السودان في مأزق مخيف !!

 


 

 

لم يتبق شيء من ثورة ديسمبر إلا إسمها وما سطر شعراؤها، وجذوتها المتقدة في قلوب مفجريها الذين أطبقت عليهم الحيرة وألجمت ألسنتهم علامات الاستفهام المتعددة، وهم يرون ثورتهم تتحنّط وتتبخّر وتنزلق من بين اصابعهم لتصبح ملكاً عضوداً.....بفعل من تسلّل إلي قيادتها من ممثلي الأحزاب، مثل حزب الأمة وبعث الشيخ السنهوري وغيره من (أحزاب الفكه)؛ثم أخذ هؤلاء يضعون أيديهم في يد القوي الرجعية، إلي أن تكللت تلك الجهود بالطامّة الكبري – اتفاق جوبا – الذي شرعن المحاصصة في كل شيء، مستخفاً بالوثيقة الدستورية التي نصت علي جهاز تنفيذي من التكنوقراط المحايدين غير الملوثينً من قبل النظام المقبور، وعلي مجلس رأس دولة تشريفي مناصفة بين العسكريين والمدنيين، ورئاسته بالتداول بينهما؛ ولقد بني هذا الباطل علي باطل آخر - اتفاقية جوبا المخالفة لنص وروح الدستور الانتقالي، والتي لم تتم استشارة الشعب السوداني حولها، ولم تشمل قوي حقيقية حاملة للسلاح ومقيمة فوق أراضيها المحررة بجبال النوبة وجبل مرة، بقيادة الكماندر عبد العزيز الحلو والمناضل عبد الواحد محد نور.
وهكذا، تولت البلاد منذئذ حكومة هزيلة ناتجة عن محاصصات وترضيات وتوازنات سياسية ومناطقية وإثنية وحزبية وقبلية جاءت بعد شهور من اللت والعجن والمجابدة، (وجاءت فيما جاءت بسبعة وزراء من قبيلة واحدة – الزغاوة – غض النظر عن مؤهلاتهم وتاريخهم النضالي)، وأصبح ذلك هو الديدن لكافة أنواع القرارات البنيوية الهيكلية والمتعلقة بالسياسات والتكتيكات المرحلية والاستراتيجية، (مثل خيار الارتباط بفكر وتطبيقات اللبراليين الجدد ربائب الاستعمار الغربي، ومثل عقد الصفقات وبيع الإقطاعيات الضخمة لدول أجنبية ليست بالضرورة صديقة لشعب السودان)، مما جعل الجرجرة طقس دائم، وأربك أداء الحكومة بمجلسيها، وأصابها بالتلكؤ والتكلّس والكساح والتخبط والعجز: (حقيبة وزير التربية مثالاً التي ظلت شاغرة منذ ما يقرب العام).
وتجأر وتزمجر العديد من الحناجر مطالبة بتكوين المجلس التشريعي باعتباره المنقذ من ضلال الحكومة والمكون العسكري، والعائد بسفينة الثورة لمجراها الحقيقي. وتلك فرية كبري وفخ نصبته قوي الثورة المضادة ودفعت نحوه القوي التي وجدت نفسها صاحبة الثقل بالهياكل القائدة للوضع الانتقالي:
• فهذا المجلس المزعوم سيأتي مثله مثل الحكومة الراهنة ومجلس السيادة ولجنة آلية حمدوك، نتاجاً للمحاصصة البغيضة التي فعلت بنا ما فعلت حتي الأن، وعطلت سير الثورة، بل اختطفتها بالكامل.
• أي مجلس غير منتخب بالضرورة غير ديمقراطي ولا يمثل إرادة الشعب.
• إنه مجرد استفحال للترهل الموجود: أعداد خرافية من الدستوريين يزحمون الأفاق دون مردود محدد في شكل تحسين أحوال الناس المعيشية ورفع الضائقة وتنفيذ مطلوبات ثورة ديسمبر. (لا شغل ولا مشغله).
وحتي لو تمت أي انتخابات في الظروف الفوضوية الهلامية الراهنه، وفي وجود الدولة الكيزانية العميقة بشحمها ولحمها، وفي غياب الأحزاب المحدّثة التي نقدت نفسها واستفادت من أخطائها، والمتكئة علي المؤسسية، باستثناء المؤتمر السوداني الذي جاءت قياداته بالانتخاب الديمقراطي وفقاً للعطاء النضالي، (والذي، علي كل حال، تؤخذ عليه الطبزة الكبري، أي الاشتراك في حكومة المحاصصة الراهنه، غاضاً الطرف عن المخالفات الدستورية المذكورة)، فإن العواقب ستكون غير سليمة وليست في مصلحة الثورة بأي حال من الأحوال، بل هي قفزة في الظلام فد تأتي بمجلس تشريعي يكون أول قراراته مد الفترة الانتقالية لعشر سنوات، لاستدامة أوجاعنا، وهذا ما ظل يهمس به بعض (المكنكشين)، من النوع الذي قام من نومه ولقي كومه.
والحالة هذه، يتساءل الوطنيون الحادبون والمراقبون عن المصير الذي ينتظرنا:
• إذ أن الانقلاب العسكري بالطريقة التونسية غير وارد، فجيشنا ليس علمانياً كالجيش التونسي، والذي قاد الانقلاب هناك رئيس جمهورية منتخب من الشعب انصاعت له وتناغمت معه القوات المسلحة؛ أما جيشنا فهو ما زال إقطاعية رأسمالية كبري تحت سيطرة الإخوان المسلمين الذين يشكلون غالبية ضباطه العظامtop brass بل ورتبه المتوسطة والصغري، وكذا الحال بالأجهزة المصاحبة مثل الأمن والاستخبارات.
1. وهل يمكن أن يحدث انقلاب عسكري بالرغم مما ذكرنا أعلاه؟
فعلاً، من المحتمل أن تقوم به كتيبة واحدة تشبه المارينز الأمريكية، عالية التدريب وممتازة التسليح وقوية التوحيد حول عقيدة عسكرية محددة؛ ولا ننسي أن الإخوان المسلمين استولوا علي السلطة في 30 يونيو 1989 بنيف ومائة مجند وأربع دبابات صلاح الدين وبضع حاملات للجنود. المهم في المؤامرة هو التوقيت والمباغته والسرية الكامله والعملية التمويهية. وعلي ذلك، قد تفكر جهة ما في (إنقاذ) السودان مرة أخري، فتقدم علي خطوة من هذا القبيل وتدّعي أنها تمثل القوات المسلحة بكل فروعها، وقد تنطلي علينا للمرة العاشرة، فنحن قوم طيبون، نقول: (المؤمن صديق "بكسر الصاد وتشديد الدال"، ونقول: المؤمن إذا خدعنا لانخدعنا له).
2. وتزعم بعض القوي الحية، وقد كنت طرفاً في فعالية من هذا القبيل: التغيير بمعني الاصلاح من الداخل ممكن، فقط علينا تحريك الشارع من خلال النقابات الشرعية ولجان الأحياء المضمونه؛ ولكنا إن فعلنا ذلك وجمعنا الحشود كما حدث يوم ثلاثين يونيو الماضي، فإن الشارع سوف ينقسم علي الفور بين الداعين لإسقاط النظام برمته، والداعين لترميمه فقط، وبالأطراف مجموعات السابلة غير المسيّسة التي لا تعرف ماذا تريد تماما. ومن ناحية أخري فإن تجميع لجان الأحياء والنقابات الشرعية وفرزها وتنظيمها سوف يستغرق شهوراً عديدة، بينما تواصل أحوال الناس المعيشية في التردّي، حتي بتنا علي شفا مجاعة مثل تلك التي ضربت منطقة الساحل الغرب إفريقي (خاصة دارفور) عام 83 و19084 والتي ضربت الصومال وأوقادين وإقليم التقراي حالياً.
3. لا أري حلا منطقيا يخرجنا من عنق الزجاجة إلا بعقد مؤتمر استثنائي فوري لقوي الحرية والتغيير مرفوداً بالشخصيات الوطنية المعروفة بمقاومتها لنظام البشير لآخر لحظة، بحضور المكون العسكري، للاتفاق علي الأتي:

• إلغاء اتفاقية جوبا ومعاملتها كأن لم تكن، والعودة لليوم السابق لتوقيعها، وبالتالي إلغاء كل التعيينات التي تمت بموجبها، والدعوة لمؤتمر سلام شامل جديد بالداخل.
• تكوين حكومة ومجلس رأس دولة رشيقين، وتعيين كل الوكلاء والمدراء الجدد في دولاب الحكم قبل انفضاض المؤتمر.
• القيام فوراً بإرسال المطلوبين إلي محكمة الجنايات الدولية بلاهاي، وعقد محاكم عسكرية إيجازية لمن تبقي من رموز نظام البشير، والإعلان الفوري لنتائج التحقيق في مجزرة فض الاعتصام وتقديم المسؤولين عنها للمحاكمة قبل فض المؤتمر.
• إعلان سياسة اقتصادية إسعافية جديدة واجراءات تقشفية خاصة بالمناصب الدستورية.
علي كل حال، لن تستمر الأمور بطريقتها الراهنة لوقت طويل، ومن المؤكد أن الإنقلاب العسكري يلوح في الأفق، فهلا استبقناه بإجراءات ثورية مثلما أوردنا أعلاه. والسلام.

fdil.abbas@gmail.com

 

آراء