السودان: بحثاً عن سلام مفقود

 


 

 

ستنتهي الحرب بالتفاوض، هكذا كان يصرح، دون حرج، قادة طرفي الصراع السوداني منذ الأيام الأولى للانفجار الدامي السوداني الذي امتد زمنه ونطاقه وازدادت معاناة سكان البلاد بصورة أكثر مأساوية. ونتجت عن هذه التصريحات غير المسؤولة ما خلفته الحرب من أهوال كارثية فاقت كل ما تصوره قادة الصراع من محدودية كصراع حول السلطة، ومن ثم تستتب الأمور متى ما أنجزت المهام العسكرية، بغض النظر عن خسائرها. وبعد أن قوضت الحرب كل ما كان سبباً يستدعي قوة النيران، لم يبق ما يمكن التفاوض عليه من سلطة مبتغاة في دولة انهارت بالحرب وغيرها. والآن تعود الأصوات المطالبة بالعودة إلى التفاوض والتنازل بالتالي عن شعارات صعب تحقيقها ميدانيا بالمعني العسكري، وبعد أن كادت أحداث أكثر دموية (حرب غزة) تغطي على أخبار معارك الخرطوم، وكادت أن تصبح الحرب المنسية على تخوم المحيط الإقليمي للعالم العربي.
ومن جانب آخر، لم تتوقف الدعوات لإيقاف الحرب والجلوس إلى مائدة التفاوض والقبول بالمبادرات الإقليمية والدولية، طوال أشهر الحرب السبعة، وكلها مسنودة بالغطاء المدني السياسي، على خلاف المطالبة باستمرار الحرب من الجانب العسكري لطرفي النزاع الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع. فقد تعددت المنابر الداعية للسلام، وفي المقابل تعددت الأصوات الرافضة للسلام بمعناه التفاوضي، التي رأت وما زالت ترى فيه انكساراً ونكوصا عن مهام وطنية يضطلع بها الجيش، أو مطالبة مستحقة التنفيذ في خطاب (الدعم السريع) السياسي. فكيف يكون الطريق نحو السلام سالكاً والسودان وصل إلى ما وصل إليه من حالة رثة، وتحولت مدنه إلى خرائب، وشعبه في شتات متسع الجغرافيا بين بلدان وقارات وحدود بين نزوح داخلي ولجوء؟
تداعت الكيانات المدنية بصوتها الخفيض وتأثيرها المحدود في مجريات الأمور في الداخل للدعوة في العاصمة الإثيوبية أديس ابابا إلى تكوين جبهة مدنية عريضة لإيقاف الحرب، واستعادة المسار الديمقراطي في ما يقول بيانها. وهي جبهة من مكونات مدنية تشمل الأحزاب السياسية في تجمعها المناوئ للقيادة السياسية للجيش منذ انقلاب أكتوبر 2021 بقيادة رئيسه الفريق عبد الفتاح البرهان وحليفه السابق ونائبه محمد حمدان دقلو قائد الدعم السريع. والشاهد أن واقع السودان يدعو إلى وقف الحرب بأسرع ما يمكن بالمعايير الإنسانية، كأولوية تسبق الجدل السياسي حول مسببات وحصاد الحرب. ومن ثم فإن مشكلة مثل هذه الدعوات المدنية تجيء من الخارج، حيث يحد البعد المكاني من تأثيرها المباشر في مجرى الأحداث، وإن تكن الضرورة إليها لا تقل أهمية، كصوت مسموع في الخارج قد يؤثر في دوائر القرار الإقليمي والعالمي، مهما تكن الشروط المتوقع إملاؤها من قبل تلك الدوائر، وهذه مؤثرات لا تكون القوى السياسية التي تعمل من وراء الحدود كمعارضة الخارج. ولكن من أبرز ما حملته الأخبار، العودة إلى منبر جدة والمفاوضات برعاية المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، التي بدأت في بدايات الحرب في مايو الماضي. وباستئناف المفاوضات في جدة بعد توقف امتد شهورا، ولم يحدث أي اختراق يصب في مصلحة إيقاف نزيف الحرب غير التوقيع بالأحرف الأولى وهدن لوقف إطلاق النار متقطعة، لم يلتزم بها أي من الطرفين، ما أدى إلى تعليق المفاوضات، ولكن يبقى منبر جدة مركزا فاعلاً من بين كل المنابر، على الرغم من بطئه في مسار التفاوض. ومع أن المراقبين يستبقون التنبؤ بما تحمله المفاوضات قبل انطلاقها من جديد، خاصة أن ما رشح من شروط الوفدين في الفضاء الإعلامي العام قد يعقد ويزيد من مسافة الاختلاف والتوافق. وإذا كانت مفاوضات السلام تتعلق تقليديا بالموقف على الأرض، فإن الحالة السودانية لا يمكن أن يقاس عليها في حدود الحرب الأهلية المفتوحة واسعة الدمار. يأتي وفدا التفاوض للجلوس المتباعد ويعلمان حجم ما تم ارتكابه من جرائم تخطت وحشيتها كل بشاعات حروب السودان. وليس من موقف يقوي موقف أي من الفريق سوى نتائج الحرب المخزية، والواقع أن الموقفين لم يتغيرا من حيث شرعية الجيش ممثل الدولة، والدعم السريع القوة المتمردة بوصف الدولة التي تنازع الجيش، ومن ورائه تحالف الإسلاميين من زمرة النظام البائد.
والعودة للتفاوض من قبل الطرفين كما صرحا استكمالاً للمحادثات المتوقفة، من دون أن يبدي أي طرف استعداده لوقف إطلاق النار. ويشدد الجيش على أن استئناف المفاوضات لا يعني التوقف عن (معركة الكرامة) التي يقودها ضد قوات الدعم السريع الذي بدوره رحب بالعودة إلى التفاوض. ومع حصر مفاوضات جدة على العسكريين من الطرفين، من دون انضمام المدنيين، أو ضمهم لاحقاً كما تفيد التقارير، فإن انتقال مؤثرات الميدان ستجد تأثيرها المباشر، من دون توسط مدني على أجواء التفاوض. والجديد انضمام الاتحاد الافريقي و»إيقاد» الهيئة الحكومية للتنمية لدول شرق افريقيا، ما يعيد الخشية من الموقف الحكومي لوفد التفاوض الذي رفض تدخل الجانبين سابقا. تأتي مشاركة هذه المنظمات الإقليمية في المفاوضات بما يؤشر لاحتمال تركيزها على الجانب الإنساني كأولوية قصوى، وعليه لا يتوقع أن تقوم بالضغط السياسي المطلوب على الوفدين لمحدودية إمكانياتها بالمقارنة مع الدولتين الراعيتين للمفاوضات. وبصرف النظر عما يمكن أن يحققه من الناحية العملية دور المنظمات الإقليمية يبقي دوراً مطلوباً على الأقل من الناحية الجيوسياسية والإنسانية للسودان.
وتبقى المفاوضات إحدى الوسائل لإنهاء حالة الحرب، كما صرح الجيش في بيانه، وما يفهم من سياق التصريح فإن الآلة العسكرية لم تعد تنجز أكثر من سقوط المزيد من الضحايا، الذين فاق عددهم غير المؤكد تسعة آلاف ضحية نتيجة للاشتباكات العنيفة وسط وجود المدنيين. فأي ما تكن طبيعتها من حيث تصنيفها فنياً كتفاوض مباشر أو عبر وسطاء، فقد أصحبت الحاجة إليها ملحة، فبغير دواعيها الإنسانية يبدو أن الطرفين أنهكتهما المعارك العبثية واستنفدت القوة والهدف من حرب تفقد بوصلتها العسكرية والسياسية. والتفاوض للبحث عن سلام وسط ركام ما خلفه دمار الحرب يفرض على الطرفين التوقف عن حملات الإبادة التي يشنها الكل ضد الكل، والعمل الجاد على قبول شروط السلام وليس نتائج الحرب. إن طبيعة الملفات التي سيناقشها المفاوضون تتطلب تكيفاً مع واقع وموازين كل من الطرفين وموقفه من إنهاء الحرب كأولوية قصوى، وحسب الوقائع العسكرية، لم يستطع أي طرف تحقيق ما يقوي موقفه في التفاوض على أساس إملاء الشروط واجبة التنفيذ. والملفات المطروحة في مسار التفاوض، حسب تصريح نائب رئيس مجلس السيادة السوداني مالك عقار فصل القوات والعملية الإنسانية، ومعالجة قضية الحرب بدمج (الدعم السريع) وإنشاء جيش واحد، والعملية السياسية القائمة بالاتفاق على الدستور وكيفية الحكم في السودان، وهي في مجملها كانت محل خلاف بين الطرفين، وليس من المحتمل التوصل إلى اتفاق بشأنها في هذه الجولة من التفاوض. وعلى الرغم من مضامينها السياسية الفضفاضة، لن تتحول إلى نصوص يمكن قراءتها على ضوء التدخل المؤكد من الأطراف الأخرى في تعديلها إن لم تكن هي من وضعها! إن قضية معالجة الحرب أول ما تؤشر إليه في أبجدية التفاوض وقف إطلاق النار تمهيداً لتطبيق ما قد يتفق عليه لاحقاً من بنود تتفاوت أهميتها وفقاً لأجندة الطرفين. وبما أن أطراف التفاوض ذات خلفيات عسكرية قتالية، فإن التركيز المحتمل على ملف العلميات العسكرية على حساب الجوانب الإنسانية، وما تداعى عنها نتيجة للحرب وليس التفاوض.
وللخروج من مأزق الأزمة السودانية التي تسبب فيها الطرفان يلزم المفاوض السوداني (الجيش، والدعم السريع) بأن التعامل مع قبول مبدأ التفاوض يحتم الانتقال إلى مرحلة أخرى لها وسائلها وطرقها، التي تقتضي ضرورة المرحلة التعامل معها بعقل مفتوح. فالتفاوض مظلة يندرج تحتها كل ما من شأنه فتح مسارات للسلام من بناء للثقة وفض للنزاعات، ووقف للعدائيات وغيره مما راكمته التجربة الإنسانية في إدارة التفاوض وأصبح ما يعرف بعلم فض النزاعات Conflictology كآلية مثلى
متبعة لمرحلة ما بعد الحرب. فإن النهاية التي ستنتهي إليها الحروب في خاتمها ينبغي أن تكون أولى خطوات إنهاء الحرب وفرض السلام، إن لم يكن بقوة المؤثرات الخارجية فبضرورة الحاجة الإنسانية والوطنية.
كاتب سوداني
نشر بصحيفة القدس العربي اللندنية# عدد اليوم 02/11/2023

nassyid@gmail.com

 

آراء