يعتبر جاك ديريدا أن من العسير الفصل بين الكتابة والاستمناء، فهذان حسب ما يورد فرح جبر في صفحته الاسفيرية "يخترقان المحظور وتتم معايشتهما في إطار الشعور بالذنب." بيد أنه نوع من الذنب ليس منشأه الفطرة، إنما العبرة بمن تسول له نفسه الخروج على البنية الاجتماعية والدينية العربية التي تهاب الإفصاح وتجعل الجنس (حسا ومعنى) مطروداً من العمل الفكري. ومن سلك مسلكا أدبيا فحيلته الاختباء خلف ضمائر الجماعة أو خلف الضمير المجهول من مثل ما كتب محمد حسين هيكل في روايته "زينب" واقتدى به طه حسين في "الأيام" وإبراهيم المازني في "إبراهيم الكاتب" وتوفيق الحكيم في "زهر العمر" والعقاد في "سارة" والطيب صالح في "موسم الهجرة إلى الشمال" وعبدالعزيز بركه ساكن في "الجنقو مسامير الأرض" وناهد محمد الحسن في"محاربات".
إن اخوف ما تخافه الأنظمة الاستبدادية هو افتضاح أمرها إذ أنها لا تعتمد الطهرانية رغبة في الطهر، إنما وسيلة لوأد الإنسان وفرديته. ومن ثم فإن موضوعي ليس حصريا الجنس، إنما فضح السلط التي تواطأت عبر التاريخ (من سنار مرورا بالتركية فالمهدية ثم الإنقاذ) لسلب الإنسان حريته ، والتي من دونها يستحيل إلي كائن عبثي لن تستطيع أحرص الأنظمة تطويعه. يقول الدكتور وجدي كامل "إن النماذج والأطر للغزوات والنزوات الجنسية في المجتمع السوداني لا تنحصر في حدود علاقات العنف الجنسي والانتهاك المتعدد الأنماط في سلوكيات الدولة والمواطن، بل ما يجمع بينهما من تحالف رمزي ثقافي ينتج ممارسات الانتهاك بحيث يصبح الأخير ثقافة مشتركة توطد دعائمها المؤسسات الدينية، والاجتماعية، والاقتصادية." (أغسطس 2015).
بالرغم عن هذا التواطؤ فهنالك قضايا (أخلاقية) لا تكاد تطفو إلى السطح حتى تزلزل كيان أنظمة استبدادية استعاضة عن المشروعية الأخلاقية بشرعية بطشية. مثال في ذلك قضية أم درمان المشهورة والتي أشرف عليها مولانا على محمود حسنين الذي كان القاضي حينها (1962): لوحظ تردد فتيات قصر على منزل "عزابه" ، أصدرت على ضوء هذه الحيثية أوامر بمداهمة المنزل الذي وجدت فيه شخصيات كبيرة لم يتردد القاضي في استدعائها (من غيره يجرؤ علي تحدي الكبار؟). أصر محامي الدفاع على أن الأمر برئ لم يتجاوز حفلات السمر، بل إنه طالب بفحص الفتيات طبياً. كادت هذه الحيلة تنجح لولا نجاعة الطبيب الشرعي الذي لم يكتف بفحص الفتيات في طُهْرِهن، إنما أيضاً ادْبَارِهن. هنا كانت الفاجعة إذ أن الجنرالات لجأوا للقصر لتفادي مخاطر التبليغ، وللدُبر خشية الفضيحة الاجتماعية.
ولعل ذلك ما يزال هو الدافع حتى اليوم، بيد أن اغتصاب طفل بمعدل ساعة في كل يوم (راجع مقال الاستاذ عثمان العاقب في الفضاء الاسفيري)، أي الاعتداء على أكثر أفراد المجتمع هشاشة، وأوجبهم بالحماية، لا يعني فقط أن الانتهاك أصبح ثقافة مشتركة ومتقبلة، بل الأدهى أن دعاة الطهرانية في سبيل الحفاظ على سلطتهم سيوفرون الحماية الكافية والمطلوبة للمعتديين. فالتعامل المنهجي لا يكتفي فقط باعدام المجرمين إنما بفض التحالف الرمزي والثقافي الذي ينتج مثل هذه الممارسات (راجع مقالي "الدولة المازوشية" في أرشيف سودانيل)، أو كما أسماه احد الظرفاء "كشف الداء في اجتماع الفرقاء." هل سأل السودانيون أنفسهم عن مآل الطبيب الذي اتهم بإجراء عمليات إجهاض لفتيات منذ زمن غير بعيد؟ حتي لا تجهد(ين) ذهنك: لم يجرؤ جهاز الامن علي اعتقاله يوما بل طُلب منه الهجرة في اقرب وقت ممكن وذلك بعد ان استبان شأنه في إنقاذ أبناء وبنات "الكبار". ليس الاشكال في وجود سفلة في مجتمع ما، إنما في احتلال السفلة قمة الهرم الأدبي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والديني. أليس من الغريب أن يصبح الدين قرين كل فعل مشين (وذلك ليس من اليوم بل مذ أن توسد أبا الحسنين يمينه)؟
إذا كان ود تورشين قد عرض على الملكة فيكتوريا تزويجها بالأمير يونس ود الدكيم وذلك بعد تطهيرها، فإن ود كارا قد جعل الطهارة في فعل الركوب نفسه. هنا تفضح اللغة الباتراركية الجنسية كما توضح المقاربة الحيوانية التي تلغى التبادلية وتؤسس للعنف الجنسي الذي تعددت أنماطه في سلوكيات الدولة والمواطن. إذ أن الدلالات اللغوية كما تقول الباحثة ومتخصصة في علم النفس نجدة منصور "عنصر لا يستهان به في تحليل وتركيب السرديات وتفكيكها وإحداث حفريات فيها وجانب لا يجب إهماله في محاولات التأثير علي بنية الوعي الجمعي" (أغسطس 2015). إن المواطن يعيش حالة من حالات عدم الاتساق التي اتسم بها سلوكه العام والخاص، فهو يقبل أن يكون فاعلا ولا يقر أنه مفعول به (لعل هذه احدي الحالات النشاز التي تميز بها الشعب السوداني عن سائر الشعوب). لا سيما أن هنالك علاقة بين الهوية الجنسية والهوية الوطنية كما توضح الدكتورة اشراقة مصطفي في كتاباتها. وإذ استبطنت الدول احادية الإرسال في لغتها السياسية فهي لا تحترف بأنها مطيه لنزوات وغزوات إقليمية ودولية.
لا يجد مجتمعنا سبة أسوأ من العهر بينما النخبة غارقة في العهر حتى شحمه أذنيها. ذكرني الحوار الوطني بحادثة طريفة حدثت في الزمن الغابر. عندما مات آدم سفير (رحمه الله) وضعت جثته في المشرحة ثلاثة أيام حتى يصل زملائه في "المهنة الشريفة" وأصدقائه من كافة مدن السودان. أربك تقاطر هؤلاء الحركة في الخرطوم بدرجة أثارت حفيظة المواطنين، إذا لم نقل حب استطلاعهم. وضع الجثمان فأصر نائبه حسن (كحلي) على إمامة المصلين الذين اصطفوا غير منتبهين لتميز هذه الصلاة عن أخواتها.
كبّر حسن (كحلي) فهمّوا بالركوع، كبّر ثانية فكادوا يسجدون. أغضب هذا الأمر الاستاذ حسن (كحلي) الذي ما كان ليفوت هذه المناسبة ليثبت سطوته ولو في حضرة رئيسه، فلم يكن منه إلا أن التفت إليهم (وفي أثناء الصلاة) منبهما وزاجراً "يا .........يطه هوي الصلاة دي وقافي."
اقترح على المتحدث الرسمي باسم الحكومة أن ينبه النخب التي همت بالانحناءة إجلالا لجنازة الإنقاذ أن يقول لهم : يا "محترمين" الحوار (الوطني) المرة دي خفافي! يحلو للسودانيين أن يستمروا في خداعهم للذات، فيلجأوا إلي تفسير كافة عللهم بالمثلية. كلما ورد اسم أحد من الذين اسهموا عبثا وشططا في الشأن العام قال زملاؤنا (من دفعة 88 جامعة الخرطوم) بأنه "كلجه" ( بمعني كديانة أو لبوة أو بركشة). وأنا لا أعترض شرعا فقط إنما أيضا منطقا علي هذا التصنيف. فعدم كفاءة هذا الشخص أو ذاك الإدارية سببها فشله الأكاديمي وعدم خبرته المهنية، واعتماده الانتهازية والوصولية لتحقيق مآربه الشخصية. فمن هؤلاء من هم نوابغ عرفت براعتهم الساحات الفنية والثقافية والمهنية الرياضية والعسكرية والسياسية، بل والدينية، وذلك منذ الاستقلال، ومنهم من هم عاطلون مارسوا أحقادهم علي المواطنين، وأزمعوا علي الانتقام من جمهور قطع عليهم السبيل - سبيل الإنابة لرب العالمين - بإلحاق صبغة أبدية لا تكاد تنفك عنهم حتي يلجوا إلي قبورهم. يجب أن ننحي منحيا إصلاحيا غير الفضائحي الذي تنتهجه المطربة في غنية "الحلوات" (ماذا عن الجنرالات وأبّان شنبات؟)، او ذاك الإنكاري الذي تعتمده الأنظمة الطهرانية (هل استفهم أحد عن دور الغلمان في نظام طالبان؟). "وكل شوكة بطلعوها بدربها" زي ما بقولوا مشايخنا في كردفان.
يقول الأستاذ يوسف الطيب: كنا في مدرسة الضعين الثانوية وكانت هنالك جائزة تسمي "جائزة الموضوع الأسخن" تفوز بها في آخر السنة أحدي الداخليات. ولما كان الدور علي داخليتنا داخلية سبدو، وقع الخيار عليَّ للتفكير في الموضوع الساخن. وقد كان. فقد أخترت "العلاقة الجنسية بين المرأة والرجل." ما إن قلبنا السبورة ليقرأها الزملاء وضيوفهم حتي انهال علي سيلٌ من الكراسي منهمر كاد ان يجرف حياتي وحياة سكان الداخلية. ليس هذا فحسب بل تم فصلي من المدرسة في اليوم التالي لولا ان جميع الطلاب بالمدرسة، بإستثناء طلاب الإتجاه الأسلامي ومشايعوهم من المعلمين، أجبروا المدير علي التراجع عن فصلي، بحجة أن هذا نشاط اقرته ادارة المدرسة. حدث لي ما حدث بدعوي ان المجتمع الذي رفض الموضوع هو مجتمع فضيلة وطهر، دون الأخذ في الإعتبار انني اتيت من نفس المجتمع وأعرف بدقة من هو "الندار ابو دقل القادي الشوك والتُكل."
كانت مجتمعات الريف متزمتة بدرجة تجعل مرتكبي الفواحش أو ما دونها من اللمم يلجأون إلى المدن تستراً وتحفظا، بيد أنهم اليوم يشيدون الصيوان ويرفعون الأذان دون خجل، ولا وجل أو حياء. بلغ حاج مكين أن أبنه الذي عيرته الحكامة بفعلة فعلها قد لجأ إلى المدينة وقطن ببيت أحد كبار القوادين. دارت الدنيا برأسه لكنه اعتزم أن يلحق بابنه فيودي بحياته قبل أن يلطخ سمعة أهله وذويه. اهتدى بعد جهد جهيد إلى البيت المعني. لقيه أحدهم بترحاب، ذبحت له الذبائح وأقيمت له الولائم لكنه ظل متحفزا لرؤية ابنه الذي تعمد عدم الظهور.
في المساء اقيمت حفلة صاخبة تدرج منظموها في المجون ، لم يلبث حاج مكين حتي اخفي المسبحة تحت المنضدة، بدأ بالتبشير الذي استحال إلى رقص مع إحدى "الظريفات" التي اصطحبته من بعد إلى إحدى الغرف فتبعها على استحياء - استحال إلى دهاء – بعد ان أغلقت الأبواب. صحيح "البرقص ما بغطي دقنو." قام متثاقلا في صبح اليوم الثاني، فاته الصبح في اليوم الثالث ، كادت أن تداهمه لحظة إفاقة لولا أن صاحبة المنزل بعثت له بواحدة أشرفت على تدليكه عند الظهيرة. أرادت هذه "الظريفة" أن تحتال عليه (وقد بدا مجهدا) فقالت له: يا عم مكين باقي الزيت أكبو وين؟ قال لها : صُبي لي يا بنيتي في فرقة جعبتي!
ظهر له إبنه في اليوم الرابع، فما كان منه إلا أن لقيه بعشراته ، عبر له عن شوقه وشوق إخوانه وأنبه على غيابه. اعتذر الابن بلطف، أعد له إفطارا فخيما، صحبه بعدها إلى السوق. لم يكتف بكسوته وكسوة إخوته ، بل شملت مروءته جماعة الدرا (أصحاب والده الذين يلتقيهم في المجلس) الذين لم يكتف بكسوتهم إنما أرسل لهم المصاريف ووعد بإكرامهم إن هم قدموا إليه في المدينة. تحاشى بعضهم إحراج الحاج، إلا أن أحدهم أراد أن يتخذ خطوة استباقية علها تقطع دابر الحديث وترجع الدرا (المجلس) إلى حيويته المعهودة، فقال للحاج : ياحاج مكين، الجلاليب الساكوبيس والعمم والشالات دي كلها جابها الليد (الولد)......... حاج مكين اتهوش وانتفخت اوداجه وقال لهم: مش دا بس حتى الأدبخانة بناها، والكارو اشتراها.
حامد (سمح الليل): كان دا كله سوّاه الليد، العيب وين يا اخوانا؟ علي بالحرام الما ولد ليهو ولد ...طي ما ولد!!
ضحك الجميع وانفض سامرهم. بهكذا اسلوب أخرج حامد (سمح الليل) صاحبه من ورطه اجتماعية ومن عقدة نفسية كادت تلازمه ابد الدهر.
هذا حال البقاري فما بال الجلابي؟ لا يحتاج الجلابي إلى تبرير أعماله اقتصاديا، فالمال والمصلحة مطلوبان في ذاتيهما وليس لغاية تنشد من ورائهما. ما إن ينتدب موظف لإحدى مجالس الإدارة (الأسمنت، السكر، ..... إلخ)، حتى يهرع إليه أصحاب المصلحة مهنئين ومباركين. لن تعدي أسابيع حتى يكونوا قد اصطحبوه إلى إحدى العواصم البهية التي تقام فيها ليالي برتقالية. ما إن يرجع الكل إلى الخرطوم حتى تكون الطلبات والعقود بقيمة المليارات على رأس الطاولة. (كان الفَلُّوس هو مطمح كبار الموظفين حينها إذ لم يتعرفوا بعد على الفُلوس). بهكذا طريقة بنت بعض البيوتات الخرطومية امبراطورياتها المالية، فيما ينشغل الأبناء ويتنافسوا في بناء المساجد او إنشاء جمعيات خيرية، يتفرغ الأحفاد لغسيل الأموال عبر الموانئ التي يتكفل بحمايتها الجنرالات المفسدين.
إن "مؤسسة الجلابة" مؤسسة منحطة لا يستطيع كائن من كان يقتلعها معتمدا فقط علي الآلة الحربية، فقد أثبتت التجارب منذ التركية أن هذه المؤسسة قادرة على تطويع أشرس الجند. فالمهدية مثلا هزمت التركية عسكريا لكن الأخيرة انتصرت عليها ثقافيا. ما فتئ القادة يروجون للطهرانية حتي انحطت أم درمان أخلاقيا وفكريا وروحيا (ليس أدل من وجود صرح لعبد القيوم في قلب أم درمان). إن جند الريف هزموا الدولة الإنقاذية عسكريا لكنها انتصرت عليهم سياسيا، إذ عمدت إلى تفريقهم وتشتيتهم مستحدثة كافة الوسائل. بل إنها تكرمت وتنازلت فأعطت بعض قادتهم عضوية غير مكتملة (كاد الأنوفيليس أن يمن بها عليهم)، فاسكنت المندسين منهم في قصور بحي كافوري على شارع النيل. إن الاصطفاف الذي ترونه بين "الغرابة" و"الجلابة" هذه الأيام لهو اصطفاف غير حقيقي. هل تظن أنهم مختلفين؟ هل تظن أن هنالك تنافسا شريفا يمكن أن يتم "لنيل عطاءات لتنفيذ المشروعات"؟ متي كان الشرف سمتا لأولئك وهؤلاء؟ هل تعتقد أن هؤلاء المرتزقة يمكن أن يكونوا ممثلين للزغاوة والفور؟ إن هم إلا "غرغاجة لمتم بوطة" علي قول المثل البلدي الذي يميز بين الرجال سياد الشرك الذين يخرجون للصيد الشرس السمين مثل الجاموس والفيل واولئك البوساء الذين يخرجون بغرض الحصول علي قوت يومهم من الحلوف، وأبون شوك وأبون ضلاف – صيد كاد أن ينقرض هو وصائده من كثرة السلاح في جنوب دارفور (واحد من كل خمس أشخاص يحمل بندقية أوتومتيك في دارفور).
يقول الدكتور محمد جلال هاشم "المركز ليس إلا مجموعة من الصفوة المعاد إنتاجها ثقافيا – ومن ثم أيديولوجيا – داخل حقل الثقافة العربية الإسلامية عبر عملية من الأدلجة والتشكيل، الأمر الذي يفضي في النهاية إلى شيئ لا علاقة له بإنسانية هذه الثقافة نفسها وبذلك ينسفها. بهذا لا يكون المركز مرتبطا بعرق ما، أو جهة ما، وما تصويره على أنه كذلك إلا مجرد خدعة. فالمركز مركز سلطوي، صفوي يحتكر السلطة والثورة، وفي سبيل تأمين مصالحه يسخر الثقافة والعرق والدين والجغرافيا. بهذا تصبح هناك طريق واضحه للطامحين للسلطة إذا ركبوها وصلوا إليها: الأسلمة والاستعراب، أي تبني الايديولوجيا الإسلاموعروبية. وهكذا تكون المركز المتمثلة في الثورة والسلطة. هنا لا يهم من أي مجموعة ثقافية أو عرقية ترجع أصول المرء. طالما كان مستعدا للتضحية بأهلة تحت شعار الإسلام أو العروبة، وكلاهما برئ من ذلك" (منهج التحليل الثقافي: صراع الهامش والمركز 2014).
صدق من قال إن "ابناء دارفور أقل تكلفة من الجنوبيين،" لكنه نسي أن يشهد بأن "مثقفا" جعل نفسه مطية للعسكر لهو أتفه أنواع المثقفين. يصح أن يطلق عليه لقب "الأنوفيليس" أنثي البعوض التي أعجزت العلماء، إذ نجحوا في إخصاء الذكر لكنهم أخفقوا في إبطال البويضة للأنثي، إذ لن تعجز هي عن إيجاد من يقضي لها وطرها وينفي عنها خبثها الذي ظلت تمارسه في شكل الاستبداد علي الآخرين، عضهم ونقل السم ليهم. قال "الأنوفينيس" أنه صنع الحركات (قد صدق وهو كذوب)، فمن صنعه هو؟
إن "الجلابي" لا يجاريه أحد في الانحطاط وإن تمثل الكبرياء والأنفة وتقلد الثقافة والاستنارة وشاح. أجريت مقارنة مع أحدهم فأنبرى لي هذا "المثقف" شتما في الطائفية والرجعية، شتما لم اعبأ له لأنني تحصلت علي معلومات قبلها عن خلفيته اغنتني عن الانتباه لجعجعته وعنجهيته. فقد تقلد هذا الشخص وزارات سيادية في حقب سياسية مختلفة إذ لم يجد حرجاً في التكيف مع أنظمة من ذات اليمين وذات اليسار، فهو دوما يعرف كيف يراعي مصلحته ولا تهمه مصلحة الوطن. عندما أحس تململ الرئاسة منه ذات مرة جعل للرأس الكبيرة نسبة في كل شوال تنتجه إحدى المصانع الوطنية. وعندما كان وزيرا في الحقبة العسكرية السالفة أعطى واحداً من اليونانيين الذين يصنعون آليات الكترونية وماكينات تبريد إعفاء من الجمرك صالح لمدى الحياة. لا تخاله فعلها حبا في اليونانيات فقد أعطى بالمقابل شقة في فيكتوريا قيمتها اليوم 6 مليون استرليني. بهكذا طريقة أمَّنت النخب المركزية (لا سيما النيلية منها)، مستقبل بنيها وأضاعت مستقبل الوطن. هذه كانت حالة فريدة في عهد لم يعرف فيه عن الرجال ضياع الذمم، أما اليوم فهي سمة كل السياسيين والمدراء التنفيذين الا من رحم ربك. فيما يمضي الجمهور متلهيا بالرأس الصغير نتيجة الحرمان، يتفرغ الحكام للتفكير بالرأس الكبير. والعكس صحيح. بينما يتفكر الكل في كيفية المخرج من المحنة، ينصرف "ممثلو الشعب" لتقنين الجهل والإفلاس. نقل تلفزيون السودان إحدي الجلسات البرلمانية فكان فيما قاله أحد البرلمانيين المحسوبين علي الكتل اليمينية مدافعا عن الخفاض: "المرة الغلفا عفنة" ! إن ما يحدث في هذا البلد معيب ومؤسف. فالمرأة من حيث انها أنثي ومن حيث أنها بشر لا تستطيع في موسم الخريف عبور الوديان في كافة أنحاء الريف السوداني إلي عنبر الولادة، الذي قد لا يوجد فيه أصلا طبيب متخصص، فتتوجع أحيانا علي ظهر "الكارو" حتي تموت، وهذا المحترم منشغل بالشنتور (هو البظر بلغة اهل الريف) وسفاسف الأمور.
هذا إن دل فإنما يدل علي زعمي من أن الجنس يحتل محورا في تفكير الإنسان الشرقي، الطهرانيون منهم خاصة (وذلك دون أن اكون أوديبيا)، بل قد يكون المحفز الاساسي في كثير من التصرفات. لك ان تتصور شبق الحاكمين ومباراة بعضهم البعض في تعدد الزوجات في وقت يتضور فيه الشعب جوعا، بل يقنن العهد ارتفاع عمر الزواج للذكور والإناث عشر سنوات. هكذا ومن دون مبرر تضيع حقبة بهية من عمر الإنسان الذي استعاض حاكموه عن التخطيط بخرافات هم أخر المؤمنين بها.
أود أن أعود في هذه السانحة إلى المرحلتين الأخيرتين من المراحل الخمس (الإغارة، العبودية، الإباحية، الخطف والإفاقة) التي شكلت بصمة الثقافة الجنسية في السودان وأخذها من دون تفصيل مع بعض التدليل والتمثيل. إن الزقاق أغلق عنوة دون أن يكون هناك توطئة لمعالجة آثاره، فكان الخطف (اصطحاب الجنس المشتهي من الطريق، سمي "خطفا" علما بأنه لا يتم عنوة لكنه يحدث دون سابق معرفة بين الطرفين، فهو بمثابة اجتياح لخصوصية المرء) الذي أعاد إلى الذاكرة ظاهرة الإغارة. لا أشك في أن النميري (رحمة الله) أراد ان "يطهر" المدينة من الدنس عندما أصدر قراراً بقفل البيوت، لكن الطريق التي تم بها الإقفال احدث إرباكا اجتماعيا جعل المدن كافة بمثابة "بيت الكبير". يقال إن عون الشريف (رحمه الله) قال لمهدي مصطفي الهادي "لو انك أغلقت البيوت (بهذه الطريقة) فسيدخل العيب إلي بيوتنا." فيما كان عون يفكر في المصلحة العامة كان مهدي يسعي لمداراة عقدة خاصة!
إن العنف اللفظي والحسي الذي تتعرض له السيدات في القاعات والشابات في المواصلات والحافلات والأماكن العامة يدل على أن السودانيين (المنحرفين منهم) قد فقدوا حاستهم على التمييز. يكفي ان تذهب إلي السوق كي تسمع ما يقوله بعض الصائمين للسيدات اللاتي يقدم لقضاء حوائجهن في نهار رمضان. لا غرو، فقد أغلق الزقاق الحسي وبقي الرمزي:
زعموا أنني خلقت لكي لا أكون سوي الإناء
لاحتضان المنِي كأني مجرد حقل وحرث
جسدي من غثاء وحيض
وحياتي تجري
مرة، صرخة، مرة مومأة.
ولماذا إذن يكتب الكون أسراره
بيدي عاشق؟
ولماذا إذن يولد الانبياء
في فراش إمرأة؟
(تاريخ يتمزق في جسد امرأة، ادونيس، ص: 93) إن المدينة طورت ذائقة السودانيين، لكنهم سرعان ما ارتدوا إلى خانة الإغارة (الخطف) لأن التطور لم يتم نتيجة تراكم معرفي وحضاري إنما زخم حضري. فالسوق لا ينظر إليه كمكان ذي خصوصية، إنما ساحة تحتوي على متاع يمكن الاستحواذ عليه. هل يتخلف السودانيون عن سواهم في هذا الأمر؟ لا يختلفون على الشرقيين إلا في درجة العنف اللفظي، لكنهم حتما يختلفون نوعا عن الغربيين الذين يعتبرون مجرد الحدة في النظر تحرشا هو بمثابة اختراق لفضاء الشخص وتعدي علي خصوصية يكفلها العرف والقانون. بالمقابل فإن النظر هو الأسلوب الأوحد في مجتمعات تدعي المحافظة، ولذا فالمعول عليه في اختراق الحجاب وتجاوز الحاجب.
لقد تشوهت جينات الإنسان السوداني منذ نزوله من الهضبة وتعرضه لحملات الإغارة المتعددة: هي إغارات متعددة، منها ما هو معنوي سلب الإنسان حضارته ومنها ما هو حسي مادي سلبه مقدرته على المقاومة وأضعف إرادته (راجع مقالات الأخوين النابهين والدكتورين الفاضلين مضوي الترابي والنور حمد)، بل وأنساه أنشودة الطبيعة التي خلدها أدونيس في شعره عمن ارتقوا "سلم الغواية في مدي هذه اللانهاية" (تاريخ يتمزق في جسد امرأة، أدونيس، ص: 40).
ختاما، إن العنف في السودان كان عنفا تلقائيا ، أما الآن فقد أصبح عنفا مقننا تحرسه مسودة فقهية، قانونية، سياسية، سيادية، إلى آخره . ما لم يستحدث إصلاحا بنيويا (يتعرض بالنقد للبنية البطريقية)، مؤسسيا (يرصد إمكانيات لضمان تطور المرأة)، تعليميا (يتناول القضايا بالنقد الفكري والفلسفي اللازمين)، روحيا/تربويا (يتعمد التوسط بين نص متعالي ورؤية ما ورائية)، واجتماعي (توفر دعم نفسي واستشارة طبية)، فإن المرأة ستظل القاهر المقهور. هي ترصد العنف لترده مستخدمة آلاتها الخفية. ماذا عن الأم التي تضع بنيها علي حافة الانتحار؟ هل هي قاهرة أم مقهورة؟ ماذا عن الزوجة أو العشيقة التي تدفع زوجها للازورار عن الحقائق فيضطر لتبرير الشيكات الطائرة بأنها اخفاقات تجارية جائزة؟ هل هي قاهرة أم مقهورة؟ ماذا عن "العانس" التي تتسبب في طلاق إخواتها وإخوانها ولا تستكين حتى يفوق عدد الطلاقات عدد الزيجات؟ هل هي قاهرة أم مقهورة؟
لا يمكن للإنصاف ان يحدث لمجرد الشجب، استصدار بيانات أو كتابة أوراق مفاهيمية مسطحة هي اشبه بالوعظ الفارغ. إذن، فلا بد من تضافر جهات بحثية مع جهات سياسية وهيئات ثقافية، نيابات شرطية، ولجان دستورية، إلى آخره، كي يوضع الأمر في نصابه من حيث الوجهة الحضارية، كما العمل جديا وجماعيا لتحقيق الغاية العدلية والإنسانوية. لا يمكن لبشرية أن تزدهر ونصفها الحيوي مٌغَيِّب. بل لا يمكن لمجتمع أن ينهض ورأس نخبه مندس في الرمال. إلى حين حدوث التوازن المطلوب سيكون من المنطقي والضروري بث ثقافة الجنوسة واتخاذ سبل الوقاية اللازمة. إذ لا يمكن أن نستمر في الإنكار الذي تكذبه بيانات النيابة ووقائع المشرحة اليومية. لقد أعلنت أوغندا قبل عشرة سنوات بأنها تعيش وضعا كارثيا نسبة لإصابة مجتمعها بالأيدز، فطلبت الدعم من المجتمع الدولي الذي لم يتوان، فوفر لها احتياجاتها اللازمة في هذا الصدد. واليوم يشهد المراقبون على نسبة تدنى الأيدز بنسبة معتبرة في أوغندا.
إن انفجاراً مدويا أحدثته الميديا الاجتماعية، هيئ للإنسان فرصة الانعتاق من الحدود المكانية، سيما الزمانية التي لطالما الزمته بمشروع أخلاقي محدد ولم تعطه فرصة مناقشة هذا المشروع، ولم تفسح له مجالا للاستمتاع بذاتيته. بما أن الجنس هو أكثر الاشياء خصوصية فهو أكثر الأشياء ذاتية ، ولذا فقد أخذ الانفجار منحى حسيا، الي جانب نواح أخري، فكان الإمعان في الفجور أو الإسراف على النفس وسيلة الانتقام من الذوات المستبدة عبر التاريخ.
إن تنكب الخطى في كل شأن قد أوصل المجتمع السوداني إلى حافة الانهيار. أخشى ما أخشى أن نكون قد وصلنا إلى درك لا يمكن تداركه. إن النظرة المؤطرة غير المعمقة للأخلاق، قد أرهقت إنسان القرون الوسطى، لكنها سترهق إنسان الألفية الثالثة (Millennium) أكثر، لأن الأخير يرى أفقا فسحيا تحلق فيه كائنات منعتقة، فيما تكبل أرجله القيود وتعشعش الخرافة في خاطره فلا يستطيع غير الصراخ والأنين. إنه يموت فتداركوه!