السودان والواقع المؤسف بعد الانفصال
• المؤتمر والحركة يتآمران علي بعضهما البعض والشواهد علي ذلك كثيرة
• الشريكان أضاعا وحدة السودان ويعملان علي إضاعة السلام وإعادة الحرب
نتابع بأسي شديد ما تتناقله وسائل الإعلام والصحافة المحلية والخارجية من أخبار مؤسفة لتوتر العلاقات بين شريكي نيفاشا المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وهو توتر لم يكن له ما يبرره سوي لا مبالاة كثيرين من منسوبي الحزبين الشريكين، ووقوف الآخرين مكتوفي الأيدي، وهو استمرار للسياسة التي ظلان ينتهجانها منذ أن بدأت عملية السلام وحتى يومنا هذا، وهي السياسة غير المسؤولة التي كان الانفصال واحداً من افرازاتها السامة، وهو أسوأ وأخطر ما أصيب به السودان منذ تكوينه، ولا أحسب أن بلدنا يمكن أن يتعرض لداء أشد فتكاً من هذا الداء الذي أصابنا بلا مبالاة هذين الحزبين اللذين صار مصيرنا بأيديهما.
لقد كنت مثل كثيرين من أهل السودان سعيداً بما توصلت إليه الحكومة والحركة الشعبية من اتفاق للسلام بعد مفاوضات ماراثونية امتدت لعدة سنوات كان آخرها جولة نيفاشا التي أخذت عاماً كاملاً تقريباً قاد مفاوضاتها النائب الأول لرئيس الجمهورية آنذاك الأستاذ علي عثمان محمد طه، ورئيس الحركة وقائدها الراحل الدكتور جون قرنق دي مبيور. وكنت مثل عموم أهل السودان مرحباً بحق تقرير المصير لجنوب السودان الذي أقرته الاتفاقية، ولقد رحبنا جميعاً بهذا الحق لأنه أصبح شبه مجمعاً عليه من كل القوي السياسية وغير السياسية السودانية، ولأنه كذلك حق مشروع لشعب ظل يحارب نصف قرن من الزمان من أجل حقوق يري أنها مهضومة، ثم قبلناه ورحبنا به لأننا وجدناه فرصة طيبة لإعادة بناء السودان وتأكيد وحدته الحتمية طوعاً، بما يغلق كل الأبواب أمام المساومين بقضايا التهميش وضياع الحقوق وغيرها من الشعارات التي كنا نراها وهمية.
ولم يكن توقعنا للوحدة مجرد أحلام، ولكن كل الدلائل كانت تشير إلي ذلك وتقود إليه، وكنا نري أن الجنوبيين يكفيهم أن يحققوا ذاتهم من خلال الحقوق التي أتاحتها لهم الاتفاقية، ومن خلال تمكينهم من حكم أرضهم والسيطرة علي مواردهم وقرارهم، وفق حكم أقرب إلي الاستقلال في إطار الوطن الواحد، دون أن تكون هناك أية سيطرة أو وصاية عليهم من الشمال، ولا من الحكومة الاتحادية. وتوقعنا كذلك أن تكون الحكومة وحزبها المؤتمر الوطني أحرص من غيرهما علي الحفاظ علي أكبر كسب حققاه، وهو السلام الذي أنجزاه في الوقت الذي عجز عن تحقيقه كل السابقين من الحاكمين، فلذلك كان العشم في الحكومة والمؤتمر الوطني وكل أهل الشمال أن يكونوا أكثر عطاء وسعة من أجل أن يقود تقرير المصير إلي تأكيد وحدة السودان. ثم أن مصلحة الجنوب والشمال التي يحققها بقاء هذا الوطن واحداً موحداً ليستفيد من إمكاناته الطبيعية والبشرية المتكاملة، كنا نتوقع ذلك أن يجعل أهل السودان في الشمال والجنوب حاكمين ومحكومين يعملون بجد وإخلاص من أجل تأكيد وحدة السودان بالإستفتاء.
وللأسف الشديد فإن أهل السودان جميعاً عملوا ضد وحدة السودان، ويستوي في ذلك الشريكان، والقوي السياسية الأخري في الشمال والجنوب، وبعض الشعب من غير الموالين لهؤلاء أو أولئك، وغير المشتغلين بالسياسة كذلك. ولا يهمنا في هذا المقام موقف الاخرين من غير شركاء السلام والحكم، المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، ذلك أن الآخرين أدوارهم ثانوية رغم آثارها الضارة، وهم في كثير من الأحيان كانوا أدوات يستخدمها الشريكان في تصفية حساباتهما.
ولقد ظهر منذ الأيام الأولي للفترة الانتقالية أن حزبي الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني لم يوحدا مواقفهما الداخلية من الشراكة، ذلك برغم أن قيادة الحزبين ممثلة في الرئيس البشير ونائبه علي عثمان محمد طه ومساعده نافع علي نافع، وقائد الحركة الراحل جون قرنق، وخلفه من بعد القائد سلفاكير ونائبة رياك مشار، كانوا جميعاً علي قناعة باستمرار الشراكة والتعاون الإيجابي، ولكن نأخذ عليهم جميعاً أنهم لم يكونوا حاسمين للإنفلاتات التي ظلت تقع دوماً، وفي بعض الأحيان يدخل بعضهم طرفاً في المناكفات التي تقع بين الشريكين، وكان هذا من أسباب التوترات العديدة التي وقعت خلال الفترة الانتقالية، وأوشكت في مرات كثيرة أن تنسف الشراكة وتعيد الحرب مرة ثانية، ولعل الموقف الأشهر في ذلك إنسحاب وزراء الحركة الشعبية وتجميد عضويتهما في الحكومة الاتحادية.
والاتهامات الأخيرة التي يتبادلها الشريكان بأن كل منهما يعمل ضد الآخرين ويدعم معارضين عسكريين له، فقد لا نجد لها أدلة ثابتة، ولكن المؤكد أن هناك شواهد عديدة تؤكد مثل هذه الأعمال التآمرية المتبادلة، ونبدأ بالذي هو أبعد الحركة الشعبية، فيكفي أنها ظلت تجمع الأحزاب المعارضة الشمالية، وتستضيفها، وتنسق معها المواقف ضد شريكها المؤتمر الوطني، ويكفي علي ذلك دليلاً أن الكيان المعارض للحكومة والحزب الوطني اسمه (تحالف جوبا) هذا فضلاً عن استضافتها بعد ذلك للفصائل الدارفورية المقاتلة للحكومة، ثم احتوائها للقائد الدارفوري مني أركو مناوي بعد انسلاخه من الحكومة، وظلت الحركة الشعبية تشارك في كل الوقفات الاحتجاجية المناهضة للحكومة التي هي شريك فيها، وظل بعض قادتها أمثال أمينها العام باقان أموم ونائبه في قطاع الشمال ياسر عرمان، والقيادي ادوارد لينو، فهؤلاء القياديون ظلوا علي الدوام علي مواقف معارضة للحكومة.
أما علي مستوي المؤتمر الوطني فيكفي أن من داخله نشأ منبر السلام العادل الذي يقود الحملة ضد الجنوب، وضد الحركة الشعبية الشريك في الحكم مع المؤتمر الوطني، الذي مهما ادعوا أنهم قد خرجوا منه، فإنهم يصعب فصلهم عنه، ثم أن مركز الأنباء الموالي للحكومة ظل علي الدوام ينقل ما يسميه فضائح وفظائع الحركة الشعبية وحكومة الجنوب. وظل المنشقون السياسيون من الحركة الشعبية وعلي رأسهم الدكتور لام أكول رئيس الحركة الشعبية للتغيير الديمقراطي، ظل هؤلاء يجدون دعماً غير منقطع من الحكومة وحزب المؤتمر الوطني وآلياتهما، ولقد أصبح هؤلاء مشاركين دائمين في منابر المؤتمر الوطني والحكومة الناقدة للحركة الشعبية وحكومة الجنوب، والمعارضة لهما.
ورغم كل ذلك لم تتدخل الرئاسة هنا وهناك لوقف هذه الألاعيب الضارة، بل ظل هؤلاء صامتين وكأن الأمر لا يهمهم، وبدلاً من أن يتم حوار بين الطرفين عبر الآليات المؤسسة لذلك، فإنهم باتوا يلجأوون للإعلام للرد علي تلك الاتهامات المتبادلة. وهناك قضايا تحتاج إلي ردود واضحة، ومواقف محددة، ومع ذلك تظل القيادات صامتة، وليس أظهر من ذلك من الخلاف حول حسابات البترول المختلف عليها، وأستغرب في ذلك الصمت الرهيب علي ما تطالب به حكومة الجنوب من استحقاقات نفطية تبلغ مليار وأربعمائة مليون دولار تقول أنها حقها في البترول المنتج في أراضيها في الفترة من التاسع من يناير عام 2005م وحتى الثلاين من سبتمبر نفس العام 2005م، وشكل رئيس الحركة لجنة لذلك برئاسة وزير الدولة برئاسة الجمهورية، وضمت في عضويتها الخماسية اثنين ونصف من الشماليين، ورغم مرور أكثر من ثلاثة شهور علي تكوينها، فإن وزارة المالية لم تجلس معها حتى الآن للمحاسبة. فها هذا وضع طبيعي، ولا يستق مع روح الشراكة.
ثم أن إصرار المجلس الوطني علي إسقاط عضوية النواب الجنوبيين رغم الموقف المسبق للرئيس البشير الذي يختلف عن ذلك، ورغم أن الإجراء ليس له ما يبرره، وهو يفتح باباً أمام نزاعات غير مطلوبة، هذا الموقف يؤكد أن الذين يقفون وراء هذا القرار إنما يريدون إشعال معركة مع الحركة الشعبية، لا أجد لها مبرراً إلا أن يكون هناك شيء في نفس (يعقوب) ولا أدري من هو (يعقوب) الذي الذي يوجد شيء في نفسه، ولا ندري كذلك (الشيء) الذي في نفسه.
إن نقل الخلاف بين الشريكين إلي الإعلام وتعليق الحوار بين الشريكين أمر خطير، ويمكن أن يقود إلي ما لا يحمد عقباه، وقصة أن الحرب لن تعود مرة ثانية بين الشريكين، لم يعد قولاً مقبولاً في ظل هذا التصعيد غير المبرر، وعدم التحرك الإيجابي لمحاصرته، ونخشي أن نقع في ما وقعنا فيه من قبل عندما قلنا أن الجنوب لن ينفصل، إلي أن انفصل، فنخشي أن نعيش علي وهم أن الحرب لن تعود، إلي أن نري القذائف تنطلق مرة ثانية بين الشمال والجنوب، ونكون مثل البصيرة أم حمد التي أضاعت الثور والبرمة، فنضيع الوحدة والسلام.
Gamal Angara [gamalangara@hotmail.com]