد , و آخر بحال المسلمين في الأندلس بعد سقوط غرناطة و تضييق فيرديناند و إيزابيلا عليهم بمحاكم التفتيش و عمليات التنصير أو القتل , بذلك توقف المسلمون عن اداء شعائرهم ظاهريا و ابدوا إرتدادهم عن الإسلام و ظلوا يؤدون صلواتهم داخل الغرف المغلقة ! كذلك عند الجوع الذي يؤدي إلى الهلاك قد أحل العلماء أكل الحرام .
لقد وجدت في كتاب عن فقه الضرورة هذا التعريف للدكتور وهبة الرحيلي : ( الضرورة هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوث ضرر او أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعرض أو بالمال و توابعها , و يتعين أو يباح عندئذ إرتكاب الحرام أو ترك الواجب أو تأخيره عن وقته دفعا للضرر عنه في غالب ظنه ضمن قيود الشرع ) . الإسلام دين الرحمة , و الرحمن و الرحيم من اسماء الله الحسنى , و لسيد الخلق رسولنا الكريم صلوات الله و سلامه عليه أحاديث عدة في الرحمة , و هو الذي أرسله الله تعالى رحمة للعالمين . هذه هي روح الإسلام التي اتت بفقه الضرورة رحمة بالناس , و ليس تبريرا للكذب و المكر و الخداع و الأساليب ( الثعلبية ) من أجل التمكين .
الأهزوجة التي أتيت بذكرها في بداية مقالتي هذه , لم أعد أسمعها إلا في اللقاءات الجماهيرية كنوع من إجترار الماضي و تأكيدا من أنهم لا زالوا على درب التوجه الحضاري المزعوم , رغم الأحوال التي تغيرت بحكم أن حزب المؤتمر الوطني الحاكم لم يعد في توجهه كما كانت الجبهة القومية الإسلامية , بعد ان ضم في عضويته المسيحيين و الكجوريين و اللادينيين و حذف الصفة الإسلامية من إسمه , و أنه بعد إنتهاء حرب الجنوب الجهادية لم تعد تراق الدماء في سبيل الله , لأن الأحزاب و الحركات المعارضة و الحاملة للسلاح كلها مسلمة و ذوات طوائف إسلامية ضاربة في القدم .
الديموقراطية تحتم إحترام الشعب لأنه صاحب القرار الحق , و مهما تواضعت مدارك العامة من الشعب , لا يحق الإستخفاف بعقولهم التي توارثت تمجيد البطولة و ( الفتونة ) و ( الرجالة ) و غذتها فيهم أغاني الحماس و ( الحكامات ) . إنهم يصفقون و يهتفون لمن يظهر لهم ذلك , دون علم بالعواقب التي تكون غالبا غير سليمة , فتأتيهم بالغلاء و بالعقوبات الإقتصادية و بتفتيت الوحدة الوطنية . لقد صار لقادتنا الخطباء وجهان : وجه للعامة في اللقاءات الجماهيرية , و وجه للخاصة في المؤتمرات , حيث تكتنف الوجه الأول التحديات و الإساءات و الوعيد و تكتنف الثاني الحكمة و المعقولية . القضية هنا أن لقاءات العامة الجماهيرية صارت تنقل على القنوات الفضائية و صار العالم يشاهدها و يستمع إليها في مقتطفات في نشرات الأخبار , فتجر على مسؤولينا الويلات .إن سيكولوجية الشخصية السودانية تقر بأن ( الرجالة ) تلقى تأييدا قاطعا من العامة , و تكون بذلك عاملا مؤثرا في عملية الكسب الحزبي .
بغض النظر عن شرعية الإنتخابات و ما فعله ( فقه الضرورة ) فيها , يبدو ان حكومة الإنقاذ سوف تنتقل من شرعيتها الثورية السابقة إلى شرعية دستورية إنتخابية . هذه النقلة يُرجى أن يكون قد تم الإستعداد لها , لأنها تأتي في منعطف خطير يكون فيه السودان أو لا يكون , و يكون فيه مصيرنا في كف عفريت , حكومة و معارضة !
بذلك , على حكومة الإنقاذ هذه المرة أن تكون الرائد الذي لا يكذب أهله .
omar baday [ombaday@yahoo.com]