السودان .. التطبيع أم التوقيع على بروتوكولات ترمب؟

 


 

 

 

 

في واحدة من محطات الانحطاط الدبلوماسي، مارس الرئيس ترمب حيل الابتزاز على الهواء ليدفع بالسودان -المغلوب على أمره في ظل حكومة اليسار الليبرالي- للتطبيع مع إسرائيل اليمينية، ممنياً إياه بحياة سياسية واقتصادية مستقرة ومذكراً بأخرين يأتون للحاق بركب التطبيع..

يُسوّق للتطبيع هذه الايام على أنه العصا السحرية التي ستقلب الأوضاع وتحيل حياة المواطنين إلى نعيم. كذب. هذا الأمر لن يحدث دون أن نقرر مواجهة مشاكلنا الداخلية بالشجاعة والنباهة اللازمتين..

المهزلة الاعلامية التي اقامها ترمب اليوم باستضافة برهان ونتنياهو تلفونياً لا تعدو كونها دعاية انتخابية بئيسة. لم يكن السودان يوما في معركة مع إسرائيل، كانت هناك مجرد تجاوزات قام به رجال الإنقاذ - تمثلت في تمرير أسلحة لحماس- سرعان ما تراجعوا عنها أثرين درب السلامة.!

لقد ثار الشعب السوداني ضد دولة عنصرية تعتمد في تأليبها للرأي العام على الخرافة موظفة أوهام عرقية ومستفيدة من هوس ديني شائع، تحديدا دولة الإنقاذ. هل يا ترى فعل ذلك ليجد نفسه في خانة التوافق مع دولة عنصرية تقوم على أوهام توراتية، وتؤيد قيام نظام للفصل العنصري، هو الأخير من نوعه على ظهر البسيطة؟

إسرائيل تنطلق من استراتيجية توسعية (بالمعنى العسكري والتجاري)، فيما ينطلق الأخرون من أوهام . لم يحدث لإسرائيل أن تبادلت معلومات أمنية مع "دولة صديقة" إلا فيما يخص الناشطين الديمقراطيين، ولم يحدث لها أن شاركت في مؤتمرات علمية أو عقدت شراكات تجارية أو أمدت الأفارقة العرب بمعلومات من شأنها أن تدّعم الوضع الاقتصادي أو ذاك الإنساني لأيٍ من تلك البلاد. فلا جديد تحت الشمس..

الآن وقد أصبح التطبيع واقعاً ولا ينبغي له، هل سيستقيل البعثيون والناصريون ومن لف لفهم من اليساريين المفلسين من الحكومة أم أنهم ينتظرون إشارة من قيادتهم القطرية في سوريا والعراق؟

لا يحتاج الرئيس السوداني -أياً من كان- أن يقف أحدباً أو أن ينفزر فيرقد أرضاً، يحتاج فقط إلى استراتيجية تنمية وطنية يحدد على ضوئها مسارته السياسية والدبلوماسية. هل نحن في انتظار البعثة الأممية أم أنه يمكنا الاستفادة من الطاقات السودانية؟

يحتاج أي مشروع نهضوي إلى قيمة أخلاقية محورية يرتكز عليها. يا ترى ماذا بقي لنا من حيل الارتكاز ؟

لم نسمع بعد تصريحاً للحاضنة السياسية لحكومة حمدوك بشأن التطبيع الذي نكره الأخير في بادئ الأمر، وأقره عندما ارتأى أنه لا يمكن له أن يخرج عن إرادة العسكر. هذه الصفقة ليس لدعم رفاه للشعب، هي لدعم العسكر الحاليين وتمكينهم كي يحدوا من طموح الشعب السوداني في الحرية والكرامة والانسانية. اسرائيل برهنت أنها لا تريد سلاماً مع الشعوب، فقط هي تريد صفقة مع عسكريين تطاردهم الجنائية الدولية وتحيطهم الجرائم ضد الانسانية. ليس ثمة وقت أفضل من هذا الوقت لممارسة الابتزاز وتهديد من تسول له نفسه الوقوف ضد الإرادة الصهيونية.!

إن المواقف السياسية الأكثر استدامة هي تلكم التي تنبع من قناعة الجماهير، لا تلك التي تفرض عليها، وفي الظروف القاحلة إياها. لماذا تصر الحكومة - إن كان لها الخيار - على البت في قضايا ذات طابع استقطابي؟ اليس من الأولى ترك هذه القضايا للجهاز التشريعي المنتخب، حتما ليس المنتدب؟ ما هي جدوى التطبيع السياسية والاقتصادية؟ ما هي الكلفة الاخلاقية والاجتماعية؟ ما هي آليات ومنهجيات التطبيع؟ هل يمكن للتطبيع أن يقود إلى سلام مستدام في المنطقة وما هي الشواهد؟ لا سيما أن إسرائيل دولة مارقة عن الإرادة الدولية وهي تمارس هذا العهر السياسي مع كل من تسول له نفسه من الأفارقة والعرب الخارجين والرافضين الإنصياع لإرادة شعوبهم، لا أكثر ولا أقل..

السؤال هنا ليس عن مبدأ التطبيع فهذا أمر يخص أصحاب الضمائر الوطنية والدينية وهم عدم في الشاكلة الحالية، السؤال هو عن الماهية والكيفية: كيف انتقل السودان من خانة الحماس غير المؤسس إلى ساحة التطبيع غير المبدئي، وفي هذا الوقت بالذات؟ هل هناك موقعاً بين الخانتين؟ وما هي الاستراتيجية المثلى للتطبيع؟ هل من حقنا ان نخطط لأنفسنا أم إننا سنكون تبعاً لبعض الدول الخليجية؟ أليس من حقنا أن نتكلم ولو يوماً أصالة عن أنفسنا ونيابة عن شعوبنا؟ هل هذه هي شعارات ثورتنا؟ هل هذه هي أولوياتنا؟ هل من أدوار الخارجية السودانية تثمين أدوار الدول الأخرى؟

ما هي الحيثيات التي اعتمد عليها معالي رئيس الوزراء دكتور عبدالله حمدوك - الذي أصبح بمثابة كبير الياورات في البلاط الملكي لهؤلاء العسكر المرتهنين - في مباركته التطبيع مع دولة الكيان الصهيوني؟ هل هو موقف أيديولوجي أم سياسي إداري؟ كيف يتسني له تخطي إرادة الشعب السوداني وإعلانه للتطبيع دون الرجوع للجهة التي خولته حكم البلاد؟ هل كان التطبيع من أولويات الثورة أم أنه حالة اقتضاها التجويع؟ هل سيسد قمح نتنياهو المرسل خانة الجوع الذي ضرب بأطنابه القري والحضر؟ هل بهكذا أساوب سينجو الشعب من متلازمة التجويع والتطبيع؟

اعتقد أن الأمر يتجاوز الفوضى الإدارية التي تشهدها البلاد إلى بيداء النفوس التي جبلت على الخيانة، والتي أراد الله فضحها وتعريتها قبل أن يأخذها أخذ عزيز مقتدر. لقد كذبوا بشأن التطبيع وما زالوا يكذبون. قال حمدوك أن البرهان لم يبلغه باعتزامه الذهاب لملاقاة نتنياهو في يوغندا، ثم رجع فاستدرك وقال بأنه ذكر له ذكر له ذلك في معرض الحديث عن قضية آخرى. .

يجب أن لا نستغرب على قادتنا مثل هذه التصرفات فرئيس دولة عظمى مثل أمريكا لا يعبه بإخفاء أمر "المقايضة غير الأخلاقية" التي تجعله يرهن رفع إسم بلادنا من قائمة الدول الراعية للإرهاب مقابل التطبيع مع أبناء صهيون؟ أمريكا تعلم علم اليقين أن القدرات العسكرية والامنية التي وظفها نظام الإنقاذ لإرهاب الشعوب السودانية وشعوب المنطقة ما زالت موجودة وقد تم توظيفها في زمن غير بعيد لفض الاعتصام باسلوب هو الأكثر بشاعة في تاريخ الحماقات العسكرية، فما الذي جعلها تظن أن النظام الحالي قد تخلى عن مثل هذه القناعات؟

الرئيس الأمريكي لا يفكر في تحقيق سلام عالمي ومستدام قدر حرصه على إرضاء اليمين المتشدد في اسرائيل والمحافظ في أمريكا، على النقيض هو يشن حرباً على السلام الاجتماعي ويشكل خطراً على السلم والأمان العالميين بتأييده للدولة المارقة والخانقة في آن واحد.

يحتاج السودان لإرادة سياسية وسياسة إدارية كي يكون في سلم مع ذاته والآخرين. كل ذلك لن يجدي عنه شيئاً إذا كان في تضاد مع إرادة الشعوب ورغبتها في العيش ضمن منظومتها الإنسانية والمجتمعية.

الوليد آدم مادبو

أكتوبر /٢٠٢٠

auwaab@gmail.com

 

آراء