السودان والتطبيع مع اسرائيل.. مكر العسكر ومأزق المدنيين

 


 

رشا عوض
7 February, 2023

 

فرض ملف تطبيع العلاقات السودانية الإسرائيلية نفسه على أجندة الفترة الانتقالية منذ اللقاء السري بين رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في عنتبي بيوغندا في فبراير 2020 دون علم الحكومة الانتقالية، ذلك اللقاء الذي علم به الرأي العام السوداني من خلال الصحف الاسرائيلية وتغريدات نتنياهو على تويتر.
في إطار مساعي حكومة د. عبد الله حمدوك لرفع العقوبات الأمريكية عن السودان برز ملف التطبيع مجددا من خلال ربط الادارة الامريكية بقيادة الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب بين الملفين: التطبيع ورفع العقوبات، ومورست ضغوط امريكية كثيفة على حكومة حمدوك كانت محصلتها اتفاق السودان واسرائيل على تطبيع العلاقات وإنهاء حالة العداء بينهما عبر محادثة مشتركة ضمت الرئيس الامريكي دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك يوم الجمعة الموافق 23 اكتوبر 2020 إذ اتفق القادة الاربعة على أن تجتمع الوفود للتفاوض بشأن اتفاقيات التعاون في مجالات التكنولوجيا والزراعة والطيران وقضايا الهجرة وغيرها لصالح الشعبين. واتفقت الولايات المتحدة وإسرائيل وفقا للبيان المشترك على الشراكة مع السودان في بدايته الجديدة وضمان اندماجه بالكامل في المجتمع الدولي. وبحسب البيان تعهدت الولايات المتحدة بمساعدة السودان لاستعادة الحصانة السيادية (تحصين الدولة من اي قضايا تطالبها بدفع تعويضات لضحايا الإرهاب في احداث كانت الحكومة السودانية ضالعة فيها عندما كان السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب)، كما تعهدت أمريكا بإشراك شركائها الدوليين لتقليل أعباء ديون السودان ، بما في ذلك دفع المناقشات حول الإعفاء من الديون بما يتفق مع مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون(الهبيك). وعلى هذه الخلفية تم التوقيع رسميا على إعلان اتفاقيات إبراهيم(الاسم الذي يطلق على اتفاقيات السلام الموقعة بين إسرائيل والدول العربية) في يونيو 2021 بواسطة وزير العدل الدكتور نصر الدين عبد الباري أثناء زيارة وزير الخزانة الأمريكي حينها ستيفن منوشين إلى الخرطوم.
عاد ملف التطبيع بقوة الى واجهة الأحداث بعد زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين للخرطوم الخميس 2 فبراير 2023 ولقائه برئيس مجلس السيادة الانقلابي عبد الفتاح البرهان، وهو اول لقاء يتم بصورة معلنة رسميا ومن نتائجه حسب الوزير الاسرائيلي تحويل “لاءات الخرطوم الثلاثة” الى نعمات بواسطة البرهان. بالطبع البرهان فعل ذلك في سياق بحثه عن توطيد أركان مشروعه الانقلابي، وقد سبقه الى هذا المسلك نظام عمر البشير في سنواته الاخيرة بعد ان قلص نفوذ العناصر الاسلاموية الموالية لإيران لدرجة إغلاق المراكز الثقافية الايرانية وطرد السفير الإيراني، فتواترت الزيارات السرية التي تفضحها الصحف الاسرائيلية لعناصر مدنية وأمنية من الخرطوم الى تل ابيب في عهد البشير سعيا وراء الرضا الامريكي عبر التطبيع، كما تواترت زيارات ولقاءات قيادات “الدعم السريع” مع الدولة العبرية أثناء الفترة الانتقالية، والقاسم المشترك بينهم جميعا(نظام البشير والمكون العسكري في الفترة الانتقالية) هو الاستقواء بإسرائيل لتوطيد دعائم الحكم العسكري المستبد في السودان.
الخلل المنهجي في إدارة ملف التطبيع في الفترة الانتقالية:
كانت حكومة حمدوك منقسمة على نفسها في ملف التطبيع تبعا لانقسام الحاضنة السياسية للحكومة ممثلة في “قوى الحرية والتغيير” حول الملف، فأحزاب الأمة والبعث والشيوعي عارضته بقوة عبر بيانات شديدة اللهجة، فيما أمسك رئيس الوزراء العصا من المنتصف ولم يكن له خطاب سياسي واضح للدفاع عن التطبيع الذي انخرط فيه بخطوات عملية هو ووزير عدله نصر الدين عبد الباري. القوى الاسلاموية دخلت على الخط بقوة رافعة شعارات معاداة الصهيونية بنبرة تزداد حدتها ضد اي تحرك نحو التطبيع من المدنيين وتخفت هذه النبرة وتنزوي تماما أمام خطوات العسكر في ذات الاتجاه.
برصد ردود أفعال القوى السياسية الرئيسة على خطوات التطبيع ايام حكومة حمدوك يتضح ان العقل السياسي السوداني للأحزاب التقليدية يمينا ويسارا ما زال أسيرا لحقبة الستينات ومؤتمر “اللاءات الثلاثة” ، كما يتضح القصور الكبير لهذا العقل في فهم تحديات الفترة الانتقالية وإدراك تعقيدات التركة الثقيلة التي اورثها النظام الاسلاموي للسودان. اخطر ما في هذه التركة الإنقاذية إدخال الدولة السودانية كطرف مباشر في صراعات دولية واقليمية منذ تكوين ما يسمى بالمؤتمر الشعبي العربي الاسلامي الذي كان منصة لانطلاق المعارضة للاستكبار الامريكي والصهيوني-على حد زعمهم- ، واستضافة السودان لأخطر الرموز الإرهابية في المنطقة، وبناء حلف سياسي وعسكري مع ايران كان من نتائجه تهريب شحنات من الأسلحة عبر الأراضي السودانية الى حركة حماس في قطاع غزة، واكثر من مرة تدخل الطيران الإسرائيلي وقصف أهدافا داخل السودان منها عدد كبير من الشاحنات المحملة بالاسلحة في شرق السودان وقد كانت في طريقها الى مصر ثم غزة، ومنها مصنع اليرموك، وبهذا أصبحت الدولة السودانية بأجهزتها الامنية والعسكرية ومنظومة صناعاتها الحربية المرتبطة بايران في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، ومنذ عام 1997 فرضت الولايات المتحدة الامريكية على السودان عقوبات اقتصادية على خلفية دعمه للارهاب وضلوعه في تفجير سفارتي أمريكا في نيروبي ودار السلام عام 1994.
ورثت حكومة الفترة الانتقالية خزينة خاوية على عروشها واقتصادا منهارا وحفرة ديون عمقها 60 مليار دولار، وعقوبات مزمنة بسبب الإرهاب، ورئيس امريكي(دونالد ترامب) منحاز لاسرائيل وربط بين رفع العقوبات والتطبيع مع إسرائيل، فضلا عن وجود مكون عسكري طامع في السلطة يتنافس طرفاه (الجيش والدعم السريع) على التطبيع وبناء علاقات قوية مع اسرائيل لحصد مكاسب في ميدان العلاقات الخارجية وتوظيف هذا الكرت (التطبيع) في الصراع على السلطة مع المكون المدني، في ظل هذه المعطيات، فإن مصلحة السودان الوطنية ممثلة في رفع العقوبات الأمريكية وإنجاح الانتقال المدني الديمقراطي كانت تقتضي القبول بالتطبيع لتجريد المكون العسكري من هذا الكرت في الصراع السياسي مع المدنيين، والأهم من ذلك هو ان ملف التطبيع نظرا لخطورته وتعقيداته يجب ان يدار بواسطة القوى السياسية الوطنية، وبصورة مؤسسية وشفافة، لا أن يترك كورقة مساومة يتلاعب بها العسكر في الظلام لتقويض التحول الديمقراطي، ولتمرير صفقات لحساب الأفراد لا لحساب الدولة السودانية ومصالحها.
الأحزاب السياسية السودانية وعلى رأسها حزب الامة والحزب الشيوعي والأحزاب البعثية بدلا من التعامل الواقعي مع ملف التطبيع والنظر اليه بعيون المصلحة الوطنية المباشرة ، نظرت الى التطبيع بمنظار آيدولوجياتها وانخرطت في بكائيات على القضية الفلسطينية، وسرديات أخلاقية عن الصهيونية وجرائم إسرائيل، واستدعت كل ما في ذاكرتها من رصيد العنتريات التي ما قتلت ذبابة. ونسيت هذه الأحزاب ان واجبها الاخلاقي الاول الذي يعلو على ما سواه هو إنقاذ شعبها من الفقر والقهر عبر إنجاح الانتقال والتحول الديمقراطي وطي صفحة الدكتاتورية التي ازهقت من ارواح السودانيين أضعاف ما ازهقته اسرائيل من ارواح الفلسطينيين!
وهم اللاءات الثلاثة!
رفعت القمة العربية المنعقدة في الخرطوم ابان الهزيمة في حرب 1967 لاءات ثلاث هي: لا اعتراف باسرائيل ولا تفاوض ولا سلام معها، معظم العرب وعلى رأسهم الفلسطينيون انفسهم غادروا محطة هذه اللاءات تحت إكراهات الواقع ومعادلات توازن القوى على الأرض، منظمة التحرير الفلسطينية اعترفت باسرائيل وفاوضتها في مدريد واوسلو ووقعت معها اتفاقيات بموجبها تحصلت على حكم ذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة، فما الذي يجعل العقل السياسي السوداني مرابطا حتى الان في هذه المحطة؟ وما الذي يستطيع السودان تقديمه للقضية الفلسطينية وهو عاجز عن حل قضيته الوطنية؟ من الناحية الموضوعية ما هي مؤهلات الدولة السودانية في ظرفها الراهن حتى تتصدى لأدوار قيادية ومواقف متشددة في قضايا تحرر وطني خارج حدودها؟
هناك ظاهرة محيرة في السياسة السودانية تحتاج الى بحث لاستكشاف أسبابها ومعالجتها في سياق عقلنة العمل السياسي، وهي ذلك النزوع الى تحميل السودان أعباء ثقيلة في قضايا عربية واسلامية وعالمية على حساب مصالحه المباشرة مع تجاهل تام لواقع التخلف والهشاشة الذي يكبل البلاد، ابتداء من الموقف التهريجي ضد المعونة الأمريكية في الستينات وصولا الى أمريكا روسيا دنا عذابها في التسعينات وهوس اللاءات الثلاثة والموقف المتشدد من التطبيع الذي تجاهل فيه المدنيون معطيات الواقع وعلى رأسها قدرة اسرائيل على تخريب الانتقال المدني الديمقراطي عبر تقوية العسكر، وان إسرائيل كيان مدجج بعصارة معارف العصر الحديث وبنفوذ كبير في مواقع صنع القرار العالمي وبقدرات نوعية في اختراق الدول والتسلل الى أخطر المواقع فيها سرا وعلانية، وتأسيسا على ذلك يكون الافضل لمصلحة السودان إدارة العلاقة مع اسرائيل مباشرة عبر وزارة الخارجية في سياق رؤية وطنية لحماية الامن القومي السوداني.
*نقلا عن صحيفة التغيير

 

آراء