عام جديد
بسم الله الرحمن الرحيم
8 يناير 2016
لقد انقضى عام 2016، وما زلنا نمني النفس بزوال نظام البشير الذى جثم على صدر الشعب السوداني وكتم أنفاسه لسبع وعشرين سنة، وحول بلادنا إلى أشلاء ممزقة وأفلسها وأحالها لضيعة خاصة به وبأشقائه وأزواجه ورهطه الأقربين وسائر صحبه من الإخوان المسلمين، ودمر بناها التحتية ومؤسساتها الإنتاجية، وخرّب التعليم، وأضرم نيران الفتن المناطقية والحروب الإثنية بكافة أطرافها، وباع الأراضي للصينيين والمصريين والأعراب من كل شاكلة ولون، بثمن بخس ذهب لجيوب السماسرة والمخبرين والعاهرين سدنة النظام؛ وانهار الإقتصاد وتدهورت الحالة المعيشية إلى درجة لم تشهدها البلاد منذ قرن من الزمان، وبلغت صحة البيئة الحضيض على يد هذا النظام الفاشستي العشوائي المدمر، وتفشت الأمراض المزمنة، وهاجرت الكوادر القيادية والوسطية والدنيا إلى القبل الأربع، وتآكلت حدودنا مع الجيران بسبب ضعف الحكومة وانبطاحها أمام الغزاة والمتحرشين والطامعين، وأمام كل من يهدد بقاءها وكل من تحسب أنه ذو شوكة عسكرية أو اقتصادية، وامتلأت البلاد حتى الثمالة بكل أنواع المهاجرين الإقتصاديين والسابلة الهائمة على وجوهها والعابرة للحدود من الصين وإرتريا وإثيوبيا وسوريا والهلال "الخصيب" ومصر وتشاد وإفريقيا الوسطى وغيرها، بتخطيط استراتيجي توسعي شرير محدد ومسبق...أو بغير تخطيط. وباختصار، أصبح السودان قاب قوسين أو أدني من نموذج الصومال واليمن وليبيا.
وعلى الرغم من كل ذلك، ما زلنا نعافر ونمني النفس بالإنتصار على هذا النظام القابض بخناق الشعب، وما برحت جذوة المقاومة متقدة ولم تنطفئ فى أي يوم من الأيام، وكان آخر تجلياتها العصيان المدني الأخير بنهاية نوفمبر و19 ديسمبر، مما هز النظام ورجه رجاً وجعل فرائصه تتراقص وأفقده الهيبة تماماً، فأصبح قادته يهذون (يهضربون) كأنهم مصابون بالملاريا، وفقدوا بوصلتهم واستحالوا إلى قشة فى مهب الريح. وبينما يتأرجح المد الثوري الشعبي بين الصعود والهبوط، يتقلب النظام بين تكتيكات التظاهر بتغيير توجهاته وبين التمسك بها فى واقع الأمر، ويتجلي ذلك فى حديثه عن الانفتاح والحوار المشفوع بالمماطلة وعدم الإلتزام بمقررات و"مخرجات" ذلك الحوار؛ وإزجاء الوعود البراقة بالمرونة والإصلاح والتغيير من ناحية، وتشديد القبضة الأمنية وملاحقة المعارضين والتنكيل بهم داخلياً وخارجياً من الناحية الأخرى. ومهما بلغت الحركة الجماهيرية من قدرات وانجازات، يجب ألا نقلل من خطورة النظام وقابليته للغدر والتملص من العهود وشراء الذمم والفت فى عضد المعارضين، وباختصار تلك الخطورة التى مكنته من البقاء لأكثر من ربع قرن على الرغم من كراهية الشعب له وعلى الرغم من تردي الحالة المعيشية والمعاناة اليومية التى ظل الشعب يرزح تحتها طوال هذه السنين. ولكن ولحسن الحظ فإن الحقائق المحيطة بالنظام محلياً وإقليمياً ودولياً تشير إلى استحالة استمراره أكثر من ذلك، وإلى أن عصراً جديداً يطل بملامح مغايرة للإيديولوجية الإسلاموية التى ظل يتدثر بها نظام البشير، وإلى أننا قد وصلنا إلى قاع الهوة التى ساقنا لها نظام الإخوان المسلمين، ولن تكون الحركة بعد ذلك إلا صعوداً إلى أعلى للخروج من تلك الهوة. فما هي الصورة على النطاق المحلي والإقليمي والعالمي؟
• محلياً، ظل الشعب منتشياً منذ 27 نوفمبر بما حققه من نقاط ضد النظام خلال العصيان المدني، وظل متعاطياً منتظماً لوسائط الإعلام الإجتماعي المترعة بالمعلومات التى غيبها عنه الإعلام الرسمي، وأصبح ملماً بتفاصيل الفساد المالي والإداري وبالسرقات التى ولغ فيها زبانية النظام بنهم وتكالب غير مسبوق، على طريقة (دار أبوك إذا خربت شيل ليك منها شلية)، وتمكن من التواصل مع كوادر وقادة المعارضة المقيمين بالداخل وبالخارج، ومن التثاقف والمحاورة معهم حول التكتيكات الهادفة لعبور المرحلة – مرحلة التخلص الناجز من النظام وعقابيله وإرساء قواعد الحكم الإنتقالي بكافة آلياته وبرامجه ونظمه وقوانينه وشخوصه وتوجهاته. ولقد بذل النظام أقصى ما يستطيع من جهود لإسكات صوت الجماهير الذى انبجس من فوهات الإعلام الإجتماعي، ولكنها جهود فاشلة بلا ريب، كمن أراد أن يوقف الريح أو يمنع الشمس من الشروق. وبينما تستعد الحركة الجماهيرية للجولة القادمة الفاصلة مع النظام، نلفاها تنهل وتروم الاستفادة من تجربة العصيان بالشهرين المنصرمين، وتتحسس خطاها وسط الألغام الكثيفة التى زرعها النظام بكافة الطرق المؤدية للقصر الجمهوري بالخرطوم.
• وإقليمياً، بدا النظام وكأنه قد اكتسب رضاء ودعم القوى الكبري بالمنطقة مثل العربية السعودية، وبدا كأنه قد حصد نتائج إشتراكه فى عاصفة الحزم فى شكل ودائع هائلة وحقنات مالية بعثت الحياة مجدداً في الإقتصاد وفى الجنيه السوداني، بالإضافة للتعاون الأمني الذى تم بموجبه محاصرة بضع معارضين عاملين بالسعودية والتهديد بإرسالهم للسودان. هذه أشياء لا يسندها المنطق، وهي مبنية على غسيل الدماغ والتضليل والمعلومات المغلوطة disinformation التى تفنن فيها نظام الإخوان المسلمين طوال تاريخه فى الحكم. إن أي تقارب مع هذا النظام الإخواني يصب في مصلحة تنظيم الإخوان المسلمين الدولي وحليفته إيران وأختها الماكرة تركيا رجب طيب أردوغان الممسك للعصا من منتصفها والذى دخل معظم الدواعش لسوريا والعراق عبر حدوده الجنوبية، بينما يدعي مناهضته للدولة الداعشية التى انقلبت عليه مؤخراً كأنها جن أخرجه من القمقم أردوغان نفسه. إن نظام البشير نظام إنقلابي تماماً كنظام الحوثيين المتحالف مع فلول على عبد الله صالح ومع الدولة الشيعية الكبري بالمنطقة – إيران، ويقوم بنفس الدور الذى يلعبه الحوثيون في اليمن، وهو تدمير وتقسيم الدولة وتوطين عدم الإستقرار فى ربوعها والتعدي على الجيران خدمة لأهداف وأطماع أجنبية يستبطنها نظام الإخوان المسلمين الدولي وحليفتاه. وإن تظاهر نظام البشير بقطع علاقته بإيران مجرد تقية تعلمها من الإيرانيين أنفسهم بغرض استدراج الدول المستهدفة من جانب إيران لتصبح طرفاً ممولاً لنظام كثير التشوهات ومتعدد الحروبات الداخلية – نظام الإخوان بالسودان - كنوع من الإرهاق لتلك الدول المانحة، بنفس الطريقة التى تتم في اليمن، وكنوع من الإستنزاف المستمر لتلك الدول التى ما فتئت تعاني كذلك من الآثار المترتبة على الحرب الأهلية السورية وعلى الوجود الداعشي بسوريا والعراق. وفى نهاية التحليل فإن الكف عن دعم نظام البشير هو الذى يخدم أجندة القوى المستهدفة من تنظيم الإخوان الدولي وحليفتيه، أجندة السلام والإستقرار وحسن الجوار والتقدم الإقتصادي، التى تجسدها السعودية والدول الخليجية المستقرة الأخري الجالسة على مقربة من فوهات المدافع الإيرانية والإخوانية.
• ودولياً، ثمة نظام عالمي جديد يبشر به دونالد ترامب ذو التوجه اليميني المنفلت: فقد أعلن إبان حملته الإنتخابية أنه سيحارب الدواعش بأسلوب جديد قد يتضمن التعاون مع نظام حافظ الأسد وروسيا وإيران - استدعاءً للبرجماتية اليانكية ضاربة الجذور في السياسة الخارجية الأمريكية، أي الغاية تبرر الوسيلة؛ كما أعلن فى تلك الحملة أن إدارته ستطالب الحلفاء مثل اليابان والسعودية بأن تضطلع بفواتير الدفاع عن نفسها، حيث أن الأوضاع فى نظر ترامب ما عادت كما كانت عليه قبل انهيار المعسكر الإشتراكي ونهاية الحرب الباردة. ولقد أومأ ترامب كثيراً إلى أن الولايات المتحدة سوف تستعيد سطوتها وعظمتها التى اضمحلت بسبب فترات حكم الحزب الديمقراطي – تحت رئاسة جيمي كارتر وبل كلنتون وباراك أوباما. وباختصار، يريد ترامب أن يعيد عقارب الساعة الأمريكية لزمان كانت أمريكا تتحكم إبانه فى أجزاء كثيرة من العالم على الرغم من الكوابح التى كان يضعها أمامها المعسكر الإشتراكي بقيادة الإتحاد السوفيتي. فما هي معالم تلك الهيمنة الإمبريالية الأمريكية – باكسا أمريكانا - التى يحلم باسترجاعها اليمين الجديد بقيادة ترامب؟
• إنها ببساطة بعث الروح فى الإمبريالية الأمريكية التى تعني فيما تعنى إنعاش الوضع الإقتصادي الداخلي وتحسين معيشة الطبقة الوسطي الأمريكية بتنشيط الصناعات العسكرية وباستغلال الشعوب الأخرى التى يمكن استغلالها. وأول مظاهر ذلك الإستغلال عدم الإلتزام باتفاقية التجارة الدولية التى أنصفت الدول الأخرى المتعاطية تجارياً مع الولايات المتحدة، بحيث لا تصبح مجرد أجرام تحلق فى الفضاء الأمريكي بذيلية مطلقة، تمده بالمواد الخام بأبخس الأثمان، وتستقبل منتوجاته الصناعية وتستهلكها وتتماهي مع الثقافة المصاحبة لها، الثقافة الإستهلاكية الأمريكية. ومن مظاهر تلك الهيمنة المزعومة البعث الجديد للمؤسسة الإستخبارية التى أطلقت آلاف الكوادر الجيمس بوندية فى كافة أرجاء العالم لتمارس الإغتيالات السياسية وترتب الإنقلابات العسكرية وانقلابات القصور وتتحكم في عشرات الأنظمة حول العالم كما كان يحدث فى الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، منذ أيام جون فوستر دالاس وزير خارجية الرئيس دوايت آيزنهاور وشقيقه ألان دالاس مدير المخابرات المركزية، أولئك القوم الذين دبروا الإنقلاب الذى أطاح بحكومة الدكتور مصدق المنتخبة فى إيران عام 1953، والإنقلاب الذى أطاح بكل من أحمد سوكارنو في إندونيسيا ليحل مكانه العميل الأمريكي سوهارتو عام 1965، والإنقلاب الذى أطاح بسلفادور أللندي في تشيلي عام 1973، ....إلخ.
• وفيما يختص بالسياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، فإن التاريخ الذي يحاول أن يستدعيه ترامب مشحون بالتآمر والتدخل السافر والمستتر، كما تجسد فى دخول القوات الأمريكية للبنان عام 1958، ثم دخولها فى العراق عام 2003. والمعروف أن الإخوان المسلمين كانوا حلفاء وعملاء للولايات المتحدة طوال الحرب الباردة وحتى سنوات قليلة خلت، ولقد استخدمتهم الإمبريالية الأمريكية في حربها ضد الأنظمة التقدمية بالمنطقة مثل نظام جمال عبد الناصر. ولكن حظوظ الإخوان بهذه المنطقة لم تكن دائماً جيدة، فقد تصدت لهم وقاومتهم الشعوب المتشبعة بالثقافة الوطنية وبالمعاني الإسلامية الصحيحة، كما حدث فى مصر في يونيو 2013، وكما يحدث الآن في السودان بدءً باعتصام نوفمبر المنصرم. وعلى كل، ما انفك الإخوان المسلمون بكافة تجلياتهم وتفريعاتهم يشكلون عوامل زعزعة بكل الشرق الأوسط، من شمال إفريقيا إلى غربها، وإلى السودان حيث يجلسون على سدة الحكم، وإلى مصر حيث يحاولون القضاء على نظام السيسي، وإلى سوريا والعراق واليمن وكافة أرجاء الجزيرة العربية التى يخططون لإعادتها لزمن الخلافة بالطريقة الطالبانية / الداعشية.
• ولكن الأحلام التي جاء ترامب متمنطقاً بها من حملته الإنتخابية ليست قابلة للترجمة على أرض الواقع، فلقد أخذ الكنقرس يتشكك في هذا القادم الجديد، بمن في ذلك قادة الحزب الجمهوري مثل جون ماكين، خاصة فى أعقاب الفضيحة الأخيرة المتعلقة بالتدخل الإسفيري الروسي فى الانتخابات الأمريكية التى كشفت عنه النقاب الأجهزة المخابراتية الأمريكية. ولقد تردد فى الصحافة الأمريكية أن الكنقرس لن يوافق على بعض الترشيحات للحقائب الوزارية المرتقبة، خاصة المرشح لمنصب الخارجية المتهم بعلاقات حميمة بالرئيس الروسي بوتين. وبالإضافة للكنقرس، فإن مجموعات الضغط العاكسة لتوجهات اليسار الأمريكي سوف تعمل على كبح جماح الترامبيين وعلى إلجام الأتجاهات العدوانية والتآمرية والإمبريالية التى بشر بها دونالد ترامب. وكذلك، فإن المصالح الأمريكية نفسها وتوازن القوى العالمي سوف يجعل تخطى دولاً هامة مثل اليابان والصين والسعودية أو الاستخفاف بها وفرض الأجندة الأمريكية عليها من الصعوبة بمكان.
• أما فيما يختص بالسودان، فإن أهله لن ينتظروا الإدارة الأمريكية لتمن عليهم بالحل المناسب لأزمتهم، ولكنهم، كما فعل المصريون قبلهم، سوف يندلقون للشوارع عما قريب ويفرضون على أرض الواقع الحل الذى يرونه لتلك الأزمة. وعما قريب سوف يذهب نظام البشير إلى مزبلة التاريخ ومعه كل المآسي والحروب والفتن والأكاذيب التى ظل يسد بها الآفاق لنيف وربع قرن من الزمان.
والسلام.
fdil.abbas@gmail.com